ادب وفن

«دروب الفقدان».. ذاكرة مدينة / جمعة عبدالله

تعد "دروب الفقدان"، رواية الروائي عبدالله صخي، امتدادا طبيعيا مكملا لرواية "خلف السدة" وهي ترصد حياة شريحة كبيرة من المجتمع العراقي, وهم الفقراء الذين انتشلهم الزعيم "عبدالكريم قاسم" من الحياة التي لا تليق بحدها الأدنى لحياة البشر, فكانوا يسكنون في كومة أكواخ وبيوت صفيح وطين وسط البرك الاسنة من الطين والغبار والحشرات التي تمدهم بالأمراض والموت والاهمال.
وأسس لهم "مدينة الثورة"، مدينة الفقراء والكادحين والمناضلين, كما تكشف الرواية بعمق حالة الاضطهاد السياسي والاجتماعي, وهي تتناول احداث فترة من الاضطراب السياسي في عموم العراق, في أوائل سبعينيات القرن العشرين, في اعتماد السلطة الجديدة - حزب البعث - على نهج ممارسة الاسلوب الامني في الارهاب والبطش والتنكيل, في سبيل اشاعة الخوف والرعب في صفوف المواطنين, وخنق ابسط اشكال المعارضة السياسية, من اجل الانفراد بالسلطة في الحكم الشمولي لحزب واحد, "الحزب القائد"، وهي تقدم يوتوبيا لأشكال وانواع هذا الاضطهاد السياسي الذي يلاحق المواطن في كل مكان حتى عقر داره , ومحاصرته بالأساليب الامنية, لكي يخضع لإرادة حزبها السياسي, وفق نهج "اذا لم تكن معنا, فأنت ضدنا وعدونا", وكذلك ترصد الرواية حالة الاضطهاد الاجتماعي, المسلط على المرأة العراقية, في استلاب ارادتها وكرامتها وحقوقها وانسانيتها, وتدخل الرواية في اعماق حياة "مدينة الثورة" لتسجل الحياة الكاملة بكل تفاصيلها وجزئياتها, وبالأسلوب الواقعي الذي دأب عليه في السرد الروائي لغابريل غاريسيا ماركيز، واقترابها من احداث رواية "الأم لمكسيم غوركي, في الرسم الابداعي لضبط الاحداث والشخوص, بالرصد الدقيق في تفاصيله, في ميزة الاستنباط والاستنطاق الاحداث اليومية, واعطاء مسار البيان التصاعدي للأحداث التي تواجه الشخوص, في هواجسهم واحلامهم, وصراعهم اليومي في توفير عيشهم الكادح والمضني, من خلال المعايشة اليومية الصميمية من قلب الاحداث, حتى في حثيثاتها التفصيلية, وكشفها على السطح الواقع, بوشيجة متناسقة في الارهاب السياسي والبوليسي, الذي يعترض ويكون عقبة في توفير خبزهم اليومي, ويجهض احلامهم, في مسلسل الانتهاك الشرس, اضافة الى الجور والقهر الاجتماعي المسلط على المرأة العراقية دون رحمة وشفقة في التراجيدية العاصفة والجاثمة على خناق الناس في كل النواحي والاتجاهات.
تبدأ الرواية بتنفيذ اول عملية اعدام علنية في "مدينة الثورة"، في ملعب لكرة القدم, اعدام الخوشي "نايف الساعدي" ومصلح الخوشي اللذين يصفهما "انهم نبلاء ومتسولون, اوفياء وغدارون, صالحون وطالحون, يدافعون عن الشرف وينتهكونه, يمارسون قيم الفضيلة, وينتصرون للرذيلة". وسبب الاعدام هو أن الخوشي نايف الساعدي حاول انقاذ المرأة الشيوعية "كاظمية محمد" من مطاردة رجال الامن لاعتقالها, لانها تشكل خطرا على السلطة الحاكمة, ولأنها من اعضاء التنظيم الشيوعي النسوي في "مدينة الثورة"، وبالفعل انقذها من الوقوع في ايدي رجال الامن, لكنه دفع ضريبة عمله بالإعدام, لذلك شعر "علي سلمان" بالقرف والاشمئزاز من هذه الوحشية, ان تتم عملية الاعدام أمام انظار الجموع البشرية الغفيرة, فيعيد شريط ذاكرته عندما كان صغيراً, حيث شاهد جثث اربعة اشخاص, معلقة على اعمدة خشبية "خلف السدة" في بغداد, في اواخر تموز عام 1963.
ضربت هذه المشاهد المرعبة, حالته النفسية الى التأزم المحبط بالقهر , وخاصة ان في ذلك اليوم المشؤوم, اجهض حبه المفقود, الذي ظل يبحث عنه أكثر من عام من عناء ومشقة البحث, واخيراً وجد فتاة احلامه "بدرية" في خاتم الزواج. ورجع الى البيت في حالة يرثى لها, تصورت امه "مكية الحسن", بان حالته النفسية التعيسة, نتيجة عملية الاعدام التي اشمئز الناس من فعلها الشائن, فالهدف من هذا الاعدام العلني هو ارسال رسالة واضحة لمعارضي السلطة الحاكمة, بان مصيرهم اسود وبشع.
"علي السلمان" كان يكافح من اجل توفير الخبز لعائلته "الام وثلاث شقيقات" بعد وفاة والده وتركهم دون مورد ومعين, سوى ثوب الفقر, فانخرط في سوق العمال "المسطر" وعمره اربعة عشر عاماً, وفي المساء يواصل دراسته الثانوية, ثم استمر على هذا المنوال لاكمال دراسته الجامعية في المساء, لابعاد شبح الفقر عن عائلته, لذا وجد صعوبة في التوفيق بين عمل البناء والحياة الجامعية , لانها تشكل اعباء مرهقة ترسم حياته بالارهاق المتعب, ولم يتذوق انفاسا في ممارسات الضغط عليه بكل الاشكال, من اجل اجباره على الانتماء الى المنظمة التابعة لحزب البعث الحاكم, والتي يطلق عليها اسم "الاتحاد الوطني لطلبة العراق"، وكان يتهرب بشتى الطرق, لكن الضغوط اصبحت مضاعفة ومرهقة وهو في الكلية, بانه محاصر ومراقب في كل مكان, في اجباره على الانتماء الى حزب البعث, ورفض القبول بحججه بانه يريد ان يكون مستقلا بعيداً عن السياسة والحزبية, ولكن يصرخ في وجهه المسؤول الطلابي غاضباً "لا يوجد مستقل, ان لم تكن معنا, فأنت ضدنا" ثم يلوح بالتهديد المبطن من عواقب رفضه الانتماء.
- علي لماذا لا تنتمي الى الاتحاد الوطني؟، فأجابه بانه مستقل ويفضل ان يبقى كذلك، فقال المسؤول الطلابي الحزبي: كل الشيوعيين يقولون انهم مستقلون.
يجد نفسه محاصرا في كل مكان بزيادة عمليات الضغط عليه, في المقهى, في الشارع, مداهمات منظمة الحزب في المنطقة, عبر الوسائل الارهابية.
كان "علي سلمان" يمتلك موهبة غنائية رائعة منذ الصغر, فكان يغني في المناسبات الدينية وفي حفلات الاصدقاء والاعراس, وحاول ان يجد وسيطا يقدمه الى ملحن او مطرب, يقدم له فرصته المناسبة, لكن هذه المحاولات تصطدم بالعقبات المجهضة والفاشلة وتسد الابواب في وجهه, رغم اعتراف الجميع بانه موهبة غائية ممتازة, ولكن من اين يأتي بالوسيط الذي يساعده؟
وضمن الاجواء الارهابية التي عصفت في العراق, في الحملات الارهابية التي تقوم بها الاجهزة الامنية في تصفية اعضاء الحزب الشيوعي, بالاعتقال والسجن والتصفية والتسقيط وخنق كل اشكال المعارضة, حتى طالت هذه الممارسات الارهابية مستقلين، الذين هم خارج تنظيم حزب البعث.
ان هذا الرعب الارهابي مخيم على الجميع ويطال الجميع في اكمال بناء دولة الاستبداد الدكتاتوري, ويقع "علي سلمان" في مصيدة الاعتقال، فتوجست امه الخوف والقلق من غياب ابنها المفاجئ, وراحت تلوك الظنون المفزعة والمخيفة, وبعد اسبوع, عرفت بأنه معتقل في الامن.
وقع الخبر كالصاعقة على رأسها وقصم حياتها النفسية بالدموع والبكاء المر ليل نهار, وهي تتساءل بمرارة وقهر: أي تهديد يمكن ان يشكله طالب كلية مسائية, مقبل على التخرج, ويعمل في البناء ويتعلم الموسيقى تحت أنظار سلطة يحرسها جيش وشرطة ودبابات وطائرات ومدافع وصواريخ؟ هل لديهم ادنى احساس لعذابي؟ لسنوات انتظاري؟
ولم تدم الحالة المأساوية التي عصفت بالام وطرحتها في الفراش, فاصيبت بالمرض والجنون والتيه والغم والهم, حتى انضوى جسدها ولم يعد يتحمل هذا الشقاء والظلم, فاسلمت روحها الطاهرة, وهي تلعن هذا الزمن المر.
اعدام بشار رشيد
اكتسب "بشار رشيد" مكانة شعبية متميزة بالحب والاحترام, في اخلاقه المتواضعة وحبه وعشقه الشديد للناس, بسلوكه المشهود في السمعة الطيبة في الأوساط الشعبية وعشاق كرة القدم, وكان ذا موهبة كروية مرموقة احتلت موقعا مهما في المنتخب العراقي الوطني, وكان شخصية محبوبة في سط الناس في تواضعه الجم, وضمن اجواء الحملة الارهابية بالبطش والتنكيل, اعتقل "بشار" بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي, ولم تسعفه السمعة العراقية والدولية , بانه لاعب مشهور ومعروف ذو موهبة كروية كبيرة ومرموقة, فالحملة الارهابية لم تعترف بعطاء المواطن وخدمته للوطن مهما كان, في سبيل اقامة دولة الحزب القائد الواحد, فتم اعدامه مع كوكبة كبيرة من مناضلي الحزب الشيوعي, كوجبة اولى - اعدام 31 شهيدا, ودشنت هذه الاعدامات الجماعية انهيار "الجبهة الوطنية" وبدأت حملة التصفية والتسقيط السياسي بالسجن والاعدام.
لقد كان اعدام "بشار رشيد" يمثل احراجا وقلقا كبيرا, فقد يحدث ضجة كبيرة عاصفة في "مدينة الثورة" وفي عموم العراق. وحين ذهبت "أم بشار" الى السجن لاستلام جثته, همس في اذانها احد الحراس في غفلة وقال لها "ان ابنها بطل, انه صاح لا تربطوا عيوني, اريد ان ارى قاتلي".. انعشت هذه الشجاعة البطولية مشاعر امه بالجرأة, وردحت بالاهزوجة الشعبية بصوت مدو في وجه رجال الامن البعثيين "يا هاوي الموت امشي ويانه".
شعرت امه بالنشوة بان هذه الاهزوجة كأنها تسمع ترديد صدى جميع نساء العراق, وتصدح معها، لذلك اعترض رجال الامن على تسليم جثة الشهيد, خوفاً من ان يستغلها شباب واهالي مدينة الثورة وتتحول الى تظاهرة شعبية احتجاجية, فطلبوا من الام بان تستلم نعش ابنها خارج مدينة الثورة, في بداية "قناة الجيش" بشكل سري دون اعلام اي شخص, ولكن خبر اعدام "بشار" انتقل من بيت الى بيت, من قطاع الى قطاع, فخرج الاهالي ومن عشاق كرة القدم بالآلاف لتوديع ابنهم البار, مما اثار الذعر في صفوف رجال الامن, من تلك الاعداد الهائلة من المشيعين, وكانت تصعب السيطرة على الموقف. مما اضطروا الى الهرب بالنعش الى مدينة النجف الاشرف, وكانت الام وسط الحشود المشيعة تردح بالهوسات الشعبية:"كل جابت خابت بس آنه".. ورددت النسوة هوستها.
هكذا خيمت غيوم الحزن والغضب على "مدينة الثورة"، ودلفت في ثوب الانقلاب العسكري, حيث امتلأت المدينة برجال الامن والحزبيين وغصت بهم الشوارع وقطاعات مدينة الثورة, تحسباً لاي طارئ, وقد لبست المدينة ثوب السواد والحزن, وهي تودع ابنها البار ,الذي احبته منذ ان كان صبياً يلعب في ملاعبها, واعتبر من الرموز المحبوبة والشعبية.
هكذا رسمت رواية "دروب الفقدان" شريط حياة مدينة الثورة بالسينما التسجيلية الراقية, وكذلك ترجمت اساليب الاضطراب السياسي في عهد ارهاب البعث.