ادب وفن

كوتوبيا.. سوق الصاغة / حميد حسن جعفر

المواطن الهابط من ساحة النافورة- 14 تموز في يومنا هذا والتي كانت في يوم ما تسمى المفرق، لأنها تشكل نقطة الاختراق والتلاقي للطرق الخارجية وسيارات الحمل، وحافلات نقل الركاب للتواصل ما بين بغداد العاصمة ومحافظات الكوت والعمارة والناصرية والبصرة. لم تكن حينها محافظة المثنى قد استحدثت ذهابا وايابا وذلك قبل أن تصبح الكوت واسطا والعمارة ميسانا والناصرية ذي قارا ولتظل البصرة محتفظة بسلطة بصرياتا.
كل هذه الطرق الخارجية حينها ما زالت ترابية حتى السنوات الأولى من العقد السادس من القرن الماضي وكثيرا ما تنقطع السبل بالمسافرين في أيام الشتاء الممطرة. وعند ساحة النافورة كانت تنتهى حدود مركز اللواء سابقاً، اما المحافظة الحالية فلا تنتهي حدودها البلدية المركز ألا عند بوابة واسط، وهو هيكل ضخم عال وعمارة اسلامية وأقواس من الموازائيك وبعض النقوش. تلك البوابة تمت بتصميم الفنان الواسطي عباس العمار التشكيلي بوابة واسط نقطة التفتيش الرئيسية للسيارات الداخلة والخارجة الى المدينة.
المواطن الهابط من ساحة 14 تموز النافورة نحو ساحة العامل أو المواطن الصاعد نحو ساحة 14 تموز النافورة، لا بد لهذا المواطن أو ذاك الصاعد أو الهابط أن يعاين مجمع الصاغة المركزي - سوق الصاغة - سوق الذهب. مكان مقفل على نفسه ويتمدد تحت سقف كونكريتي مسلح، من الممكن أن نقول انه واطئ، سقف واحد يضم العشرات من الدكاكين، والعارضات الزجاجية، الفاترينات تشكل واجهات لتلك المحلات بزخارف وأشكال تمثل خناقيات وقلائد ومعاضد وخرائط للوطن وحروفا أبجدية بالعربية والانكليزية، خواتم ومحابس وحلقات للعرائس والعرسان. ولافتات تدل على أصحاب الدكاكين من الصاغة أو الباعة ولافتات ضوئية معاصرة مضاءة بالنيونات.
هدوء شديد، طقوس البيع والشراء والعرض والطلب والسؤال والاستفسارات لا تتطلب ضجيجا أو قرقعة، بل يكاد الحس والأصوات المنخفضة ان يشكل القانون تقريبا، اضافة الى سيادة عنصر الزبون الدائم والعميل المتواصل فلكل صائغ أو بائع زبائنه. النسوة يشكلن عصب حياة المجمع، واذا ما كان هناك رجل فهو المرافق أو "البودي كارد" والذي قد يؤخذ برأيه أو قد يستشار،أما الحل والربط والبيع والشراء ورفع السعر أو هبوطه فلا دخل له فيه. نسوة يعرضن زينتهن من الذهب والفضة والاحجار الكريمة من أجل التخمين فهناك باعة وهناك مشترون وهناك المخمنون، خبراء ومختصون ضمن هذا المفصل. معلومات عن أنواع الذهب وعن أسعار الاوقية بالدولار أو الدينار على المستوى المحلي أو العالمي. أناس يراقبون ويتابعون أسواق المال والعملات والمعادن الثمينة. نسوة يشترين ما يناسبهن أو ما يناسب الدخول الشهرية من رواتب ومستحقات ومردودات مالية، نسوة يبعن لحظة ارتفاع أسعار الذهب ما يمتلكن من ذهب ليستفدن من فارق أسعار البيع والشراء. نسوة يبدلن مصوغات بأخرى مع دفع أجور الصياغة أو فارق السعر محل صانع أو صاحب ورشة يأخذ من أجور العمل وفق ما يمتلك من مؤهلات حرفية تنتمي الى الفن. البعض يعمل وفق الحرف اليدوية، المطرقة والسندان ونيران المنفاخ الآخر تكون الآلة هي المنتجة.
**
بوابات عديدة من الممكن أن يطلق عليها صنعة معينة على شكل "سلايدات" بوابتان تطلان على الشارع الرئيس المؤدي الى ساحة العامل وكذلك الى ساحة النافورة ومثلهما تطلان على الشارع الخلفي، وبوابتان تطلان على شارع فرعي محصن بكتل كونكريتية. فالمجمع ينفتح على ثلاثة شوارع رئيسة وفرعية وتتمتع أرضية المجمع بالكثير من النظافة و"النزاكة" وبالعناية كذلك. فهم ليسوا ببقالين أو بعطارين بل يتعاملوا مع المعادن الثمينة الذهب والالماس والاحجار الكريمة التي لا يترك العمل وراءها شيئا من النفايات التي من الممكن أن تشوه المكان وتفسد الرؤية.. واجهات لماعة براقة لا يعاينها الا من جاءها قاصدا، فالمكان المجمع لا يشكل هدفا لكل من هب ودب، ومن يدخله مستطلعا عليه أن يحترم طقوسهم التي تلف المكان بالمهابة. الصابئة المندائيون الذين كانوا في يوم ما هم كل من يعمل بمهنة الصياغة أو من يتعامل بالمعادن الثمينة أو من يمتلك أسرار كيمياء تحويل التراب الى ذهب. عندما كان العامة يقولون ان الكيمياء هي السحر بذاته وقد يقال عن الشاطر الذكي ان التراب بين يديه يصير ذهبا. وبعد ان انسحب أوائل الصابئة المندائيين أصبحت مهنة الصياغة حكرا على الشريحة الأولى فقد دخلها الكثيرون من المسلمين أو من سواهم ربما، وأصبحت مشاعة للجميع كسواها من المهن، وبات معظم باعة الذهب لا يعرفون من الصياغة الا اولياته. فالمصوغات الجاهزة باتت متوفرة لكل بائع وباتت تلبي رغبات الكثير من المواطنين، بل ان هناك من الصاغة الحرفيين الذين يعملون على صناعة المصوغات الذهبية لا على بيعها أو شرائها. انهم الحرفيون الذين يعتاشون على ما يبذلون من جهد ورغم هذا ما زال الصابئة المندائيون في هذا السوق أو في سواه يشكلون حجر الأساس في بقاء هذه المهنة التي تنتمي الى فن الابداع والى الدقة والجودة والجمال. سوق الصاغة امام عرشه بقية آثار تركتها الشركة العراقية الافريقية/ الاجهزة الدقيقة، لكنه لم يتخل عن الكثير من ملامحه السكون والاضوية،
هذا الصرح هو أثر معماري يعتلي سطحه والذي تعرض الى تفجير ارهابي مزدوج بعبوة ناسفة اولا ومن ثم بسيارة مفخخة.. هذا السوق نهض بعد ساعات لينفض عن كاهله الشظايا والدخان وبعض الدم وليعاود نشاطه بشكل آخر آكثر نشاطا مما سبق. سوق الصاغة هذا واقع ضمن جغرافية محلة العباسية التي اخذت تسميتها من اسم متصرف لواء الكوت خلال السنوات 1948- 1952. بعد تعرضه لانفجار ارهابي، سرعان ما قام أصحاب المحلات بترميم محلاتهم، بل زادوها جمالا ورونقا ليزاولوا مهنة الآباء والاجداد المتوارثة والمكتسبة مهنة الجمال والزخارف والنقوش والنمنمات.
هذا السوق/ الفضاء المكاني له تفتتح بواباته الست صباحا لتغلق مساء من غير ضجيج. وهو مكان لا يدخله الا من استطاع أن يدخر مالا، او من أقدم على مشروع خطبة أو زواج أو من كان بحاجة الى مال ولديه من الذهب أو سواه ما يمكن بيعه. فقد كان الذهب بالدرجة الاولى وما يزال يشكل رأس المال لدى الكثير من العوائل، وكثيرا ما تقوم هذه العائلة أو تلك عند وقوعها تحت سلطة الحاجة بعملية الرهن لدى المصارف الحكومية مقابل مبلغ من المال متفق عليه بين الطرفين .