ادب وفن

ونعق البوم في مضارب اليوم قراءة في قصيدة إحسان احمد حسون «عراق اليوم» / عيسى مسلم جاسم

تعلمت من اساتذتي محرري صفحات هذه الصحيفة الأثيرة، كذلك من زملائي في الصنعة الأدبية في مدينتي الكوت، ومن خلال الأصبوحات والأمسيات، ومهرجان المحافظة "المتنبي" أن الرؤى والاضواء تسلطان على الأثر الأدبي، لا على المنتج المبدع، فالاخير تنتفي الحاجة اليه، عند نقطة ايصال النص الى القارئ
ومع اعتزازي بكتاب هذه الصحيفة جميعاً، إلا أن بيت القصيد شاعرنا احسان احمد حسون لم يرد في هذه الصفحة او غيرها، وان حصل فهو نادر جداً تواجده، لكن والأهم أن النص "القصيدة" هي ضالتي المنشودة وقد سال لعابي لها، وسبقني قلمي "السيّال" ليترجم مشاعري. وأني اعتبرتها صيداً ثميناً أو "سمكة بُنية" ساورني القلق من افلاتها مني.
"عراق اليوم" لوحة وطنية، لقصيدة شعبية، جاءت مزدانة ضمت كل الالوان، وحين تدور عجلة الاصلاح، تعطي لوناً واحداً، ابيض نقياً حالها حال الوان الطيف الشمسي السبعة، وهو الرقم المبارك، عساه مباركاً على شعبي الصابر والمتواضع، فالشاعر رسم لوحته تحت نصب الحرية، ولربما تحت أفياء ساحة العامل في مدينتي الكوت أو في البصرة أو الحلة، أو أي ساحة في مدن بلادي يتظاهر فيها شعبي الذي ينشد الاصلاح والعيش الكريم لا غير.
قصيدة "عراق اليوم" لوحة تنز جمالية، وتحكي قصة "بانوراما شعبية" هذه اللوحة زينت جدار البلاد، ونافست بامتياز، "المدرسة الفنية السريالية" وأفحمت عميدها المعروف جداً "سلفادور دالي".
القصيدة "عراق اليوم" جاءت زفيراً ساخناً لشعب مثخن بالجراح وعانى الويلات والنكبات، وخلت قواميسه من مفردة السعادة وكلمة الارتياح. لذا جاء مستهلها يصفق بالراح على الراح ندماً وحسرة وأسفاً:
طاح الطاح... وراح الراح... والدم بالشوارع ساح: نعم هو عينة بل الأسطر الثلاثة الأولى لقصيدة، ويقيناً هي سرية استطلاعية لحالة البلد المبتلى بالطغاة وعلى امتداد عقود، وتوارثت الاجيال الغم والهموم، هي صورة مؤلمة لحالة البلد وما آل اليه حال الشعب، شعب الحضارة والأمجاد، شعب الثورات والأنتفاضات.
القصيدة جاءت بـواحد واربعين سطراً، ونيف من السطور ومن هندسة النظم، ورسم السطور تحكم عليها بأنها خريجة مدرسة الشعر الحر "التفعيلة" أو قصيدة نثر حداثوي، بل وبعد التمعن والدراية نجد حروف القافية والرؤى تتكرر في امتداد القصيدة، سيما السطور الخمسة الأولى، نجد تكرار حرفي "الألف والحاء" وبعد السطر الخامس تتناوب القصيدة بشكل جلي في هندستها الكلاسيكية، عمودية، من شطرين، لكن الشعر تلاعب مفضلاً هذا الضرب لإضفاء صفة "الحداثة" عليها.
القصيدة طويلة نسبياً، واني "كاتب السطور" قد قسمتها الى مقاطع اربعة، كل مقطع عشرة أسطر وان كان لا جدوى من التقسيم، نظراً لوحدة الموضوع، لكن لسبب واحد لا غير هو لغرض احصائي فقط.
ومن رقم عدد السطور، وعدد المقاطع، وكأن الشاعر يقسم قصيدته الى اربعة فصول، وهذا حال العراق نكد في نكد، فصول تمر بلا ربيع، أما "النيف" وما زالت هذه الحالة - للاسف - متواصلة، كذلك جاءت القصيدة بـ"تفعيلات" متوسطة نسبياً، ومع كل ذلك بقيت محتفظة بالنقلات الايقاعية، وهذه سمة الشعر الشعبي، وبهذا تكون قد أزالت الحذر والخمول الذي يسببه طنين "القافية" وبايقاعه تهتز الاقدام لا العقول.
عزيزي المتلقي: سبق ان اقتبست لك ثلاثة أسطر من مطلع القصيدة وهي: طاح الطاح، وراح الراح، والدم بالشوارع ساح. وسبق ان اشرنا الى جسامة الرعب وحجم الخسائر، ومعادلة "الدم بالشوارع ساح" وهي نتيجة منطقية، وهي ذروة الانحدار، ودرجة الدمار والذي تصاعد بوتائر عالية، بعد أن أوغل الى شطب البناءين التحتي والفوقي وأجهز على الأثمن "الانسان" فالانسان أثمن رأسمال ماركس "وخلقنا الانسان في احسن تقويم منطق السماء"، هكذا هي وحشية معسكر العدوان، لا رادع لوحشيتها ولا حدود أو ضوابط لهمجيتها.
وبغفلة المنايا من تجي وتروح/ وبلمح البصر تتبخر الارواح/ أجل هكذا ويصبح الانسان سلعة رخيصة جداً، وعلى وجه السرعة يزورنا الموت بلا دعوة أو استئذان ضيفاً ثقيلاً، وكما يشرب الطغاة والقتلة.. الماء، يزهقون الارواح بلا رادع، وهذا المسلسل يومي بعدد الساعات يتكرر على مدى أعوام وليالٍ ونهارات، وكأن هذا الشعب من دون الخليفة هو حمّال هموم البشرية ودارئ الموت عن الآخرين ويدفع الأثمان على امتداد الأزمان.. لماذا يا زمان؟
يقيناً لا ننحني للعاصفة كي تمر، لا بد من التسلح والتحصن ضد هذا الوباء، الكارثي "لا توجد حركة ثورية من دون نظرية ثورية لينين".
ابدأ لم يكن الشاعر سلبياً ويُسلم بالقضاء والقدر والنصيب والمكتوب على الجبين حتماً تراه العين، لذا هو طالعنا.. بل الشاعر يطلق صيحة تحذير، ونداء استغاثة:
أيها القوادون.. السراقون.. القتلة، لن تسرقوا دمنا ايضاً، إملأوا جيوبكم بما شئتم، أثثوا بيوتكم بما شئتم، وحساباتكم بأية عملة شئتم، سيبقى لنا الدم والذاكرة، بهما سنحاسبكم بهما سنطاردكم.. بهما سنعمر الوطن من جديد ذاكرة الجسد، رواية: احلام مستغانمي ط 23 ص 395.
ومع كلاسيكية البناء النظمي، يثأر الشاعر ويدافع بثورة مدرسة "الواقعية الاشتراكية": بالك يا لمواطن وأنت المسكين/ ركز عين، فتح عين/ يم الباب واكفلك الف ذباح بلا شك ادرك المواطن المسكين خطورة المرحلة، وما آل اليه الخراب، وضياع نصف البلاد، ونذير الخطر في تمدده والضحايا على امتداد البلاد، لذا نجد هذا "المواطن المسكين" وقد خرج الى الشوارع في سلاحه الماضي بوحدته تحت خيمة "العراق الواحد" ويتفيأ ظلال العلم العراقي بلا شعارات فئوية ضيقة، وان وقفته وقفة موت أو حياة لا مناص من ذلك، لقد فاض الصبر وانفجر بالونه،وحسب الموروث "فاض الصبر وتبده".
سوده مصخمه وظلمه ودرب مسدود: هو سطر مقتبس واحده من القصيدة كل حرف فيه هو كل دموع وعرق ودماء البشرية عموماً، لكن شعبنا المبتلى بها والذي ينوء بحملها نيابة عن الكون. إذاً هي قسمة ضيزى الذكر الحكيم، ثانية نقول: آه يا زمن"!
يحميد شكلك يبو صبر أيوب/ يمتعب الوكت هم الك ترتاح: اقتباس من القصيدة، هنا سلك الشاعر مدرسة "الرمز والفنتازيا" هنا "حميد" هو الانسان العريض الكادح المتعب الصابر المجاهد الثائر، الذي ينوء بالمعضلات، الذي ينزف جراحات، صبره توسع وغطى صبر النبي ايوب، الذي عانى لوحده لعائلته فقط وهو يمتلك "ميثولوجيا روحية مصدر الهام وصبر وينتظر الجزاء منطق السماء".
اما "حميد" هو الوطن والشعب والاهم هو القضية والفكر النير والسلاح الذي لا يمل النزال، وهو النظرية الثورية التي "تقض مضاجع الطغاة: فهو متعب الوكت.. متى ترتاح: نعم وقت الراحة آت لكن ثمنه باهظ.
ونطرنه الفجر اسنين بعد سنين/ شو طاح الصنم شو چنه هم ما طاح/ نفس الدالغه والسالفه تنعاد، الاقتباس، وشر البلية ما يضحك، وجاهدنا لأجل إطلالة الفجر.. هل نسي الفجر بزوغه.. وتغيرت سُنة الحياة؟
وكثيراً يقول: لو غاب العقل والوعي عند الناس، مشكلة كبيرة. لكنها ممكنة الحل؟!