ادب وفن

في معنى حرية المثقف العراقي ونوعها / عادل عبدالله

أيها المثقفون، لا ثمن لثقافتكم إلاّ الحرية فإيّاكم بيعها بغير ثمنها..
أقول هذا لأن الدكتاتورية التي كانت تملك كل شيء قد أعادت - بزوالها - الى المثقفين ممتلكاتهم في القول والرأي والتظاهر والكتابة مخولة اياهم وحدهم - ولأول مرة في حياتهم - حق التصرف بها وفق حريتهم تارة أو منعها أو بيعها لمن يشاؤون أخرى.
اذن فلا عذر لكم أيها المثقفون الآن حين تمضون بأرجلكم، الى المؤسسات الإعلامية "الملتزمة" بعقلية مموليها لكي تعرضوا على أصحابها بضاعتكم من الثقافة الحرة من أجل تقييدها ومهرها بنوع قيد المؤسسة التي يسرها أن يكون هذا المثقف أحد موظفيها والناطقين باسمها.
أقول هذا لأننا نعيش الآن في عصر حتميات الحداثة أو ما بعدها، ومعنى هذا، ان ما يراد لنا الآن هو أن نكون حديثين، لا نحن المثقفين حسب، بل المجتمع الذي نعيش فيه بأكمله أيضاً، وهنا تكمن المفارقة كلها، أعني:
اذا كانت المجتمعات الأوروبية قد تبنت خيار الحداثة - في نمط تفكيرها وأسلوب عيشها اليومي - فقد كان لهذا الخيار مقدماته الاقتصادية الخاصة به وظروفه السياسية المعينة، ونمط تفكيره العلمي المتقدم، وتاريخه الديمقراطي الذي يمتد لعدة قرون، الأمر الذي يعني أولاً أن الحداثة التي تعيشها المجتمعات الغربية الآن، هي في حقيقتها نتاج طبيعي لكل تلك المقدمات الخاصة التي سبقته، والتي لم يكن بوسع هذه المجتمعات تجنبها أبداً، لأن تلك المقدمات لم تكن حيادية ازاءها، انما كانت في حقيقتها وسائل عاملة فعالة دفعت وعي تلك المجتمعات دفعاً، تقوده الضرورة الى تبني خيار الحداثة بكل عناصر بنائه المادية، والأخلاقية والنفسية والثقافية، ثم يعني من بعد، وبذات مقدار الضرورة أن عدم توفر تلك المقدمات الاقتصادية والسياسية والعلمية في مجتمع ما، لا يمكن أن يخلق مجتمعاً بوعي حداثي حتى وان سُلّطت على هذا المجتمع أعتى القوى العسكرية، وأكثرها اصراراً على تطبيق مهمتها واداء واجباتها في نشر الحداثة، ولعلنا نجد السبب والمسوغ لهذا الامتناع ماثلاً لدينا ومتمثلا في القول بأن لهذا المجتمع من المقدمات الخاصة الحضارية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتاريخية، ما يختلف بشكل جوهري عن نوع تلك المقدمات الخاصة بالمجتمعات الغربية التي قادتها الى حداثتها وهي نوع مقدمات عاملة أيضاً وليست حيادية أبداً بإزاء وعي أناس مجتمعاتنا، الأمر الذي يعني أن لها هي الأخرى قوالب تفكير وسلوكا وثقافة وأخلاقيات خاصة بها.
من هنا، فليست الحرية التي أدعو المثقفين الى التمسك بها كأعلى قيمة أخلاقية ينبغي عليهم الاحتفاظ بها، هي من ذات ذلك النوع من الحرية التي يتمسك المثقف الغربي في مجتمعه بها، لأن حرية المثقف الغربي هي وليدة مواصفات وعيه الاجتماعي الخاص، بكل مقدماته التاريخية والاقتصادية والسياسية التي تحدثت عنها، لذا فما أعنيه على وجه التحديد، هو دعوة المثقف العراقي الى التمسك بنوع حريته الخاصة، الحرية التي ينتجها نوع المجتمع الذي يعيش فيه بكل خصوصياته التاريخية والاقتصادية والسياسية والعلمية، لكن مع الاصرار والتأكيد على تكييفها لملاءمة الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجديدة التي يتجه العالم الآن بأجمعه لتحقيقها، بعد أن أصبح خيار المجتمعات، "مهما نأت بنفسها وأغلقت حدودها عليه" غير ماثل بأيديها وحدها، ولا يمكن أن تقرره هي بنفسها بعد تحرر العالم الطوعي والقسري من حدوده السياسية والاقتصادية في عصر العولمة.
هذه هي اذن ملامح الحرية التي نحن بحاجة اليها حرية الالتزام بمحن المجتمع التي نعيشها واياه معاً، والتي تقتضي منا بالضرورة وضع ثقافتنا رهن حاجته، أي اعلان تخلينا عن فردية الثقافة المقيتة، واستبدالها العلني بخطاب ثقافي تسكن الروح الجمعية ووعي المجتمع كل مفاصله، وهذا خيار يقودنا اليه بالضرورة وعي مجتمعنا الحالي البائس، وأسلوب عيشه المرير وتاريخ قيمنا ذات الروح الجمعية التي تضع الانسانية والأخلاقية وعالم القيم مرجعاً لها.
وهذا كله بطبيعة الحال خيار يختلف كلياً عن الخيار الذي يقود المثقف الغربي اليه نوع حريته، والداعي بطبيعة الحال "تحت هيمنة الديمقراطية" الى تقويض المرجعيات الاخلاقية كلها والى احترام الحريات الشخصية الى أقصى حد ممكن. اذ "أن ميزة المجتمع الحديث تكمن في ذلك الاثبات للحريات التي تتجلى قبل كل شيء في مقاومة السيطرة المتزايدة للسلطة الاجتماعية على الشخصية، وعلى الثقافة، انها - الديمقراطية - حق كل فرد في ان يختار وجوده الخاص ويدير شؤونه وحق التفردية ضد كافة الضغوط التي تمارس لصالح الاصلاح الأخلاقي والتطبيع"، كما يقول الآن تورين.
أخلص الى القول مما تقدم ان لنا نحن المثقفين العراقيين نوع حرية خاصة بنا تكوّنها في وعينا وربما دون وعي منا، خصوصية هذا المجتمع الذي ننتمي اليه ولتاريخه الخاص، وهي حرية تحمل معها قيمها الخاصة وتوجه بالضرورة أذهان مثقفي المجتمع نحوها محملة اياهم رسالة هذا المجتمع وخلاصته ومهمة القيادة النوعية الخاصة به، بحيث لا تمكن مثل هذه الخلاصة مثقفا عراقياً من القول بمضامين معرفية مفارقة لا تؤدي مثل هذه الخلاصة لها، كقول فوكوياما مثلاً في اعلانه "نهاية التاريخ" الذي هو في حقيقته "نهاية الانسان وانتصار المادة عليه وتحول العالم بأسره الى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية التي تجسدها الحضارة الغربية والتي لا تفرّق بين الانسان والأشياء والحيوان والتي تحول العالم بأسره الى مادة استعمالية".
أو قول هينغتون الذي يمثل في حقيقته "صياغة استراتيجية زمنية تقوم على ضمان تفوق الغرب وهيمنته وعلى ضرورة الاختلاف مع الاخر ودوام النظر الى التفوق عليه، اي انها خطة عمل عدوانية ترتكز على نظرة عنصرية ترفع الكراهية الى مرتبة الفضيلة والحتمية التاريخية".
انها اذن، مرة أخرى، حريتنا الخاصة، في التفكير والرأي والابداع والسلوك، لكنها حرية بصبغة معينة، تنبت في أرض معينة وبشروط انبات محددة، وبواقع وتاريخ له صفاته المحددة، فهي وبكل هذه المقدمات - قدر تعلق الأمر بنا- حرية ملتزمة اذ تضع زمام المجتمع في ايدي مثقفيه، فانما ترجو بذلك أمرين: أمر الالتزام والاحتفاظ بشروط وعي انتاج هذه الحرية أولاً، وأمر العمل على تطوير وعي المجتمع وتكييفه لشروط صناعة حاضر هذا المجتمع، لكن الذي لم تعد تلك الشروط كلها ماثلة بيديه وحده، كما كان عليه حال المجتمع من قبل، الأمر الذي يحمّل المثقفين مسؤولية مضاعفة في وعي نوع حريتهم وضرورتها وطرق استثمارها في جدل الحفاظ على الهوية من جهة وضرورة تطويرها من جهة أخرى.