ادب وفن

شعرية السهل الممتنع / جاسم عاصي

سوق الملح
هل يبدل الشعر مرماه، حين يكون ملتفاً بخصوصيته الأسلوبية، ومعانيه الإنسانية؟ سؤال يجيب عليه كثر من الشعراء. ولأنه ليس استفتاء، وإنما متابعة يُجيب عليها الشاعر عبد الكريم كَاصد بما امتلكه من ريادة للشعر المعتمد على السهل الممتنع، واستنبات الشعرية على أبسط صوّرها، كما فعل الشاعران سعدي يوسف ومصطفى عبدالله فالتلقائية المقياس الذي يؤكد مثل هذا المنحى. فكتابتها ليست صناعة للشعر، بل نثره على سجيته. وكما فعل "كَاصد" في قصديتين نشرتا في ثقافية "طريق الشعب/ العدد15 في 23آب 2015" وهي تلقائية توازي تلقائية لقاء الاثنين في سوق الملح في مدينة صنعاء الشاعر وكامل شياع الذي سحب بتداخل رؤيوي بين هذا السوق وأسواق بغداد. التلقائية سحبت الصورتين معاً باتجاه الشعر، تلقائية اللقاء بين الاثنين، فأسبغتا صفة البساطة على مكوّنيهما. مما وحدهما باتجاه الشعر ثم تسللت عناصرهما نحو صياغة الشعر على درجة من الشعرية التي تربط عناصر الوجود مع عناصر الشعر. وها أني أتذكر ما كتبه أنور الغساني في ملحق صحيفة الجمهورية الأسبوعي اختتاماً لحوار دام أشهراً دار حوّل الشعر العمودي والحر. ذكر العنوان للمداخلة "أعطونا شعراً جيداً" وهنا أعيد القول للسائل الكامن في مستقره بعد الغربة الطويلة؛ أن أعطى الشاعر عبد الكريم كَاصد شعراً جيداً.. فنم يا صديقنا قرير العين في سريرك الأبنوسي الذي ابتكرته لمثواك الأخير!!
في "سوق الملح" يستقر البياض كأنصع الألوان، فالأسوّد كان أبيض. لذا فقد وجد الشاعر أن ثمة ما يفوق ذلك بياضاً. وهو تظهير للافتة السوق وعنوانه، لما للملح من دلالة أسطورية، زحفت حتى حضور "الإمام علي" فقد كان الملح واحدا من ثلاثة في فطوره الرمضاني. وكذلك السيّد المسيح. وقد زحف إلى ما يحكم العلاقات الاجتماعية بمقول شعبية "كُلْ لكي نتمالح" ويقصد الغذاء باعتباره الرمز الأكيد في إدامة العلاقات الإنسانية . وهو ما فعلته "شمخت" مع "إنكيدو" من بين ثلاثة أيقظت الحس المعرفي السابت أو المؤجل. وها هو الــ "الكَاصد" يؤكد ذلك عبر تورية بلاغية:"لا أدري لِمَ كان البَيْضُ أشّدَّ بياضاً في سوق الملح"، ولعل هذه الصورة البلاغية قد أسقطت دلالتها على ما حفل به السوق من حيوات الوجود كالبطاطا والخبز. أي أن الشاعر نقل لنا صوّرا في السوق، ربطها بلاغياً ببلاغة البياض. ثم انبرى بتلقائية لقائه بشفيع العقل المغتال "كامل شياع" فيتداول معه حواراً فيه نمط الاختيار الحر بين حبيبين التقيا في صدفة من الزمن، فيخيّره هكذا:" قال كامل وهو يمضغ الخبز :/ أندخل هذا الممر؟/ قلت له وأنا أمضغ الخبز أيضاً:/ لندخل"، في هذا يُحسسنا الشاعر بمدى الحميمية بينهما، والتي احتكمت للتلقائية والمضغ وهما سائران، أي وهما يتمتعان بكامل الحرية والعفوية، لا رقيب يحوّطهما عن المضغ هذا. وهو ما سحب أيضاً حوارهما المبني على مبدأ الامتلاء المعرفي الذي ولّد المرونة في الحوار، فكلاهما قد عرك حياة المهجر دونما خلق حالات من التعقيد. أرى أن التلقائية التي أسبغها "الكَاصد" على علاقتهما التلقائية، هي جزء من الصيانة المبدئية لكليهما. بدليل أنها، أي التلقائية قد سحبته إلى الذاكرة وعلى الفور، ليكون قفل القصيدة القصيرة الممتلئة بالبلاغة أكثر تلقائية أيضاً. وهي تلقائية العودة إلى الشبيه ذي البساطة المماثلة "ثم لم نبصر السوق/ كنا ببغداد نقطع ذاك الممر"، هذا ما كان في 2014 ولهذا بلاغة ودلالة أكثر، لأن الزمن المذكور شهد ترديا في الوضع السياسي والاجتماعي، لم يُبعدهما عن صلب محبتهما للوطن. فمرآة "الكاصد" عكست وجه "شياع" في سوق بغداد فكلاهما أبيض، لم تشبه شائبة المنفى.
البناؤون
من فصاحة القول وبلاغته؛ أن يضع الشاعر فعل البناء عنواناً لقصيدته في ذكرى كامل شيّاع وهذه الثريا معنية بشخصية "شياع" دون أن تذكر القصيدة هذا. فهو مشروع بناء للعقل، وفعل احتكاك وتغيير لمن يتحاور معهم. ووجوده في الوطن كان مرهوناً بتحقيق نقلة نوعية للثقافة. وغير ذلك الكثير الذي لم تقله القصيدة، بل أشّره العنوان ببلاغته. القصيدة عبارة عن سرد سيرة العائد إلى الوطن من بعد سنيّ المنفى، وبطبيعة الحال ثمة تفاوت في طبيعة العائدين. وهذا ما حصدناه نحن القابعون في لظى الوطن من بعد عام 2003 وهي خطاب تساؤل موجه إلى "شياع" في حضوره. يبدأها هكذا: الجميع هنا قادمون/" لبناء الجنة" وهذا التقويس على المفردتين هنا فيه تهكم، بمعنى اعتراض جزئي وكلي. ولأن العبارة سبقت الاسترسال، فقد عوّلت عليها في المعنى الذي أراد الشاعر عكسه في القصيدة، فهو استهلال شعري بالغ الدلالة عن الكل. وربما أعتبره القصيدة كلها. غير أن التفاصيل موجبة لتأكيد الموقف، وفعلاً كان هذا. لكن السؤال المرّ هو خطابه الموجه إلى "شياع" بعد استعراض العيّنات من العائدين:"ماذا كنت ستفعل يا كامل في هذا السيرك" وسأكتفي بهذا السؤال وأستغني عن ما لحقه. فالبلاغة من وجهة نظري كمنت في السؤال المكثّف. وأعود إلى فاجعة التصوّر الكامنة في نفس الشاعر، لأنه ينظر إلى زمن القصيدة عبر زمن الحدث المروّع وهو اغتيال "شياع" ولعله يحتوي على توصيف مكثّف أيضاً لحقبة من الزمن "وسط جحيم أوَلهُ ليل/ وآخرُهُ ليل/ أي طوائف تجمعها؟/ وإن اجتمعت فلذبحك أنت" ويسترسل في كشف ما ضمُر عبر تلك الحقبة من تراجيديا يومية لم تكشف سوى الموت وازدياد تناسل القبور، وما زالت على وتيرتها سائرة أحداث البلد. ويعود ليلخص ما هو مُشاهَد ومروي عن أحداث متسارعة أعقبت اغتيال الرمز للعقل المتيقظ "يا كامل شياع/ الطريق التي ابتعدت / ملأتها الإشارات/ والخطى العائدة: وتلك الشواهد.../ تبصرُها/ شواهد مٍنْ"؟ وبهذه البساطة أيضاً يُقفل الشاعر عبد الكريم كَاصد قصيدته، على نحو تلقائي وبسيط، بساطة السهل الممتنع في الشعر.