ادب وفن

قصتي مع "الثقافة الجديدة" / عزيز سباهي*

كنت اود ان لا أصدم القارئ الكريم بهذه «إلانا» لولا ان الأمر كان على هذا النحو تماماً :لقد فرض علي ان ادخل عالم السجون والمنافي لأعوام طوال وأنا لم اكن قد حصلت إلا على تعليم أولي حسب وقد اضطررت إلى ان أكف عن التطلع إلى التعليم العالي بعد ان وضعت قدمي على عتبته فقط لانصرف إلى إعالة أسرة لا معيل لها سواي. ثم تلقفتني السجون والمنافي لسنين طوال بعدها. وفي السجون وعلى شحة ما تيسر فيها من فرص للتعليم انصرفت إلى تطوير ما وسعني من قدرات في اللغة والترجمة والرسم والمسرح حتى تيسرت لي الحرية بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958. آذاك توزعتني الرغبة بين ما كنت قد بدأته في التعلم العالي بتفوق ملحوظ أو الانغمار في مهمات العمل السياسي التي باتت تأخذ من كل واحد منا كل وقته. وهذا هو الذي جرى، إذ عهد اليّ رفاقي في قيادة الحزب الشيوعي منذ الأسبوع الأول ان أتولى قيادة لجنة تنشط في ميادين العمل السياسي ضمت كلا من الفنان محمود صبري والمسرحي البارز يوسف العاني والدكتور صلاح خالص. ومع ان اللجنة لم تحقق الكثير يومها إلا أنها نجحت في تأسيس جمعية الفنانين العراقيين التي غدت نواة نقابة الفنانين من بعد. ثم عرفتني قيادة الحزب بمن كان يصدر جريدة (البلاد) بتدريبي على العمل الصحفي. وفي غمرة هذا النشاط أسطحبني الرفيق عبد الرحيم شريف للتعرف إلى الدكتور صفاء الحافظ وكان يومها يشرف على إصدار مجلة (الثقافة الجديدة) التي كانت قد تصدرت دنيا الثقافة العراقية بعد ثلاثة أعداد فقط. كنت اعرف الدكتور صفاء الحافظ من عام 1948 وقبل ان ادخل السجن إذ أوصلت منه إلى الحزب تقريرا حمله من باريس بعنوان: ضوء على القضية الفلسطينية، والذي آثار نشره ضجة واسعة يومها. تحدث الدكتور الحافظ عن النية لطبع العدد الأخير من (الثقافة الجديدة) التي لم اكن قد تصفحتها حتى ذلك الحين. بعد أيام من ذلك عهدت اليّ قيادة الح?ب ان أدير دارا للنشر إنشئت توا ودعيت بـ (دار بغداد). وقد غدت هذه الدار مؤسسة كبيرة أصدرت مجموعة من الكتب والكراريس وتولت توزيع (الثقافة الجديدة) وصحيفة (اتحاد الشعب) وغيرها من الصحف التي ناصرت الحزب الشيوعي وما يرد إلى البلاد من لبنان والاتحاد السوفيتي والصين الشعبية من كتب ومجلات. كان يعمل في (دار بغداد) عدد كبير من العاملين وارتبطت بها مكتبات عديدة في المدن الأخرى ودخلت في معارك ضارية لتوزيعها (اتحاد الشعب) في محافظات البلاد الجنوبية بعد ان حرم الحاكم العسكري هناك توزيعها علنا.
بعد عام من ذلك قررت قيادة الحزب نقل نشاطي إلى العمل في جريدة الحزب اليومية والمركزية (اتحاد الشعب) وكانت يومها أوسع الصحف انتشارا وتدخل في معارك ضاربه ضد الصحف القومية ومن يناصرها في سوريا ومصر وعهد الي بوجه خاص ان اشرف على الشؤون العربية في الصحيفة. وهكذا التقي ثانية بالرفيقين عبد الرحيم شريف وعدنان البراك لنستعيد ثانية نشاطنا الذي بدأناه في سجن نقرة السلمان يوم كنا نعد سرا نشرة إخبارية استنادا إلى جهاز راديو صغير نجحنا في تهريبه سرا إلى السجن.
لم يتيسر لي ان انعم طويلا بهذا الربيع الثقافي، إذ باتت الغيوم السياسية تتلبد ويضيّق على صحف الحزب ومن كان يناصرها، وتنال (الثقافة الجديدة) و(اتحاد الشعب) ومجلة (المثقف) التى اصدرها المثقفون الديمقراطيون نصيبها من هذا التضييق لا سيّما بعد ان اندلعت الحرب بين النظام الحاكم والقوى الكردية التي كانت تطالب بالحرية للشعب الكردي وبعد ان تفاقم الخلاف بين العراق والشركات النفطية وتنامى النشاطات البعثية ومن كان يناصرها ضد الحكم.
في غمرة هذه الأوضاع المضطربة زج بي ثانية في السجن بتهمة الإشراف على مظاهرة لتأييد الجزائر وصرت انقل من سجن إلى اخر حتى استقر بي المقام بعد انقلاب شباط 1963 في سجن نقرة السلمان وكان يضم يومها ما يزيد على 1700 سجين سياسي وانصرفت فيه إلى ميدان التثقيف وإعداد نشرة إخبارية وكذلك التدريس. اذكر يومها أننا بنينا مبنى خاصا بذريعة التخفيف من الازدحام كرسناه لتدريس بعض السجناء ليلا وسرا وقد توليت التدريس فيه إلى جانب آخرين.
وحين صدر قرار جمهوري بإطلاق سراح من أنهوا محكومياتهم وكان عددهم يزيد على 1400 وكنت انا من بينهم، أصرّت دوائر الأمن العامة في بغداد على ان تبقيني محجوزا انا والمحامي الكردي صالح العسكري. وتعين على ان امضي ثلاث سنوات أخرى في المواقف والمنافي.
وتمضي سنوات عديدة وتضطر القوى الحاكمة إلى الإفراج قليلا فقليلا عن نشاط الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية عامة وتعود (الثقافة الجديدة) إلى الصدور للمرة الثالثة، وتدعو قيادة الحزب عددا من المثقفين للتداول بشأنها وكنت من بينهم. على هذا النحو صدرت لتدعو إلى حق الشعب في الحريات الديمقراطية وتحرير الاقتصاد الوطني لا سيما النفط من هيمنة الاحتكارات الأجنبية والدفاع عن مكاسب الإصلاح الزراعي وحقوق الفلاحين في الأرض وتطوير الصناعة الوطنية والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الكردي. كان على المجلة وهي الصحيفة للحزب يومها?ان تنهض لمنازلة الفكر القومي اليميني الذي كان البعث يسعى إلى فرضه على البلاد، وان تستقطب حولها كل المفكرين الديمقراطيين. وقد برهنت المجلة عن حق أنها أداة جديرة بهذه الثقة وتعزز موقفها ودورها بصدور أدوات فكرية وسياسية إلى جانبها كالفكر الجديد وطريق الشعب وغيرهما.
اقترن نشاط المجلة السياسي والفكري بإقدام الحزب على تأليف لجنة اقتصادية مركزية تتولى الإشراف على النشاط الحزبي في ميادين البحث الاقتصادي. وكان هذا النشاط يغذي المجلة بدوره بما ينتجه من أبحاث ودراسات وقد اخترت انا لأكون عضوا في هذه اللجنة ولأرس اللجنة الزراعية والري فيها بوجه خاص. وكانت اللجنة الاقتصادية برئاسة كاظم حبيب وضمت يومها جمهرة من الاقتصاديين أمثال الدكاترة جعفر عبد الغني وغانم حامدون وعدنان الشماع وصباح الدرة وجمعت لجانها المتفرعة اختصاصيين آخرين أمثال حافظ التكمجي وحميد مجيد موسى سكرتير الحزب را?نا، وعبد الرزاق زبير وحكمت الفرحان وشاطئ عودة وآخرين.
وقد انعكس نشاط الجنة الاقتصادية المركزية وما تفرع عنها في الأبحاث التي ساعدت في صوغ البرنامج الحزبي الذي أقره مؤتمر الحزب الثالث الذي انعقد في أوائل أيار 1975 وقد أفردت مجالا واسعا للنقاش الذي دار يومها حول التطور اللارأسمالي. وكانت كل هذه الأبحاث تنعكس في مجلة (الثقافة الجديدة) وكان من بين الأبحاث التي نشرتها انا ما دار حول التعاون الزراعي والصراع الذي كان يدور فيه بين بيروقراطية البعث في الريف والفلاح الفقير وحول التركيب الهيكلي للمحاصيل الزراعية ومشكلة السكن في العراق.
لم يطق حزب البعث بنزعته الفاشية تعاظم نفوذ الحزب الشيوعي ولهذا شرع في التضييق على أدواته في النشر ومن يكتب فيها وكانت (الثقافة الجديدة) من بين ما نالها هذا العداء واضطر كثير من كتابها لان يهجر البلاد وكان من نصيبي ان ألجأ إلى الجزائر.
افلح الحزب في إعادة إصدار (الثقافة الجديدة) في دمشق وكان كتاب الحزب الذين تناثروا في مختلف البلدان يمدونها بثمار ما يبحثون، وكان نصيب الذين التجاوا إلى الجزائر وافرا؛ حيث عمدت اللجنة التي قادت النشاط الحزبي هناك إلى تأليف لجنة للبحث دعيت بلجنة الدراسات وكنت أتولى رئاستها قد ضمت عديدا من الباحثين بينهم د. غانم حمدون و د.صالح ياسر ود.عبد اللطيف الراوي. وكان على اللجنة ان تنشط البحث بين الجمهرة الواسعة من الباحثين الذين تكاثروا آنذاك وقد انصرفوا إلى البحث في شتى شؤون العراق. وكانت (الثقافة الجديدة) تنشر ما ?ضعون، وأذكر هنا باعتزاز خاص بحثين لي نشرتهما المجلة، احدهما تناول رأس مالية الدولة الطفيلية في العراق، والآخر ضد الهجمة التي شنها البعث الحاكم على التعاون الزراعي الذي كان يؤيده حتى الأمس حين بات يتعارض مع تنامي مصالح البرجوازية النامية في الريف .
بعد سنوات ثلاثة غادرت الجزائر إلى دمشق لأعمل في تحرير مجلة (النهج) وبات بوسعي ان أشارك في إصدار مجلة (الثقافة الجديدة) هناك أو أتولى إدارة شؤونها إذا غاب من يشرف عليها حتى غادرت دمشق إلى جيكوسوفاكيا لأعمل بالوكالة ممثلا للحزب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية التي كانت تصدرها الأحزاب الشيوعية حتى انهار النظام الاشتراكي، فاضطررت إلى الهجرة إلى كندا، وحين بادرت المجلة إلى اختيار مجلس تحريرها الذي ترأسه الدكتور غانم حمدون كنت انا من بين من اختير لهذا الغرض.
عات المجلة إلى الصدور في بغداد بعد سقوط نظام البعث وبات عليها هذه المرة ان تواجه مهمات تزداد تعقيدا تولدت عما خلفه الاحتلال الأمريكي والنزاعات الطائفية التي استفحلت جراء ما أوحى به الاحتلال وما تولد عن الصراعات الإقليمية المحيطة واستشراء الفساد الحكومي. وكلما تعمقت أزمة الحكم اتسعت مهمات (الثقافة الجديدة) وتعين عليها ان تقدم الرؤى التي تساعد في الخروج من هذا الوضع المتأزم. ولا يلوح لنا ان تكون هذه المهمة هينة إذا لم تنجح المجلة في ان تلف حولها أوسع دائرة من المثقفين والإصغاء إلى نبض الشعب.
تلك هي قصتي مع الثقافة الجديدة التي يشرفني ان أكون احد خريجيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث