ادب وفن

« تَثْمِيَتْ» الانحراف الجنسي وترميزه في رواية «تداخل الحواس» اياد خضير / خليل مزهر الغالبي

جاؤوا بالمجرمين ووضعوهم أمام أنظار الناس، إنبهر الجميع إنبهاراً شديداً عندما شاهدوا محسن عبد اللطيف ومعه ابنه سمير، واقفين، شامخاً بلا عكازه، إنه كل يوم يجلس معهم في المقهى، كل يوم يتناول الغذاء في المطعم والجميع يعطف عليه، لأنه لا يستطيع السير وإن صحته متدهورة، ضربوا أخماساً بأسداس منتظرين تنفيذ حكم الاعدام، بعد قراءة مراسيم الاعدام مع آية من الذكر الحكيم، وضعوا الحبال على اعناقهم وغطوا رؤوسهم بالأكياس السوداء ونفذوا الحكم، ظلت أجسادهم تتأرجح مع استياء بعض الناس وفرح البعض منهم... بعد يومين من إعدامهم شاهد الناس جثة مرمية على جانب الطريق لامرأة كانوا يعرفونها سيئة الاخلاق ...ظل الخوف معشعشاً في قلوب اهل المدينة؟!
هذه خاتمة رواية تداخل الحواس للروائي  إياد خضير وهي خاتمة مفتوحة على الكثير من التساؤلات المخيفة من بقاء عمليات القتل مع تنفيذ اعدام المتهمين بها ، وهو قتل لأولئك المنحرفين جنسيا من كلا الجنسين.
وقد ثَيَمَتْ الرواية ظاهرة الانحراف الجنسي، كمرموز دال على الفساد الملازم للكثير من مفاصل الحياة الاجتماعية، لتكون عمليات القتل مقاربة معادلة لذلك القضاء الشعبي الرادع له.
فمن الشخصية المحورية للزوج محسن عبد اللطيف الذي تسرع للاقتران بالزواج من هدية بنت حسنه هذه الزوجة التي انحرفت بعد تعرض زوجها لحادث ادى لعجزه الجنسي، ليقود الزوجة للإنفلات في تلبية شهوتها الجنسية مع رجال الشقة المجاورة لسكنها، ومن التساؤلات التي تظهر هنا وهناك على وضع الزوجة وهي الفتاة الشابة وحاجتها الجنسية كما في الذكر كيف يشبع رغباتها الجامحة ...الثائرة في جسدها وكيف يطفئ النار التي تتوهج في جسدها الطري؟
ومن حرص الروائي في صناعة تداخلات السرد وتشعباته وفق مفهوم السيموز في اعادة وتكرار وقائع الأحداث الجنسية، وبتتابع سردي لتمكين التدليل الأكثر إنضاجاً لحجة الخطاب الأدبي، هذه الوقائع الجنسية لها الاهمية الداعية في اعادة أحداثها، كما في مؤكد يقطين سعيد- عنها فالحدث أي حدث، ليس له فقط إمكانية أن ينتج ولكن أيضا أن يعاد انتاجه أي يتكرّر مرّة أو عدّة مرات في النص الواحد، هذا التكرار لحالات وقائع الجنس، ألزمها الروائي بشدة لتكريس معنى التدليل، السيموز، كما في ذكر سعيد بنكراد لها إن السميوز مطاردة للمعنى لا ترحم، فبقدر ما يتمنع المعنى ويتدلل ويزداد غنجه، بقدر ما تتشعب مسارات السميوز وتتعقد شبكتها وتكبر لذتها ويكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكا ويؤدي إلى انزلاقات دلالية لا حصر لها ولا عد  بتعبير أمبيرتو إيكو.
كان الزوج - محسن يرى أكبر مصدر تعاسته هو هذا الحب الجارف الذي اخذ يتسرب الى قلبه تجاه زوجته وهو في عز ريعان شبابه... عمره لا يتجاوز اثنتين وعشرين سنة إنه يحس بنوع من الشهوة العارمة تستعر في دمائه، لكن سرعان ما اخفق هذا الحب بعد الحادثة التي المت به حين اجريت له عملية جراحية في الخصيتين قتلت فحولته.
ومن زجر زوجته وكره اقترابه منها، وكما اتضح في هذا الحوار منذ الحادثة التي المت بك بدأت أشعر بالضجر، تبديل كبير طرأ على عواطفي ...  الجنس كان الرابط بيننا صح؟!  وفرّ لنفسك العناء ولا تتكلم ... الخ.
هذا السبب الذي أجج قوة أخذ الثأر من قبل الزوج، الذي عرف أيضاً ان له ابنا غير شرعي من زوجته ،ومن مجرى العلاقة المقرفة مع هذا الابن غير السوي، واشمئزازه منه، وهو الولد الذي يشتغل ببيع المشروبات الروحية خارج القانون وبيع حبوب الكبسلة كما تسمى، وبعمره الستة عشر عاما ورغبته بالزواج التي رفض ابوه الوقوف لجانبه، ومنها ذهابه لبيت عمه وعمته اللذين رفضاه كذلك ويخبراه ما عملته امه مع ابيه، اضافة لكشفهما مخفي سيرتها الفاقدة للشرف في ممارستها للبغاء، ليدرك بعدها سبب جفاء ابيه له وابتعاده، ليعمل على الاقتراب منه لحسه صاحب حق في ما هو عليه، هذا الكشف الخطر والمؤثر عند الابن سمير دفعه لقتل والدته وهذا ما أطفأ نار الثأر لدى ابيه، ليدفع الاب  محسن - لذاك النوع من التقارب الحنون المتعاطف بين الاب والابن غير الشرعي، ليضعه معه في كونيتهما السلبية التي صنعتها الاحداث التي لم يكونوا فيها سبباً.
وهذا ما سجلته لنا الرواية في ذكرها في هدأة الليل يكون تفكير محسن عبد اللطيف أكثر صفاء، قال وهو يتطلع من وراء زجاج النافذة: أين أنت يا ولدي؟ فأنا أحبك حباً لا يطاق عندما تصرفت بالطريقة الصحيحة وقتلت أمك، أنا لست أباك لكن ما ذنبك أنت، نحن متشابهان في التعاسة متشابهان في الوجع، لكن لا عليك سأكون لك نعم الاب واعوضك عن الحرمان.
ان تمحور موضوعة الفساد وربطها كترميز عابر لفساد الزوجة لظاهرة البغاء الحاصل في فساد الآخرين من الجنسين حتى ترميزه لدالة فساد مؤسسات الدولة، وهي الحالة العليا في ذلك الفساد لارتباطها بقدر وحياة المجتمع.
ومن حالات تكرار وقائع الجنس التي حصلت لمرات عديدة، كما في المشهد هذاعاد محسن عبد اللطيف الى الشقة في غير موعده،عندها شعر بدوار في رأسه، تفاجأ بمشاهدة زوجته وعشيق لها مستلقين على الفراش، ذهب مسرعاً الى المطبخ لجلب سكين ليمزقها، وبغتة أصيب بجلطة دماغية اسقطته ارضا، نقل على اثرها الى المستشفى وهو فاقد الوعي.
وكانت حوادث القتل ملازمة للقائمين بالانحراف الاخلاقي وبوتيرة متراتبة، كما في مدون السرد هذا في ليلة شتائية ممطرة، عاصفة قوية جدا وصوت الرعد يصم الأذان، انطفأ النور في البيت، قام أمجد سرحان بإيقاد الفانوس النفطي بعد ان عثر بعناء على شخاطة، جاء بالفانوس الى الصالة لم يجد صديقه نجيب عبد الرحمن بدأ يصرخ اين انت؟....نجيب وين صرت يمعود جاوبني؟، ظل يبحث عنه في الحمام في الغرف الأخرى، وهو مرتبك نظر الى الباب الخارجي وجده مفتوحاً، كان الليل حالك الظلمة، نظر الى عتبة البيت بفانوسه الكثير السخام، شاهد جثة نجيب عبد الرحمن تحيطها بركة من الدماء على عتبة البيت، دب الرعب في قلبه واخذ يركض في الشارع يبحث عن دورية الشرطة.
ومن استقرائنا لمجرى حوادث القتل وتبعيتها، لاحظنا قتل الاشخاص ذوي العلاقة مع تلك النساء وبما يعني مجيء دور رجال السلطة ومن علاقتهم المنحرفة كما في القتيلة الأخيرة، مما دفع بهم لعمل هذه الحراسات حماية لهم، ومما يؤكد على امتداد هذا السقوط الاخلاقي الى المنطقة الخطرة وهي المنطقة الحكومية، بمعناها الفساد الاداري العام الذي حرص الروائي على ترميز الانحراف الجنسي كدالة في البناء السردي لمضمون الرواية.
لقد امتثلت الرواية لمقبولية حميم التلقي، للمنتج الروائي الباحث والكاشف عن تفاصيل التاريخ الصعب للإنسان المواطن وأسبابه، وفق معيار القراءة المثقفة العابرة لسطح الكتابة، وكان عامل الوقع الدرامي حاضراً لتحضير القارئ المنسجم، ومن خاصية الأحداث وطابع إنفعالاتها السايكولوجية في إحتدام وتثوير التساؤلات المحاورة لسيرورة مابعد الاحداث، علماً ان التدوين والمحكي الروائي حرص على المقارنات البينية لتنوع الحدث من قبل الراوي والمتعلق بدالة السقوط الاخلاقي في معظمه الجنسي وعبوره لرموز الدولة.
ومن البناء السردي نلاحظ اجتهاد الروائي أياد خضير فــي استيعابه للنهج الواقعي المعاصر في الكتابة الروائية، وفق اسلوب لم يقفز خلف النهج الواقعي النقدي بمفهومه اللوكاتشي، بل ظهر من أتون هذا النهج وباحاطة اكثر سعة وإيضاحا لفضائه الخطابي. وبما في خاصة معتمد الرواية من احداث ملأت المشهد المناخ السردي بالدراما المحكية الشديدة الجذب للقارئ.