ادب وفن

المكان ورياضيات العقل / جاسم عاصي

لا شك أن المكان، وبتوالي الأزمنة والتطوّر الحضاري والعلمي، خضع إلى بنيات العقل. بمعنى تدخل العقل، ليس ببدائية، وإنما بأساليب رياضية هندسية، مما أكد على أن وجود المكان "العمارة" خاضع للعقل. أي أن تكون نتاجا علميا بحتا. وبالرغم من هذا وازن في بنيته بين العلم والخيال الذي يمنحه جمالاً ورفعة فنية.
هذا التعاشق البنيوي أدى إلى سمو العمارة "المكان" بحيث وفر من المستلزمات أكثر من أجل رفاه الإنسان. فـ "الأسدي" يؤكد في أكثر من موضع على مثل هذه الحقيقة "أكتشف علاقة التضاد القائمة بين عمارة الطبيعة ولغتها العضوية الميلودرامية، وبين عمارة الإنسان ذات اللغة الرياضياتية الدرامية. فيتنامى الإبداع الإنساني مفارقاً الحالة العضوية إلى شمول الرياضيات في بناء العديد من أشكال الإبداع، واعتماد هنا لغة انجاز الممارسات التشكيلية" فالتضاد قائم على المفارقة بين القديم والجديد، ونعني بالقديم البدائي الذي لم تشمله نتاجات العقل، بل أكتفت عمارة المكان فقط كوّنها مأوى لصيانة الحياة وحفظها. أي أن الإنسان كان يُصارع الطبيعة بحيواتها باتخاذه مثل هذه الصيانة. وقد زحف هذا التصوّر للمكان حتى مرحلة اشتغال العقل على بنية إبداعية تعدت الإنشاء الوظيفي الضيّق للمبنى ، حيث تعددت وظائفه، واختلفت نوعياً أشكاله. هذه الابتكارات العقلية، أنتجت حالة من العلاقة بين الإنسان والمكان. ذلك لأنه تكيّف في بنائه وانشاء مرافقه، وحتى تأثيثه إلى الاختيار الحر المبني على بنية علمية خالصة. فالتطوّر في فن العمارة "المكان" لم يتوقف عند حد معيّن ، بل تعدى وخضع إلى تعدد الوظائف، أي خضع إلى جدلية الوجود ومستلزمات تطوّره. وهذا زحف بطبيعة الحال نحو الشكل الخارجي للمبنى، والداخلي منه، بما يضعنا أمام حالة من الموازنة الدالة على بنية فكرية جمالية ذات متعلقات وظيفية للمكان الذي أصبح مبنى خضع للعقل في وجوده.
الألفة بين الأمكنة
لعل ما تنتجه الأمكنة بتقاربها ضمن التصميم الشعبي والقديم، تُتيح للساكنين التقارب مع بعضهم، لا بسبب محدودية الأمكنة في المحلة والزقاق، وإنما من خلال ما تفرزه هذه التصميمات المعمارية الشعبية من بنى أخلاقية تفيض على أفرادها نوعا من الالتزام الاجتماعي، الذي هو في بنيته، أخلاقي بحت. ونقول شعبية، ونعني بها ما ينتجه العقل الشعبي، الذي هو الآخر وسيط يمتلك رؤى متجددة وإبداعية. وقد تمثلّت في الصناعات الشعبية المختلفة، التي ما زالت جالبة لأنظار الرائين وهي تنشّد إليها. إن الألفة تنعكس في العلاقات بين الأسر، وعلى صعيد المناسبات المفرحة والحزينة. كذلك تتعمق في الأحياء الضيّقة ذات الشناشيل المتقاربة في العُلّيات، حيث تنشأ علاقات عاطفية قل نظيرها في العفة ورفعة الأخلاق .كذلك بتقابل أبواب البيوت بتصميماتها ونقوشها الفنية الجاذبة. فالأسدي يؤكد على ذلك من خلال توصيفه للمكان المقصود "حين تتلوى الأزقة القديمة في بطء بين البيوت كاشفة عنها واحداً بعد الآخر، وهي تأخذ فرصة ظهورها الفردي المميّز. يمر الإنسان فوق جدرانها وأبوابها الثرية بالتفاصيل والزخارف متجلية في زمن إيقاعي بطيء، مليء بالأشياء التي تُزيح السكون، وتحتل فراغاته، يُزيد ذلك من الود والألفة بين الإنسان والأمكنة" مقابل ذلك يُحدد تأثير إيقاع البيوت المعاصرة، "إن الإيقاع السريع الذي يُميّز حياتنا المعاصرة؛ هو الذي خلّف السرعة في الأشياء وأشكالها المقتصدة، وأفقدها مميّزات الظهور الفردي، وهو الذي أضاع الفرصة على الإنسان في أن يكتشف الكثير من تفاصيل عالمه"، وبهذا نكون أمام خيارات المكان معتمدين على ما يفرزه من قيّم اجتماعية ونفسية. وهذا ما يظهر بجلاء في القرية، بسبب تكثيف العلاقات. فالمقارنة بين السرعة في الأحياء الجديدة، وكذلك انطواء الإنسان على نفسه، ولّد مثل هذا الإحساس بضيق المكان، بالرغم من اتساعه واستقامة شوارعه وأبعادها الممتدة.
إن السرعة التي توّلدها الأمكنة المشيّدة حديثاً ساهمت في ظهور ظاهرة الغربة عند الإنسان. على العكس تماماً في الريف أو القرية "تبدو سكونيه حياة القرية سبباً في عمق انتماء إنسانها للأرض، فتسكن ذاكرته وجسده وخياله، بينما يضم مجتمع المدينة الاغتراب والظواهر غير الودودة" فإنسان المدينة يتمثل بيئته الأولى البكرية من خلال استحداث الحدائق المنزلية، وإن تعذر ذلك، فيعوّضها بالمزهريات والأصص وأحواض الزراعة. وهذا يُعيد لخياله نشاطاً جديداً كتعويض للفقدان.
المكان والفكر
إذا ما أخذنا بمبدأ أن المكان منتج فكري "الشكل والمضمون" لأنه نتاج حراك العقل، فأنه أيضاً يمنح الإنسان بُعداً فكرياً عبر مبدأ الاختيار والخوض في تفاصيل وأجزاء تأسيسه وتأثيثه. ونعني بتأثيثه؛ ما يُمليه الإنسان من أشكال مضافة للشكل العام، وما يبديه من متغيرات القصد منها هو تحقيق التلاؤم بينه وبين المكان. فحركة الفكر متبادلة التأثير بين القطبين. فما يُريد المكان يقابله ما يحتاجه الإنسان، وما يفترض صلاحيته، بل أحقيته في تحقيق هدفه. لذا نجد أن صراع الأفكار متواصل طالما ثمة رؤى جديدة لتأسيس تفاصيل وابتكارات الأمكنة، لاسيّما عند المعماريين ذوي الرؤى المتفتحة على الحداثة من جهة، وعلى القديم بأشكاله الأصيلة من جهة أخرى "إن العمارة تنظّم للبيئة، لكنها في منطلقاتها وغاياتها تنظيم لحياة الإنسان. وبالتالي لوعيه الفكري والسلوكي"، وهنا تتقارب وتتجاور الرؤى في ما يخص المكان "العمارة هنا" بحيث يكون له معنى وصيرورة فنية، لأنه أساساً متولّد عن فكر وجمال. لذا فهو في عمارته وأسلوب تشكله، يقترب من انضباط الفنون الأخرى كالرواية والتشكيل بنوعيه الرسم والنحت، كذلك الشعر. وبالتالي اللغة التي تجمع هذه الفنون والأجناس الإبداعية. فلها أسسها في البناء والتشييد. والعمارة تنظّم بصيرورتها وامكانيات تشكّلها إلى قانون الأجناس، وبالنتيجة تكون واحدة من تلك الفنون وفق كل الاعتبارات. فإذا كان المكان تتحكم فيه بنى متعددة، يكون فيه مركزياً الداخل والخارج مركزهما، إذ لا بد أن يكون طرف معادلة المكان "المبنى" متعادلة، وإذا حصل التفاوت، فلا يكون ثمة هرموني يؤكد صيرورته، لأنه بمثابة معادلة قائمة على أسس متعادلة وقائمة على جدلية فيها مرونة. كما للأجناس المذكورة؛ ثمة داخل وخارج، يُحدد ليس المضمون فحسب وعلاقته بالشكل، بقدر ما يعني الموازنة بينهما. فداخل الرواية يتصل بخارجها عبر الثريا، ويزحف هذا إلى الشخوص والزمان والمكان، وما إلى غير ذلك من وحدات بنائها. ما نريد الاجماع عليه أن معادلة المكان وفق أسس فكرية، سوف ينتج أسساً أخرى، سواء عند الساكن ومباشرته في تأثيث المبنى أم عند المعماري في تجاوزه لمثل هذه التجربة إلى أخرى لاحقة وأكثر ثراء وإبداعاً.
النزوع الحكائي للمكان
المكان "المبنى" يتشكل وفق بنية حكائية، ابتداء من الكهف وبيت القصب والطين، وصولاً إلى المبنى المشيّد من الطابوق والإسمنت المسلّح إلى بقية ابتكارات الإنسان من المواد. بمعنى خضوع المبنى إلى العقل المنتج للوسائل الملبية لحاجات الإنسان. وهذا يوصلنا إلى بنية الحكاية باعتبارها وسيلة الإنسان في تزجية الوقت، سواء له أم لأفراد أسرته. هذه الدربة طغت على الأمكنة التي اختار تصميمها، فهي خاضعة للتصوّر والتمثل وبالتالي للحاجة. وكل هذا يربطها تسلسل منطقي فيه مخيّال، والمخيّال من بنيات الحكاية. كما للحكاية مكان ، فقد بني المكان على مفرداتها. فهو هرموني متعادل ويُثير خيال الرائي ويُبهره، بمستوى احداث نوع من الحراك الجدلي بين ذاته الخازنة للصوّر، وبين شكل المكان وأسسه الحكائية. إن الإنسان بطبيعته متعلق بالخيال، لأنه يرتبط بالرغبات والتشوّف. كذلك يمتلك خزينا من صوّر الأمكنة التي روتها له النصوص القديمة، وما أنتجه كتّاب مجهولون، احتشدت حكاياتهم بالغرائبية والدهشة والمعجزات في سير الأحداث. كل هذا شكّل مكوّنا عميقا راسبا في الذاكرة الفردية، يُضاف إليها ما ابتكرته الذاكرة الجمعية. بحيث أصبح هذا من مكوّنات عقل الإنسان وهو بصدد ابتكار مكانه. أي استعان بخياله وخزينه. فالمبنى بذلك هو نص، والنص يستلزم البحث عن شكل مناسب للذائقة والحاجة. إذ تزداد تأثيرات الحكاية على المبنى، كلما زادت تعقيدات المكان، وتعددت الاختيارات في إظهار الشكل الخارجي للمبنى، والكيفية التي عليها المبنى من الداخل. كل هذا خاضع للخيال بنسبة كبيرة. فالأسدي يؤكد على مثل هذه الحقيقة القائلة بعلاقة المكان بالحكاية "تفقد الحكاية تماسكها ومضمونها التعبيري الواضح. فبدون وجود العناصر وتناميها في علاقات واضحة ونظام مقصود؛ يكون التكوين مجرد تناثر أشكال وتجاورها، متخلفاً عن انجاز حكاية وإبلاغ دلالاتها"، ونقول: غياب تأثيرها كحكاية، بحيث تضمحل صورة المبنى المعتمد على أسس الخيال، أي أسس لحكاية سداها ولحمتها القديم والجديد. ولعل الترحيل للشكل في هذا، يعتمد على قوة الذهن الذي يبتكر الأشكال. الذي هو ذهن معماري موسوعي، يمتلك القدرة على دمج أسس البناء المختلفة، كما حصل للمعماري "محمد مكية" في مبنى "جامع الخلفاء" فالمعمار بهذا هو مجموعة تصوّرات تعتمد على خزين معرفي، وقوة بديهة يتحكم فيها العقل. لأن المبنى له زمانه كما هو مكان فـ "زمنية الشكل المعماري؛ هي زمنية حكايته المروية. وهي جزء من سماته الثقافية التي تمنحه شخصيته، حتى بعد انصرام حداثة الشكل وتحوّله إلى تراث".
إن ما أراد "الأسدي" التوصل إليه من خلال دخوله إلى أكثر من مبحث يخص المكان؛ إلى أن المبنى "المكان" نتاج عقلي، يبحث عن التلاؤم والتوافق والألفة "ولهذا تكون أشكال البيوت وايحاءاتها الجمالية والنفسية معبّرة عن دواخل ساكنيها وأفكارهم" من هذا نجد أن أقوالا مثل: لا يمكن للفن المعماري أن يوجد إلا بوجود الناس / وليّم كودل.
ــ الشكل يعكس صورة الإنسان الذي أبدعه/ وليّم كودل.
هي تأكيدات على العلاقة بين الإنسان ومكانه. والذي يخضع إلى الفكر والممارسة المعمارية، المعتمد على العقل الخالق للأشكال والبنى المختلفة.
كما ذكر "الأسدي" من أن "فرانك لويد راست" أكد على أن يُعالج البيت الواحد معالجة تفصيلية من خلال البُعد النفسي لساكنيه، بحيث تنعكس شخصية العائلة على مواصفات البيت كلياً. ابتداء من قطعة الأثاث الصغيرة إلى كامل الوجود المعماري للمنشأ.