ادب وفن

افتراضات أمجد الزيدي وإحالاتها النقدية في "تمثلات ليليث" / خليل مزهر الغالبي

لا بد من اعتماد البلاغة النقدية في تعويض المحذوف أو الاستنتاج بتأييد افتراض علمي واضح بالرجوع الى قرائن نعتمدها من تلاقح داخل النص وخارج النص.. أو من معرفة ومعلومة تاريخية سابقة قد تصل الى الاشتغالات مقارنة "لسانية" للغة في الأغلب بقريناتها في الوقت الحاضر، لأننا ورثة المنظومة القيمية والذوقية والحضارية لأسلافنا في هذه المنطقة من العالم الحبلى بالتأريخ.. وفي كل الأحوال لابد من الرجوع الى الدراسات الحديثة التي تمثل حاصل تحصيل المجهود البحثي النصي.
مقدمة: عرف الناقد أمجد نجم الزيدي "معنى ليليث" في دالة عنوان مؤلفه النقدي " تمثلات ليليث" من اسطورة "ليليث" الشيطانة في الديانات والاساطير القديمة، ومن الاسطورة البابلية التي تقول، ان ليليث هي البغي المقدسة لإنانا والالهة الأم البابلية الكبرى التي ظهرت في حدود 3000 سنة قبل الميلاد، والتي تغوي الرجال في الطريق وتخطفهم من زوجاتهم وتقودهم الى معبد الآلهة، حيث كانت تقام هناك الاحتفالات المقدسة للخصوبة"، وكانت انتقائية ايضاحية قاربت الكثير من فعل شهوة واغواء القراءة الأدبية والفنون، ومنه تعد العنونة عابرة للمستعمل المألوف و واقعة في مبدع جمالية تسميتها الدالة.
وهنا لابد من الاشارة بدلالة المنتج المتحقق في " تمثلات ليليث" ومن معنى ليليث الأخر والذي صَيَرَتْهُ ومحورته الدراسة النقدية هذهِ كامتياز متقدم في مكونها النقدي، ولم يشر اليها الناقد رغم ملاءمتها مع دالة العنوان حتى تطابقها.
فمن خلال التوظيف الفكري والأدبي راحت بعض الدراسات ومن خلال التشابهات المقارنة والمقاربة، والاحالة اليها من اللغة اليونانية واللاتينية الى كلمة "Light" في الإنجليزية و"licht" في الألمانية، حيث تُعَبّر هذه الكلمات عن فكرة الضوء والنور، كما في رؤى "جاك بريل" في "ليليث ام الظلام - رسائل فلسفية" لتكون "تمثلات ليليث" هي الدراسة النقدية الحاملة للنور الذي يضيءْ الظلمة، وكما رأيناه في جولاتنا القرائية لتمثلات ليليث، وهي تضيء طبيعة الغموض "الظلام" الذي اتسمت بها النصوص الأدبية المعاصرة وخاصة الشعرية منها، وهذا لابد من التأكيد عليه بالرغم من عدم اشارة الناقد اليها، وهو ما احتفلت به تمثلات ليليث والتي كانت أساس ومائز جهد عمله النقدي المبدع في قراءة النصوص وايضاح الرؤى والمفاهيم النقدية.
و"تمثلات ليليث" مقاربات نقدية في الشعر والسرد للناقد أمجد نجم الزيدي التي حرص فيها الناقد على الكشف عن مقارباته النقدية ورؤاه العامة ازاء الشعر والسرد الأدبي، ولهدوء حواراته مع النصوص وقراءاته لها، في كشفه لرؤاه ازاء الكثير من الحوار الافتراضي، استطاع الناقد ومن توخي التبسيط المُوَضحْ للترابطات اللغوية، فض الأشكال الذي ظهر ويظهر كثيراً امام القارئ والناقد أيضاً في القراءات والدراسات المعاصرة، ونراه يتفاعل في تفكيكه اللغوي للجمل والانساق والمفردة الأدبية وفق تأويل لم يخرج عن النص والموضوع عموماً، بل يمكننا أن نقول ان الناقد في دراساته النقدية هذه كان قريبا من المنهج اللغوي في معظم تحليلاته النقدية، ومنها النصوص ذات النهج والاعتناء والمعتمد اللغوي تبعاً لتفرد الشاعر والسارد.
وقد اعتمد الناقد في احالة الفعل الكلامي الى افتراض بعيد عن المغامرة والاحتمال الشكي اللغوي في توضيحه للغة الجملة والنسق، لأنها بقيت ضمن الاطر المنطقية والدلالة البعيدة عن التيه، لتكون تناولات الناقد وافتراضاته وفق فاعلية تأويل هرمونية الكلام وتوليداته الدائمة التي حوتها الرؤى اللغوية، كما اشار اليها سابقاً جون سيرل في كتابه "كيف تُنجَز الأشياء بالكلمات" والتي تعد من الرؤى المهمة في مزاوجة عالم الخيال وعلمية الافتراض واللغة في الخطاب المعاصر، كما في سابق الدراسات لدى "فتجنشتاين وجون أوستن" وهي عالم من الخيال تشتغل فيه اللغة على مستوى الفعل الإفتراضي، وفق شروط تعمل عليها لغة العالم الحقيقي، وكما في مقاربة الدكتور ضياء نجم الاسدي "... هكذا فلغة الأدب لا تميزها عن لغة الواقع إلا مستوى تأثير القوة الإنجازية الذي لا يتعدّى في الأولى حدود عالم النص, ويؤثر في الثانية على العالم الموضوعي فيقوم فيه بصنع الوقائع والأحداث ضمن القواعد المنطقية للدلالة والسياق"، وهو يتناول تجربة الشاعر أديب كمال الدين الافتراضية في شعرية - أقول الحرف وأعني أصابعي- من اجل تحقيق القوة الإنجازية لخطابه الادبي وبتوظيف الحرف والكلمة...
وتميزت الافتراضات المحللة للناقد أمجد "في قراءتها النص وفقاً للمنهج العلمي الاستقرائي، ومن الاستنتاجات المرتبطة بتأويل متغيرات اللغة داخل مكونات النص ومن المفردة والاتساق، لتكون هذه القراءات مفسرة لأوضاع اللغة المستعملة بطريقة علمية بعيدة عن الالتباس الشاك في المعنى.
وصار الافتراض حوارا منطقيا حداثويا للنص لفض المؤشكل امام المتلقي، وقبول ما كشفت حوارية النص التأويلية من مستور ضمني ومن خلال المعادل المبني بين المختلفين لدى السطح المرئي والآخر اللا مرئي، الذي يقود لانساق اللغة الفنية العابرة للمنجز الجمالي أخيراً كما في أعمال "المنطقين" في توضيح وكشف العكس والمناقض كتناسبات طبيعية في الشغل الشعري، وهذا ما اشتغل عليه الناقد امجد نجم الزيدي في تمثلاته هذهِ.
ولابد ان تتم الافتراضيات ضمن الموافقة والإجازة وبمعنى ملاحظة العقل وتصوره العلمي، كما في تجويز الاحالة للمتوقع المقارب لتكوين الفضاءات الممكنة للتوليدات الافتراضية، ومنه المعالجة الاجرائية لمحاورة النص بجدلية تأويل اشيائه اللسانية والسيميائية العامة،
وكان المعتمد الافتراضي للناقد في تمثلات ليليث، وفق قواعد علوم المعاني "البراغماتيكس" هو شرح اختلاف معنى الكلمات من سياق الى آخر. وكانت محاولات الناقد مع مختار نصوصه قراءات موازية للنص كما في مؤكده الاحترازي، "وهذا لا يعني ان النقد سيكون بديلا عن النص، وإن كان يوازيه، لكنه يبقى عملية ذهنية تخضع الى المقاسات العلمية والمنطقية المستندة الى ارضية نظرية ومرجعيات ثقافية، تعطيها الحق بأن تقدم وجهة نظرها باتجاه النص والعالم، وتحاول تأسيس أنماط علائقية بينها وبينه وفق تصور متحرر من هيمنة الوصايا والتنسيقات والنظريات التي تحجر النص في افق واتجاه واحد للقراءة"، ليهبّ المفردة الشعرية إيقاعا احتفالياً يتصاعد داخل الجملة، وبما يجعل حسية البوح أكثر تناغما، وأكثر اتساعا للتعبير وعمقاً لمدركها الحسي الظاهر.
ومن مؤكدات الناقد الرؤيوية في مفصل الكتاب "الوحدات النصية وسياقات الجملة الشعرية" رؤيته للقراءات الشعرية، كما في ذكره التوضيحي "تظهر هذه المقاربة إن شعرية النص لا تكمن في السياق الذي تبنيه الجملة الشعرية، وانما من خلال تجميع الوحدات النصية وبناء علاقة افتراضية بينهما، من دون الوقوع في اسار السياق للجملة والنص، وانما ببناء فضاء دلالي يعتمد العلاقات الاحالية لتلك الوحدات".
وهنا تبدو أهمية الإحاطه الذهنية بكل اجزاء النص وتفاعلها قرائياً من دون فصل يلغي الترابط بين المفردة وجلوسها المحدد شعرياً في الجملة وبمدلول ما سبقها وما يليها كي لا يحصل انكسار في جسد القصيدة وتفاعلات القراءة وتعثير تواصلها اللساني، وقد اشار الى بنيتها الشعرية في ايضاحه المفرق والمبين هنا "بنية الداخل نعني بها تلك البنية التي تحدد ماهية الشعر، باعتباره توالد خلاق افتراضي، متغير، أو هي أطياف تنتجها العلاقات التركيبية المعقدة لمجموعة الخطابات التي تنصهر قي بوتقة النص"، وكما في تناوله لنص "لقد حرفوا مهجتي" للشاعر نامق نمر ذياب، واذا القينا نظرة أولى على البناء الشكلي له سنرى انه يتخذ البناء المعتاد للنصوص الشعرية من خلال التوزيع لمفردات النص وجمله على الورقة، اما البناء الشكلي الداخلي للدلالات فيبنى على التوازي بين بنيتين دلاليتين ترتكزان على جملة مركزية قد اخذ النص عنوانه منها وهي لقد حرفوا مهجتي والتي تحمل التركيبة لدلالات النص، حيث تنتظمها خمسة كلمات "لقد، حرف، هم، مهجة، أنا".
ومن ايضاحاته المتعلقة بمفهوم القراءة المنتجة للتلقي المنتج للنص الآخر، فصله البيني لحالات القراءة هذه في قوله "لقراءة أي نص فنحن مخيرون بين ان ننقاد الى العلاقات المباشرة والسطحية التي تعكسها العلاقات النحوية والبلاغية، او ان نجترح مدخلا مغايرا يكشف عن ما يحمله النص من رؤى، وما تختزنه دلالاته من احالات كاشفة عن الاطر المضمرة التي تحكمه والتي تحرك أطياف النص، وتشبكه مع المحيط الثقافي العام، مجترحة خطاً بنائيا متنامياً".
وعن السرد يقول:"الكتابة السردية بكل تمثلاتها من قصة و رواية، هي محاولة لتلوين العالم بألوان أفكارنا وتصوراتنا التي نرسمها بكلمات وجمل وشخصيات حية مفعمة بالحياة، أي ان هذا العالم المتعدد الأشكال والألوان يتحول بيد السارد الى مجموعة من الكلمات والجمل في سياقات كتابية معينة يمثلها الخطاب السردي وأنساقه"، وذًّكَرَّ الناقد امجد نجم الزيدي محددات مختلقات السرد في مختلف الاجناس الأدبية، وفق مقاربات تناولاته...
"ليس بالضرورة ان كاتب القصة القصيرة مؤهل ان يكون روائياً والعكس صحيح، فالكثير من كتاب القصة القصيرة فشلوا في ذلك، فالقارئ الجيد والناقد للأجناس السردية يمكنه تحسس الفروق بين الجنسين،...".
ومن رؤاه النقدية ازاء الترابط التاريخي للسرد وعبوره للزمن لكونيتها المؤثرة في التلقي، ومن احد اختياراته قوله " عند قراءة "جنة العتاد" للروائي ابراهيم سبتي، علينا اكتشاف تلك المستويات التي اوضحنا تشكلاتها سابقاً، والخيوط التي تمدنا داخل الرواية لغرض الوقوف على دلالات النص وعلاماته، وأحد تلك المستويات هو الخط التاريخي، والذي نعتبره خطابا لأنه لم يمثل وجهة نظر التاريخ داخل منظومة خطابية واحدة، ولم تعش الشخصيات- تجربة التكوين التأريخي - كما يصفها لوكاتش، داخل هذا المستوى على اقل تقدير، وانما جاء سانداً للخطاب الرئيس الذي اعتمدته الرواية....."، وهنا نؤكد كونية هذه المستويات المتحركة بين الاحداث والشخوص والعاملة على انضاج دلالات السرد في فروض المعنى المبثوث داخل جسم النص، لتوهج النص في ضرورات الذهنية المتلقية.