ادب وفن

الثقافة الجديدة".. ستة عقود ونيّف من الكفاح من أجل "فكر علمي.. ثقافة تقدمية"! *

في هذا العام، 2015، وبالتحديد في الحادي والثلاثين من شهر تموز تحل الذكرى السنوية الثمانون لصدور اول عدد لأول جريدة يصدرها الحزب الشيوعي العراقي، جريدة «كفاح الشعب». وفي هذا العام تحل ايضا الذكرى الثانية والستون لصدور العدد الاول من مجلة الثقافة الجديدة، الذي صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1953 حاملة شعارها العتيد: فكر علمي... ثقافة تقدمية! وفي هذه المناسبة، تكون المجلة على مشارف تخطي عامها الثاني والستين لتدخل عامها الثالث والستين، مؤكدة انها نحتت خلال العقود الستة موقعها منبرا متميزا بين منابر الثقافة الوطوية والديمقراطية في بلادنا. واليوم ونحن نستعيد المناسبتين: الذكرى الثمانين لصدور اول عدد لاول جريدة يصدرها الحزب الشيوعي، واول عدد لمجلة الثقافة الجديدة لا لنتأمل فيهما باعتبارهما جزءاً من ماض طواه الزمن بل لنستخلص منها الدروس والعِبر لمواجهة تحديات الراهن والمستقبل. إنّ دروس التاريخ جديرة بالتأمل على الدوام، فلا يجوز التفريط بها.
لم تكن (الثقافة الجديدة) مجرد حلم راود مجموعة من المثقفين الرواد الذين بادروا الى تأسيسها، بل كانت تتويجا لجهود حثيثة ومثابِرة حوّلت الأمر من مجرد حلم الى فعل ثقافي - سياسي نشيط. وبفضل جدية المعنيين بصدورها آنذاك، ومسعاهم الثابت الى أن تتحول المجلة الى مطبوع جديد يقدم بحق فكرا علميا وثقافة تقدمية، سعت (الثقافة الجديدة) الى تجسيد الفكرة والحلم عبر ممارسة الصراع الفكري والثقافي من خلال نقد الواقع السائد، وتفكيك خطابات القوى المسيطرة، ونشر الثقافة الوطنية والديمقراطية، مستقطبة قطاعات واسعة من النخب الثقافية والباحثين الجادين. وقد ارتبط ظهورها ايضا بالأجواء السائدة آنذاك في بلادنا وفي المنطقة والعالم بعد النتائج التي ترتبت على الحرب العالمية الثانية والنهوض العاصف لقوى الديمقراطية والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والسلام والاشتراكية. وقد ساهم ذلك كله في بلورة فكرة هذا المنبر الجديد وتحوله الى واقع ملموس لتكون (الثقافة الجديدة) ليس رقما عاديا من ارقام الإعلام والصحافة بل مطبوع يبشر بجديد نوعي في الفكر والثقافة، ويؤسس لنقد الواقع بمختلف بُناه، ويساعد في اعادة بناء الوعي الاجتماعي.
وكما هو طريق (اتحاد الشعب) واخواتها التاليات لم يكن الطريق امام (الثقافة الجديدة) سهلا قطعا.. بل كان صعبا ومحفوفا بمخاطر وتحديات شتى.. وهذا هو الطريق الجديد الناهض المتحدي والمتوثب لتكسير اصنام الوثوقية والمسلمات الجاهزة والأجوبة المعلبة «الصالحة» لكل زمان ومكان. وكان المؤسسون الاوائل للمجلة على وعي تام بصعوبة ومشقّة المهمة التي اتجهت (الثقافة الجديدة) نحوها في خمسينيّات القرن العشرين وبحاجتها الى المثابرة والنفس الطويل. وعلى هذا الطريق رأت المجلة، منذ عددها الأول، أنه لن يكون هناك مبرر لوجودها إلا في انخراطها النشيط في بلورة مشروع ثقافي - سياسي نوعي يختلف عن السائد، واستشراف المستقبل عبر الرهان والترويج لبديل وطني - ديمقراطي وبناء دولة عصرية، وتحفيز النخب الثقافية للمساهمة في تحقيق هذا المشروع والدفاع عنه، والمساهمة النشيطة في تأسيس خطاب ثقافي ـ اقتصادي - سياسي تنويري ديمقراطي عقلاني، وإعادة صياغة المفاهيم، والكشف عن الظواهر والعمليات وما يرافقها من تناقضات، وما يترتب عليها من استقطاب وتهميش وتركز للثروة والسلطة والنفوذ.
خلال اعوامها الاثنين والستين أرادت مجلة (الثقافة الجديدة)، باعتبارها ترجمة جادة لإرادة جماعية تروج التغيير والحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، أن تكون منبرا يرفض أية حواجز على الفكر وتنميط الواقع بمقاسات مصممة على وفق ما يريده الحكام والقوى المسيطرة. ولذا فقد اختارت طريق الكتابة والبحث العميق والمتنوع في قضايا الفكر والواقع العراقي وبناه الاقتصادية - السياسية وتراكيبه الطبقية واشكالياته الثقافية ودور نخبه الثقافية في التغيير المطلوب. وفي معالجاتها لهذه القضايا خاضت (الثقافة الجديدة) معارف فكرية متعددة الصُعد، وسعت الى وضع قضية التغيير والديمقراطية والتنوير والحداثة في صلب الهم الثقافي، جاعلة منها مفاهيم جاذبة وليس اساطيرَ عصيّة على الفهم.
وبفضل جهود الرواد الأوائل ممن حملوا الفكرة وحولوها الى واقع، وبدعم قطاعات واسعة من المجتمع ونخبه الثقافية تحول اسم المجلة الى واقع مؤسس لا يسعى الى تمجيد الفكرة والحلم بقدر ما كان يعمل على بلورة اسس التغيير المطلوب، ممثلا في شكل حركة فكرية تلتف حول المجلة، تعتمد التحليل والنقد وتجاوز الواقع وتطوير الخطاب بمراجعة مفاهيمه وتصوراته وآلياته. ومن المؤكد ان مجلة (الثقافة الجديدة)، كانت على الدوام وما تزال، وستبقى أيضا، لا ترى مبررا لوجودها إلا في انخراطها النشيط في مشروع الكشف عن الواقع وتناقضاته الفعلية واستشراق المستقبل ولا ترى أيَّ تعارض بينهما.
إنّها مهمة تنويريّة ولا شك. ومهمة من هذا الحجم تستدعي مواكبة نقدية لكل القنوات المختلفة التي تصب في اتجاه تواصلها. فما نشرته المجلة وتنشره من كتابات وحوارات ومحاور وملفات تشكل جزءا مكونا لشخصيتها باعتبارها تسعى الى ان تكون صعيدا مشتركا للحوار والنقاش المفتوح، ومنبرا لمقاربات ثريّة وحيّة، لتكون بحق وفيّة لشعارها العتيد: فكر علمي.. ثقافة تقدمية. ولكي تواصل المجلة هذا الطريق كان عليها ان تسلك سبيلَ التقييم النقدي الذي لا يهادن الاجترار وإعادة انتاج «المسلمات» في الخطاب التقليدي، مصرّة على ان تكون اداة فكريّة فاعلة في معارك التنوير والحداثة والديمقراطيّة.
وأخيرا، نود الاشارة الى اننا واحتفاء بالمناسبة العزيزة، ثمانينيّة الصحافة الشيوعية في العراق، وتصادف ايضا الذكرى الـ 62 لصدور اول عدد من مجلة (الثقافة الجديدة)، نود التأكيد على ان أبواب المجلة ستبقى مفتوحة على الدوام امام الكتاب والباحثين من مختلف التخصصات. وننطلق في ذلك ايضا من قناعة ثابتة ان تطوير (الثقافة الجديدة) هو تطوير للخطاب الثقافي المناهض لخطاب السلط المهيمنة التي سعت وتسعى لتكريس ايديولوجيا العقم وتعميم الصمت وتطوير آليات الحصار والإقصاء والتهميش و«ثقافة» المحاصصات. لقد تعوّدت السلط الحاكمة، في مختلف المراحل، ان تنسى الحقيقة المرّة وهي أن الصمت لا ينتج الصمت ابدا. وكما هي (كفاح الشعب) و(اتحاد الشعب) و(طريق الشعب)..الخ، بقيت (الثقافة الجديدة) صوتا مغردا خارج مسارات تلك السلط، تحرض على الترويج لمشروع جديد ولثقافة جديدة عنوانها قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والاشتراكية. وستواصل مسعاها هذا من دون كلل، مثلما حرصت على ذلك خلال الاعوام الاثنين والستين المنصرمة. ولا شك في أن حضور سؤال المستقبل ايضا في أية ثقافة هو دليل حيويتها وعافيتها؛ فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، قدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتـي.
ومن هنا أهمية التأكيد الخاص والاستثنائي، في هذه المرحلة المضطربة، على أهميّة دور المثقفين والمبدعين في بلورة التوجهات والخيارات الوطنية الكبرى، والرهان المستمر على قدرة النخب الوطنية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية في مجال بلورة الرؤى، وصياغة الأفكار وإنتاج التصورات لإثراء الحوار حول كبريات القضايا التي تواجه بلادنا والمساهمة النشيطة في استشراف المستقبل. وهذا يتطلب توظيف الإمكانيات الإبداعية لمنتجي الثقافة والإبداع بشكل عام، وتحرير الثقافة من قيود الفكر الواحد والرأي الواحد ومن الجمود والتهميش، وإعادة الاعتبار لدور المثقف، وفتح دروب الإبداع الفكري والمعرفي له في مناخ من الحرية والاستقرار.
تحية للذكرى السنويّة الثمانين لصدور أوّل عدد لأوّل جريدة يصدرها الحزب الشيوعي العراقي، جريدة «كفاح الشعب»!
وتحية للذكرى الثانية والستين لصدور العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة)!
وتحيّة لمؤسسيها الأوائل ولهيئات تحريرها المتعاقبة ورؤسائها وكتّابها ومحرريها وقرّائها ممن كان لجهودهم وتضحياتهم الكبيرة وشجاعتهم الدور الاكبر في ان يتواصل صدورها طيلة ستة عقود ونيّف برغم كل المصاعب والمخاطر والحصارات، وأن تبقى معبّرة بحق عن شعارها العتيد: فكر علمي.. ثقافة تقدمية!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* افتتاحية ملف الذكرى الثمانين للصحافة الشيوعية في العدد الاخير (تموز 2015) من «الثقافة الجديدة»