ادب وفن

الثقافة الجديدة: من مجلة الى ظاهرة ثقافية / احمد خلف*

المجلة الرصينة التي وسمت بميسمها تاريخنا السياسي خصوصا في الخمسينيات (لاحظ ان الثقافة الجديدة مثلا تأسست عام 1953) والستينيات من القرن الماضي، ذات النهج التقدمي تتعرض للأذى اكثر من سواها من زميلاتها من المجلات الاخرى لمعرفة خصومها التقليديين بالدور الريادي والقيادي المؤثر الذي يمكن ان تلعبه المجلة الثقافية الأدبية التي تعتمد الفكر الإنساني طريقا لها، وهذا الذي نشير اليه هنا ينطبق جملة وتفصيلا على مجلة (الثقافة الجديدة) التي خاضت سلسلة من المواقف الصلبة في العهود الماضية من اجل ترسيخ الفكر الذي تؤمن به وقد تلمسنا ذلك عبر مسيرتها الميمونة الطويلة.
(الثقافة الجديدة) التي تشرفت بالنشر فيها منذ بواكير اشتغالي الإبداعي في القصة والرواية وعنايتي المطردة في هذا الفن الرفيع، كانت المرة الاولى التي ضمت بين صفحاتها العطرة، قصة من قصصي التجريبية التي اتسمت بطابع نقدي رمزي واضح الغاية، القصة كانت بعنوان: (الصالة) وبواقع تسع صفحات من صفحاتها، في العدد/ 37-36/ أيار / حزيران / 1972 - والقصة تروي باختصار حكاية مناضل شاب غض لا يمتلك تجربة راسخة في العمل السياسي، ينتظر زميلا له او رفيقا في صالة، غير محددة الملامح (وغموض هيئة الصالة ومكان تواجدها هو تعبير عن ملامح تلك المرحلة التي اتسمت بطابع الغموض والتجريب ان لم يكن المجازفة بعناصر الشكل الفني واعتماد روح المغامرة في الكتابة تحت تأثير المدارس والاتجاهات الأوربية الحديثة في الفن والأدب) ليسلمه رزمة من الأوراق بصورة تكتنفها السرية ايضا لكننا ندرك نوع العمل الذي يقوم به الشاب بدون الاعلان عن ماهية المهمة او مضمون الأوراق وسوف نعرف انها اوراق حزبية او ذات محتوى سياسي. وكانت مهمة بطل القصة عبارة عن تسليم هذه الأوراق الى شخص ينتظره في صالة هي الأخرى ليست معروفة وأين تقع هذه الصالة وإن أوحت القصة لقرائها انها يمكن ان تكون في محطة أو فنار أو أي مكان يكتنفه المزيد من الحذر والتوجس.
وفي العدد نفسه، سعدي يوسف يكتب عن الشاعر حسب الشيخ جعفر، وحميد الخاقاني عن سميح القاسم، ود.غانم حمدون، يكتب مقالا عن البطالة في العراق، وابراهيم اليتيم يترجم مقالا عن كاتب ياسين، هذه المواد وغيرها هي بمثابة وضع اليد الكريمة والنظيفة على جوهر الثقافة الجديدة دون مواربة او تردد في الدفاع عن ثقافة وطنية تريد للفنون والآداب والمعرفة أن تتسع مدياتها وان ترتبط بكفاح الناس فارتباط الثقافة بالواقع اليومي المتحرك والحيوي المؤثر هو جزء من رسالة المجلة، وهذا ما يجعلنا ليس بقريبين منها بل من محبيها ودعاتها وننظر اليه? باستمرار بعين المودة والحرص على صدورها الدائم.
في تلك السنوات لم اكن اعرف الوجوه جيدا، من زوار المجلة (التي كان رئيس تحريرها الأستاذ مكرم الطالباني) والعاملين فيها لكننا بدأنا نتعرف إليهم واحدا اثر الآخر وحسب قراءتنا لهم في الصحف والمجلات الأخرى، بدءا من هاشم الطعان وحسين العلاق وألفريد سمعان وغانم الدباغ وشمران الياسري ثم فاضل ثامر وياسين النصير وغيرهم كثيرون اصبحوا كلهم اصدقاء لنا وزملاء.. ان النزعة التحررية ذات الفكر التقدمي العلمي الذي لم تحد عن السير فيه (الثقافة الجديدة)، يشكل عامل اغراء للأدباء الشباب الذين نشأوا على روح هذا الفكرالانساني الذي ي?عل من الانسان قيمة عليا هدفها خلق حياة تتسم بصيانة كرامته وتعزيز مواقع حريته، حيث يجد الأديب الشاب نفسه ممثلة في مواد المجلة وما تقدمه لقرائها من ابداع متميز لا يندثر مع مضي الأيام، لهذا ظلت الثقافة الجديدة تمثل لديَّ شخصيا ظاهرة ثقافية جديرٌ بنا متابعتها والتمعن في نهجها الذي تربى عليه العشرات من المثقفين العراقيين، وليس غريبا ان تواصل المجلة الحفاظ على ذلك النهج، وهي تتمتع باحترام معظم القراء الجادين الذين تعنيهم مسألة الحفاظ على الكلمة الصادقة المعبرة عن طموحات قطاعات مختلفة من شرائح المجتمع.
حين أعدت قراءة قصة «الصالة» هذه الأيام، نقلني مناخها الى تلك الأيام الجميلة حيث نرتقي – انا والشاعر حميد الخاقاني - سلالم مبنى المجلة وموقعها الذي لا ينسى في الباب الشرقي - ساحة التحرير - قبل الذهاب الى مقهى ياسين او البيضاء على ابي نؤاس حيث تتشكل تلك الأيام المجاميع الشعرية والأدبية للمرحلة الستينية، قافلة من المبدعين العراقيين حيث غادر عدد كبير منهم السجون والمعتقلات.
في تلك الأيام، يسألني صاحبي ونحن نقف عند مدخل الزقاق المؤدي اليها:
- ألا نمر على الجماعة؟
ويقصد زيارة المجلة قبل الذهاب الى المقاهي الأخرى حيث يتجمع العديد من الأدباء والمثقفين من مختلف الملل والنحل؟.. لم نكن نعرف الكثير من محرريها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لكننا بدأنا نتعرف إلى أغلب زوارها وكتابها ومحبيها، وكان النشر في المجلة ليس امتيازا في تلك الأعوام فحسب انما هوية لمن يريد ان يصبح الفكر الانساني التقدمي هويته الخاصة التي ينبغي له ان يدافع عنها بوعي متطور وثقافة متجددة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* روائي