ادب وفن

الدراما العربية وغياب الحس الثقافي / علي حسن الفواز

يبدو أن الدراما العربية  في رمضان خاصة  أخذت منحى الفرجة الكاملة، ومحاولة الترويح عن الهموم الصغيرة بدلا من أن تستثمر هذا الوقت الذهبي، كما تسميه الأدبيات التلفزيونية، لتضع مسؤولية الرسالة الثقافية في السياق الإشهاري لمضمونها العمومي، والتصدّي للكثير من التحديات التي تواجه الإنسان والمجتمع والهوية والدولة.
من الصعب مشاهدة كل المسلسلات التي عرضتها الفضائيات العربية، التي دخلت منافسة المشاهدة من خلال الإثارة، لكن ثمة حاجة للتعرّف على بعض مظاهر الخريطة الدرامية، وعلى مقاربة مجالاتها الإنتاجية، وآلية عرض بضاعتها الدرامية عبر النجم التلفزيوني، أو عبر العناوين الفاقعة، أو عبر الإنتاج الضخم، وأحسب أن جلّ ما تبدّى عبر عديد هذه المسلسلات التي شاهدناها هو الهروب إلى نص الإثارة والمتعة الحسية، وبعيدا عن هموم الناس- باستثناءات قليلة- ومقاربة المشكلات العامة ذات البعد السياسي والصراع الطائفي ومرارة العيش والفقر والتهجير والحروب والعنف ومظاهر القتل العشوائي.
فصورة النجم الدرامي فقدت الكثير من بريقها في هذا الموسم ولم تقدم لنا جديدا، ولعل مسلسل "أستاذ ورئيس قسم" لعادل إمام يؤكد شيوع فقدان هذه الصورة النمطية، فضلا عن ضعف وهشاشة المادة الدرامية التي عالج فيها المؤلف والمخرج موضوع الثورة، بل أن الدور بدا وكأنه مصمَم على شخصية عادل إمام، مع مفارقات لم تعد مثيرة في سياق تطور الأحداث الدرامية! وكذلك نجومية هيفاء وهبي في مسلسل "مريم" لم تشفع لها في تقديم ما هو جديد، بل أنها كرست فكرة صورتها الاستعراضية عبر تضخيم ثقافوية الفرجة والإيروتيك، حدّ أنها صارت صورتها النمطية اللصيقة، بأي عمل تقدمه، رغم وجود النجم خالد النبوي في هذا العمل..
كما أن النجمة مي عز الدين في مسلسل "حالة عشق" أعادت لنا إنتاج صورة مشوهة لسعاد حسني في فيلم "بئر الحرمان"، مع إضافات لم تغن المسلسل وأحداثه. كما أن ظهور نجوم مثل أحمد السقا ومصطفى شعبان وشريف منير وكريم عبد العزيز وآسر ياسين وأمير كرارة وغادة عبد الرازق ونيللي كريم وسمية الخشاب وغادة عادل وفيفي عبده ولوسي والمطربة شيرين والممثل السوري باسل خياط وغيرهم في عديد المسلسلات لم يبعث بـ "رسالة اطمئنان" نحو صناعة فاعلة وجادة للدراما العربية، وضرورتها في خلق رأي عام ثقافي لمواجهة الخراب الذي تعيشه الأمة، ويواجه مكارهه الإنسان العربي جرّاء مظاهر العنف والإرهاب والتهجير والاستبداد والهشاشة الثقافية..
يبدو أن الإنتاجيات الضخمة لعدد من المسلسلات، لاسيما "ألف ليلة وليلة" و"العهد" وضعت الرهان على تقديم صورة مبهرة أكثر من الاهتمام بتقديم صورة تتبدى فيها أحزاننا العربية، ومظاهر التحولات الكبرى التي حدثت في مرحلة ما بعد عاصفة الربيع العربي، فباستثناء المسلسل السوري "بانتظار الياسمين" ومسلسل "الصعلوك" لخالد الصاوي، ومسلسل "ذهاب وعودة" الذي يعالج مشكلة تجارة الأعضاء في بعدها الدولي، رغم التعمّد في إبراز صورة الجهات المخابراتية المصرية وتضخيم دورها، فإن أغلب الأعمال الدرامية الأخرى، ظلت تراوح في اجترار أفكار مستهلكة، حيث عوالم الحارة وشخصياتها النمطية ومشاكلهم التي يعرفها الجميع، فضلا عن عوالم العصابات والتهريب والخطف والجريمة والجنس والعلاقات العائلية المشوهة، وما يقابلها من معالجات بسيطة وساذجة، التي حتما ستنتهي بانتصار فكرة الخير على الشر، وحتى مسلسل "باب الحارة" في نسخته السابعة لم يقدم لنا جديدا، بل كان فقيرا في التعاطي مع تحولات حقيقية عاشتها الحارة الشامية في ظروف تاريخية معروفة، وفي إضافة ملمح أسلوبي وإخراجي جديد، بل عمد إلى تضخيم شخصيات الحارة وتلصيق بعض أحداثها لتبدو أكثر إثارة وقبولا عند مشاهد حرص على متابعة نسخها الست..
ومسلسل "حارة اليهود" بطولة منّه شلبي أوقع نفسه في خلط ثقافي وتاريخي، انعكس على مقاربته الدرامية لمرحلة مهمة من التاريخ المصري، وعلى تقديم الشخصيات وطبيعة صراعها في المجتمع، وحتى الدراما العراقية كرست النظرة السوداوية للصراع الاجتماعي، وبدا مسلسل "وادي السلام" لكاتبه الروائي أحمد سعداوي الحاصل على جائزة البوكر للعام الماضي مهووسا بتقديم هذه الأفكار، عبر شخصياته المأزومة، وعبر معالجته السياق الدرامي في المسلسل، وكأن عوالم مقبرة وادي السلام في النجف باتت معادلا رمزيا لما يحدث في العراق من صراعات واغترابات وجودية ونفسية عميقة الأثر..
ولعل ما يميز هذه الدورة الرمضانية الطريقة المثيرة لعرض بعض المسلسلات الخليجية، ومحاولة وضعها في سياق المنافسة الدرامية، باتجاه تجاوز ما هو تقليدي، وعزل الصورة النمطية العالقة بالاستعراضات الفخمة للبيوتات والمولات والشركات والشخصيات، والإيهام بمناقشة قضايا عميقة تهم المواطن العربي والخليجي، ومن أبرزها مسلسل "سيلفي" للمخرج العراقي أوس الشرقي، إذ حاول أن يقدم رسائل مغلّفة بقناع نقدي مباشر، لاسيما في الحلقات التي توجّه نقدا للعديد من المؤسسات، وكذلك الحلقات التي تكشف وتعرّي خفايا الجماعات الإرهابية، ومعالجتها بنوع من الكوميديا الساخرة، لكن الإنتاج الضخم لمثل هذا المسلسل يكشف عن دوافع إعلامية واضحة تقف وراءه! فضلا عن المسلسل الخليجي الآخر "ذاكرة من ورق"، الذي حاول أن يقدم إيقاعا دراميا جديدا في أسلوبه الإخراجي، وفي تقديم معالجة جريئة لقضايا تلامس هموم الأجيال الجديدة في مجتمعات الخليج العربي..
غابت عن مظاهر الموسم التلفزيوني ما يمكن تسميته بـ "الدراما العائلية" التي ارتبطت باسم المؤلف جلال عبد القوي، والدراما "السسيوثقافية" التي ارتبطت بالراحل الكبير أسامة أنور عكاشة، وبإخراج الكبيرين إسماعيل عبد الحافظ ومحمد فاضل..
ومما يميز هذه "الدراميات" بروز المشاركة العربية الواسعة للممثلين العرب في أكثر من مسلسل، حتى ضاعت الهوية "القطرية" الخالصة لهذه المسلسلات، ويبدو أن في هذا الموضوع شرطا إنتاجيا أكثر من كونه خيارا للمخرجين، وبقدر ما تشكّل هذه الظاهرة تحولا مهما في الإنتاج الدرامي العربي المشترك، إلاّ إنها تحمل معها أيضا نزوعا استعراضيا، لاسيما عبر استقطاب "الممثلات والممثلين في سوريا ولبنان والعراق" خاصة بعد أن شكلّت الدراما السورية خلال السنوات الأخيرة ظاهرة فنية لافتة وفاعلة، وتجاوزت في بعض مواسمها الدراما المصرية ذات التقاليد العريقة.. كما أن إناطة إخراج أغلب هذه المسلسلات بمخرجين شباب شكّل أيضا علامة فارقة في هذا الموسم، لكنه انعكس على طبيعة المعالجة الفنية، وعلى صياغة الرسالة الثقافية في الدراما التلفزيونية، لاسيما عبر هيمنة عنصر المفارقة والإثارة وكثرة مشاهد "الأكشن" أو مظاهر التضخيم الصوري بوجود تقنيات الكاميرا الحديثة، وتأمين الوفرة الإنتاجية التي تقف وراءها.