ادب وفن

مكان الطفولة والنشأة / جاسم عاصي

المنزل وخارجه
المعادل الموضوعي الذي حققته كتابة الشاعر هاشم شفيق "الشعر والمنازل.. المنزل الأول" في أنها قّدمت سيرة تروي علاقة الشاعر بالمكان. ومن خلال ما يحتويه المنزل "المكان" من تقاليد وطقوس وأعراف، كانت مجتمعة لتعكس مثل هذه الصوّر الفذة، التي هي بمثابة سيرة شاعر تروي حكاية المنزل وعلاقاته، المنزل وما كان يجري خارجه.
ويبدو واضحاً العلاقة بين داخل المنزل وخارجه. فالداخل هو الذي يُغذي الخارج بما ينتجه من مجموعة أعراف وتقاليد تفضي بمحتواها نحو الزقاق ثم إلى الشاعر، أو ما وصفناه خارج المنزل. أي أن المنزل ينتج نماذج مؤثرة في الخارج. أما خارج المنزل، فالحياة تحفل بالكثير من عوامل التأثير، منها الايجابية والأخرى السلبية. ولما كانت حيوات المنزل، تندمج بخارجه، فهذا يعني أنها أيضاً مؤثرة في بنية الخارج. وفي هذا تتحكم في نسبة التأثير، الطبيعة التي عليها الداخل. ويبدو أن سيرة الشاعر هنا لبت مثل هذه الظاهرة أي تأثير الطرف الداخل ع?ى الطرف الخارج من خلال النموذج الذي أندمج في الخارج. بينما كان وبحكم تركيبة البنية الذاتية لنموذج الداخل المطروح ضمن حراك الخارج، أكثر ايجابية، فقد أقام علاقات مع أقرانه أولاً وبمصادر المعرفة ثانياً.
لقد استطاع الكاتب أن يوازن بين رؤيتين، ويغذي الواحد من خصائص الأخر. لكن الغلبة في تركيز التأثير، كان في السيرة التي عليها الداخل، فهو يُسهب في تفاصيل ما كان يجري، وبدقة متناهية، وبروح شعرية خالصة، فالداخل لديه ذي قدسية اعتبارية، لأنه يشكّل تاريخا شخصياً، اكتسب من محتواه كل ما هو منّمٍ لذائقته، وخصائصه الذاتية. فهي مصادر أولى للمعرفة. ومن هذه الأعراف ما كانت تُقام داخل المنزل من فعاليات، هي جزء من تاريخه ومكوّنه الذاتي والموضوعي.
فالذاتي يعني خصائصه التي يمتلكها تاريخ المنزل، والموضوعي، بما يوحي للآخر كوّنه جزء من المنظومة التي عليها المكان، التي تعتمد على مبدأ الأخذ والعطاء بشكل متوازن "المنزل كان بسيطاً، متواضع البناء، ولكنه كان لنا، ملكنا. فهو في النهاية مأوى وملجأ يسترنا من رطوبة الغرف المستأجرة" وبهذا يتم الشعور بالطمأنينة المولدة للكثير من الصوّر التي عليها العلاقات. فالمأوى يعني الاستقرار والبدء بتشييد التاريخ للنماذج في المكان، بما يخلقه من بنيات لا يمكن التفريط بها، أو تحوّلها دونما مبرر أو مسوّغ. كما أن عبارة "في المنزل?هذا كبّرت مع أطفال الزقاق" بمعنى توفرت الصلة التي ساهمت في بناء شخصية الشاعر، وهو نوع من التجاوب بين الداخل وخارجه. وهذا ما أكدته السيرة هذه "في زقاق ضيّق، بيوته متلاصقة ومفتوحة للجيران والزيارات" وهذا يعني أن العلاقة بين أطراف المنازل، وداخل هذا المنزل قائمة على توائم وتحّاب. بمعنى أن تشييداً تم بين المجالين. وهذا يُعزى إلى فطرية العلاقة القائمة بين الناس أيام زمان دون أن تشوبها شائبة من تعقيدات العصر.
فالسيرة المقدمة هذه تعقد مقارنة خفية بين ما كان وما يكون الآن. ومركز هذه المفارقات هو المكان الذي بتشكله ولّد قناعات عميقة، في أهمية تلك العلاقات، التي أسست لبناء نماذجها على أسس صحيحة. تُضاف إليها مجموعة الطقوس في المناسبات التي هي عادات جمعية، ومنها "الولائم لآل البيت، وطقوس عيد المحيى، ليالي رمضان" كل هذا أسس لشخصية لعبت دوراً في الشعرية العراقية، لأنها أُنتجت من حاضنة مباركة بالعُرف الصحيح، وبالنوايا الجيدة بين خارج المنزل. فهو يؤكد هذا مراراً في متن السيرة "في هذا المنزل المفعم بالتقاليد النعمة والب?اطة والألفة، نمت حياتي، وظهرت البوادر الأولى في قول الشعر، شعر بسيط كحياتنا في الزقاق المسقي بالشمس".
ولكي يختم سيرة مكانه، يلجأ إلى خلق موازنة بين مكوّنات شخصيته، وبين ما لم يتم تحقيقه على صعيد الثقافة الشعرية والعامة. فهو يشهد بفضل المكان "المنزل" على ذلك، لأنه أوحى له بكل المستلزمات التي مكّنته من أن يكون شاعراً متميّزاً بين أقرانه: "كان منزلنا إذاً في " تل محمد" يشبه القصيدة؛ أبوابه مفتوحة على الريح والمطر والشمس، على الهواء وأصوات الباعة والجيران وبكاء وضحك الأطفال. حتى التأوهات والصرخات الجنسية كانت تصل إلينا لتدخل في القصيدة؛ الريح والمطر والشمس والخبز الساخن، ودلع الفتيات ومسواك النسوة".
وبهذا تكون سيرة الشاعر في المكان متعادلة الأطراف، لأنها واءمت بين عناصرها المشكّلة لها، بما قدمته من سيرة المكان المؤثرة في حيواته من الداخل. وبهذا تحققت معادلة العلاقة الايجابية بين المنزل وخارجه.