ادب وفن

الزمن بوصفه معياراً نقدياً في القصة القصيرة جداً / رسمي رحومي الهيتي

شأنها شأن الفنون السردية الأخرى، كالقصة القصيرة والرواية فأن الـ "ق 0 ق 0 جداً" تتوفر هي أيضاً على ذات العناصر المشكلة والمكونة للرواية والقصة القصيرة مثل "الشخصيات، المكان، الزمان، الأحداث، الفكرة" ولكن: في الرواية تتعدد الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة، في القصة القصيرة عدد الشخصيات قليل والأمكنة التي تشكل القصة القصيرة تكون أيضاً قليلة كذلك هو الحال بالنسبة للأزمنة.. الأحداث في الرواية كثيرة وعديدة ومتشعبة، أما في القصة القصيرة فتكون الأحداث التي تسهم في بنائها أقل منه في الرواية.
الزمن "وهو مجال بحثنا" فأنه في القصة القصيرة أقل مما هو عليه في الرواية التي قد يستغرق بناؤها "موضوعياً" سنوات عديدة ولربما أجيالا.
هنا نقصد بالزمن الموضوعي الفترة الزمنية المحصورة بين بداية القصة أو الرواية ونهايتها. فعلى سبيل المثال أذا كانت القصة أو الرواية تحكي عن حمل، ثم ولادة فارضاع ثم تتسلسل الأحداث حتى وصول الطفل الى المدرسة، فهذا يعني أن الزمن الموضوعي هو سبع سنوات!، أما زمن السرد لهذه السنوات السبع فأنه سيشكل "كتابة" بضعة آلاف من الكلمات هذا بالنسبة للقصة القصيرة، أما أذا كتبناها رواية فستكون بحدود مئة ألف الى مئتي ألف كلمة "وربما أكثر". ودائماً هناك علاقة منطقية بين الزمن الموضوعي والزمن السردي، وهذه العلاقة تضيق وتتسع، بحسب تعدد الأحداث، والرؤية الفنية التي يتعامل بها كاتب النص.
وكأجراء تطبيقي أقدم هنا نصاً للقاص الفرنسي "فيلكس فيفون":..."وطد الخادم فيلو علاقته بامرأة لطيفة في بيت سيده الغائب في نولي سبور ثم أختفى فجأة حاملاً كل شيء عداها ".
هذا النص أورده الناقد عبد علي حسن ليقوم بعد ذلك بتحليله ضمن تطبيق أجرائي وهو يتحدث عن بنائية القصة القصيرة جداً، حيث يقول الناقد "النص المترجم يتكون من عشرين كلمة وهو قصة قصيرة جداً تتضمن من أركان القص الشخصيات والمكان والحدث، الا أنه نص مكثف وموجز جداً، مع قدرته على حيازة اشتراطات القص القصير جداً". ثم يذهب الناقد وهو يحلل هذه القصة القصيرة جداً فيشير الى الانتقال الوظيفي الى النص من الوظيفة المرجعية الى الوظيفة الشعرية.
الناقد عبد علي حسن وهو يشير الى أركان القص التي تضمنته القصة التي أوردها وهي ( "شخصيات، مكان، حدث".. لم يشر الى عنصر الزمن في تلك القصة، الذي هو محور دراستنا، كيف؟.. سنرى ذلك بعد أن نعرج على تعريف الزمن.. يقول ريتشارد غيل"جاءت أول محاولة جادة لتحليل مفهوم الزمن في كتاب "الطبيعة" لـ أرسطو أذ يقول فيه: ضمن أي معنى يمكن القول ان الزمن موجود"؟ وهو يرى ان الجواهر الفردية التي لا تعدو ان تكون مركبات من شكل ومادة، وهي الوحيدة التي يمكن القول انها موجودة بمعنى لا يمكن قياسه، وان كل شيء آخر يمكن عزوه الى تلك الجواهر ويعرف الزمن بأنه "عدد الحركات الحاصلة"، "قبل "و" بعد "وان الحركة هي صفة الجوهر والزمن بالمقابل، هو صفة الحركة، لكن ينبغي القول ان الزمن مختلف عن الحركة، بل انه عدد الحركات أو مقياسها... ولهذا السبب لا يعد الزمن كياناً جوهرياً قادراً على الوجود بشكل منفصل عن الأشياء الأخرى "...
وكما أسلفنا في تعريف الزمن بأنه عدد الحركات الحاصلة "قبل" أو "بعد" أذن في القصة المذكورة كان الزمن طويلاً لوجود كلمة "وطد" في اول النص حيث ان توطيد العلاقة بين الخادم وزوجة سيده تستغرق أشهراً عديدة، بالاضافة الى ان ذلك السيد لم يترك زوجته لوحدها مع الخادم ويغادر الدار الا بعد ان أستوثق منه أي بمعنى آخر هنالك أيضاً توطيد للعلاقة بين السيد والخادم.
هنا نرى أن الزمن "الموضوعي" أي الزمن الذي اكتملت فيه حكاية القصة هو شهور عدة وربما سنوات في حين ان زمن القص، أي الزمن السردي لم يتعد عشرين كلمة!، وهذا ما يجعلنا نتساءل، الا يمكن تحويل هذه القصة القصيرة جداً الى قصة قصيرة أو رواية؟ أي بمعنى أن هنالك امكانية للاستفادة من "الزمن الموضوعي" واشباعه بالأحداث والشخصيات والأفعال والصراعات مع تعدد الأمكنة، لتصبح بعد ذلك قصة قصيرة، وهنا تكمن دواعي هذه الدراسة أو الرؤية النقدية "ان صحت"، وهي اعتماد الزمن معياراً نقدياً.
وتأسيساً على ما اوردناه فأن كل قصة قصيرة جداً بالامكان تحويلها الى قصة قصيرة أو رواية فأن في ذلك خللاً في بنيتها واشتراطاتها.
تطبيق أجرائي:
في ما يلي قصة قصيرة جداً لأحد كتابها المهمين في العراق وهو المبدع حنون مجيد والتي وردت ضمن مجموعته الموسومة "وردة لهذا الفطور" وعنوان القصة.. حكمة:
يمشي محدودب الظهر، عاثر الخطى، يكاد يسقط كل مرة على وجهه أو على أحد جانبيه. وعجبت أن ينحني جسد هذا الوتد القصير الذي كانت الأرض تهتز تحت قدميه. لقد جمعني واياه خصام كاد ينتهي بعراك. ولولا حكمة نهضت في رأسي في اللحظة المناسبة لدخلت معه هذه التجربة التي كنت كلما رزتها وجدتها في غير صالحي. الآن.. أقف منتصب القامة. مشدود الجسد، ثابت الخطى، أتأمل الرجل، أتابع بنظر عطوف خطواته المضطربة وجسده المهزوز.. أشفق عليه، لكنني أقول في تداع عميق: أذن كم كنت حكيماً، يا صديقي، أذ تركتك لمثل هذا اليوم؟
القصة القصيرة جداً والتي أسماها كاتبها حنون مجيد "حكمة"، تتكون من تسعين كلمة. وهنا أود الاشارة الى ان زمن حكاية القصة "الزمن الموضوعي" استغرق عشرات السنين!، أذن أليس بالإمكان تحويل هذه الـ "ق 0 ق 0 جداً" الى قصة قصيرة ولربما الى رواية؟ أي بمعنى ان الفكرة العامة والتي هي محور القصة تحتمل تحويلها الى قصة او رواية، لا سيما وان كاتبها قاص وروائيً! فبين رجل جسده يشبه الوتد القصير وتهتز الأرض تحت قدميه، ومن ثم يتحول الى رجل يمشي محدودب الظهر "كما ورد في القصة" بين هاتين الحالتين يشخص زمن طويل ليس بأقل من عشرين سنة أو أكثر.
تقول الكاتبة آيات يوسف صالح:"من الأفضل عدم استعمال الاسترجاع أي ومضات الماضي "فلاش باك" وينبغي أداء المعلومات الضرورية حواراً وبمهارة وليس ثمة متسع لتزويقها بأحداث ماضية لذا من الأفضل انتقاء المادة التي لا تتطلب فهماً واسعاً للماضي". مفهوم الزمن الدرامي..." لقد كان الاهتمام بالزمن مع أولى الحضارات الانسانية كالبابلية والفرعونية والسومرية والأكدية واليونانية والعربية والاسلامية، ولكن مهما يبلغ الأنسان من تطور فلا بد ان يظل الصراع مستمراً بين زمن تاريخي وزمن لا عنائي يسمى بالخلود، أو على الأقل نوع من الانبعاث المتجدد حتى يبلغ الانسان مرحلة يحسب الموت فيها جزءاً ضرورياً للحياة. وفي الأدب الأوربي الحديث، وعلى وجه التقريب في العقد الثاني من هذا القرن كان هناك تصور وادراك لأثر الزمن في الأدب، فكتب مارسيل بروست روايته "البحث عن الزمن المفقود" حيث جعل الزمن بطلها أو شخصيتها الأولى ليدلل على ان الزمن هو أقوى الأمور كلها فعلاً في حياة الأنسان ولم يعد مفهوم الزمن في الأدب كما في الدراسات النقدية القديمة يقف في أحد الاعتبارين امام حقيقة واقعية خارجية، واما هو فحقيقة ذاتية يتضاءل وجودها الخارجي المستقل وانما هو نسيج  كما يقول الدكتور مالك المطلبي  ولا يمكن سلخ النسيج عن ثوبه أو نزع هيأة الثوب من نسيجها وهو كمثل ورقة سوسير:" لها وجه وظهر لا يمكن تمزيق وجه الورقة دون تمزيق ظهرها ان الزمن لا ينتزع لأنه اذا اريد انتزاعه انتزع كل ما حوله انه زمن منبث: تغيرات تتوالد وهي في طريقها الى علاقتها"
يقول الناقد لرواية "ذاكرة الجسد" صالح مفقودة. " فالأديب مهما تصرف في الزمن فهو لا يتعارض مع فرضية ان أساس الرواية قصة، والقصة حوادث مسردة ومرتبة وفق تسلسل زمني "كما أسلفنا0ومن هنا طرحت العلاقة بين زمن الحكاية والمقصود به الحكاية التخيلية كما يفترض انها وقعت فعلاً، وزمن السرد وهو الزمن الروائي نفسه ويشير الناقد مفقودة.." الى زمنين، الزمن الطبيعي والزمن السردي".. ويطلق البعض على الزمن الطبيعي، الزمن الموضوعي.
كذلك فأن القصة القصيرة جداً لا تحتمل في بنيتها السردية ما يسمى بـ "الاستباق"، وهو عملية سردية تتمثل بالإتيان بحدث أو أكثر، وهو عملية معاكسة للاسترجاع، وان انتفاء الحاجة للاسترجاع والاستباق في بنية القصة القصيرة جداً، يأتي في اطار ضرورة التكثيف والاختزال في هذا الجنس، وبالأحرى أن يكون ايقاع السرد سريعاً، وهذا يعني ايقاع الزمن الذي يحتوي القصة أولاً وتحتويه القصة ثانياً!
الزمن : بين ابن سينا والطريطر
لقد استطاع ابن سينا استيعاب مفهوم الزمن الأرسطي من حيث انه "مقدار الحركة من جهة المتقدم والمتأخر" ثم تطويره الى درجة انه لم يعد الزمن مجرد مقدار للحركة بل هو "امكان ذو مقدار يطابق الحركة" ومن هذا التطابق بين الحركة والزمن، تمكن ابن سينا من اثبات أتصال الزمن لأن "كل ما طابق الحركات فهو متصل، ومقتضى الاتصال متجدد".
أما د0 حميد الطريطر فأنه يقول..."يوجد عنصران من الزمن في كل قصة يتممان الصياغة الكاملة للقصة بخصائصهما المميزة لأحدهما عن الآخر وهما:
1- الزمن الخارجي للقصة: ان من خصائص الزمن الطبيعي الموضوعي انه يقاس بجهاز قياس الزمن وهو ثابت على وتيرة واحدة ، ومعدل معروف لا يتغير، فهو يتقدم في خط مباشر وبنظام ثابت من الماضي الى الحاضر الى المستقبل. ومعنى هذا انه زمن غير ارتدادي لا يمكن ان يتراجع الى الوراء.
2- الزمن الباطني أو الداخلي للقصة: أما خصائص الزمن الداخلي للقصة، فأنه يختلف في الغاية عن الزمن الطبيعي الموضوعي، اذ انه يتميز بكونه نفسياً ذاتياً، يمكن أن يتسع ويتقلص حسب معطيات القصة وقد يكون متتابعاً متواصلاً، كما يمكن ان لا يكون كذلك ويبدو واضحاً في قصة اهل الكهف. على ان لا يشترط في هذا الزمن ان يكون له تقسيم الزمن الموضوعي نفسه وهو الماضي، والحاضر، والمستقبل"..
اما الناقد زهير الجبوري في بحثه الموسوم "رؤيا السرد- مقاربات تنظيرية في الشخصية والزمان والمكان" فيقول.." هناك أزمنة داخلية وأخرى خارجية، وما يهمنا هو الأزمنة الداخلية وتتمثل في "زمن النص"، وهو الزمن الدلالي الخاص بالعالم التخيلي ويتعلق بالفترة التي تجري فيها أحداث الرواية، و"زمن الكتابـــــة" و"زمن القراءة".
وفي مكان آخر يشير الجبوري الى00 " والزمن في عالم السرد انواع مختلفة: الزمن المتواصل، والزمن المتصل وهو غير الزمن المتواصل، وذلك على اساس ان الأول "المتصل" لا يكون له انقطاع".. وهذا بالضبط ما يهمنا في موضوع الـ "ق 0 ق0 جداً" وعلاقته بالزمن ،حيث ان الزمن حين يكون متصلاً فأنه يمنح لهذا النوع من السرد هويته التجنيسية الخاصة، بمعنى أن الزمن المتصل هو ما يجب ان يكون عليه في القصة القصيرة جداً وليس الزمن المتعاقب أو الزمن المتقطع، المتشظي، أو الزمن الغائب الى غير ذلك من الأزمنة التي اشار اليها الناقد زهير الجبوري في بحثه المذكور.
وبحسب "جينات" الذي يشير الى أن العلاقة بين الزمن الروائي "داخل المبنى الحكائي" والمقاطع النصية التي تغطي هذه المدة بـ "سرعة النص" أي أن السرعة هذه هي النسبة بين زمن الحدث "ساعة، يوم، سنة" وطول النص "اسطر، مقاطع".