ادب وفن

قراءة في ديوان "سيرة ذاتية لسارق النار" .. تأويل بلاغة عبد الوهاب البياتي / محمد يونس

البياتي شاعر له ميزة شعرية وخصوصية معتبرة في أهمية ابتكار ما سمي بمصطلح (القناع)، لكن اعتقد ان البياتي يبتعد إلى أكثر من ذلك، فأحيانا تجد محاكاة شعرية لشخصية تاريخية ذات عدة وجوه، وهنا اعتقد يتجاوز الشعر ذلك المصطلح، والتسمية قد تجاوزت الى كيان قصيدة سميت بقصيدة القناع، على اعتبار ان الحداثة الشعرية قد أتاحت ذلك، لكن البياتي لديه بلاغة شعرية داخلها نسق ميثلوجي حيوي وينبض، وتلك البلاغة واسعة استوعبت كل أنماط الشعر.في ديوان (سيرة ذاتية لسارق النار)، هناك تنوع إيقاعي مستمد من تهشيم الشكل الشعري التقليدي، حيث تعد مرحلة السبعينات أخصب مرحلة للنشاط الشعري المهشم للشكل التقليدي، وتقريبا هي صيرورة تامة ومتكاملة وعيا وتشكلا في المضمون الكتابي، ويعتبر البياتي احد أهم أقطاب الشعر العراقي، ورغم انه يوازي في خط بياني طولي الجواهري، لكن البياتي حرر شعره من الشكل التقليدي للكتابة الشعرية، ومجمل قصائد (سيرة ذاتية لسارق النار) والذي يشير من العنوان الرئيس إلى مهمة شعرية لسبر أغوار ذات عبر سيرتها الأسطورية، لكن مضمونا، هناك قناع يخف? البياتي نفسه خلفه، وبداية نستهل قصيدة (المخاض)، والتي توحي لنا العتبة او الاستهلال التي تبدأ من محكي، ان الشاعر ألاح لنا بظل قناع نسبي، وقد استخدم الفعل (قال)، وهو اشارة ضمنية للمحكي شعرا، مشيرا الى الضمير (هو)، وهذا ما يؤكد ان الاستهلال يشير تماما الى وجود القناع .
قال: اقتليني ، فأنا أحب عينيك
ومن أجلك ابكي
كانت الكنائس القوطية الحمراء في بطاقة البريد
تستحم بالشمس ،
وبيكاسو غلاف العدد الأخير من مجلة "الحياة"
يرنو لضياء العالم الأخير
اعتقد ان الشاعر البياتي كان عامدا في تقيسه مفردة (الحياة) ليفرق بين معناها الشعري الخاص ومعناه العام من جهة، ومن أخرى التقويس إشارة ضمنية لوجود مجلة بهذا الاسم، وهنا يلوح القناع ويختفي تبعا لمضمون الجملة الشعرية، وكما ان المعنى الشعري لا يكون في غير الشعر ديناميكياً باشارة ضمنية كهذه، وتكون الصورة حيَّة بتكاملها في حدود الإشارة أو تتعداها، وليست جامدة المعنى كما في الكثير من القصائد غير المهتمَّة بالمعنى وانبثاقه، والقناع لابد أن يتيح للمعنى بلوغ ناصية الذائقة الجمالية، والقناع هو ايضا قيمة جمالية لها إيقا? داخلي يحسُّه الشاعر - الفنان، فيما يحس الانعكاس العضوي الشاعر – الذات، والشاعر البياتي كسارق للنار يمثل الفنان، فيما هو كسارد لسيرة تمثله الذات، والتي هي تكوّن وجدان السيرة الذاتية ومضمونها الشعري.
ينتقل البياتي عبر بلاغته المؤله شعره من صورة ذات مدلول على القناع ، الى صورة اخرى توحي به عبر حس أدبي، ويكون الوجدان الشعري دلالة ذلك الحس الأدبي الذي يرتبط بالقناع آليا، والبياتي يجدد شكل قصيدته، بعد تجاوزه التهشيم الضروري، ويرسم ملامح غير ذاتية داخل كيان الصورة الشعرية, تكون متعددة الإحالات، لكن غنى مضمونها الشعري واضح، وكذلك قيمتها الجمالية كصورة ابداعية، والبياتي عبر تنوع إيقاع لغته الشعرية البليغة يتيح للقناع في التشكل ان يمحو صورته السابقة المتشكلة، ففي قصيدة ( السمفونية الغجرية ) نجد الحس الأدبي تشك? بصورة غجري، ويتأكد ذلك منذ بداية النص، ويقول في مقطع تمتزج فيه ألوان الطبيعة بالأحاسيس.
على أبوابه يرسم أشجارا وقبرات ليل راحل
تلاقت العيون والشفاه
صاح الغجري خائف : توقفي ايتها الريشة في مدار هذه اللعبة – الفاجعة
العذراء دارت دورتين
وقفت
هذا المقطع توضحت فيه ملامح اتجاهين فنيين، الأول منهما يرتبط بالقناع، حيث جعل البياتي المقنع يحكي ضمن الحدود الشعرية، ويخاطب كمتكلم، وقصد البياتي تميزه كي نجلي فكرة القناع عن المتحدث، ويكون كيان الغجري الشعري يعبر عن إحساسه كذات داخل كيان النص الشعري، والثاني يتمثل في وجود ملامح غجري تامة في تلك القصيدة، وهذا ما يجعل القناع فكرة تطوف فوق أفق النص الشعري، وليست هي داخله، وترتبط الذات الشعرية بالإيقاع الداخلي، فيما ذات القناع مرتبطة بالإيقاع الخارجي، والشعر طبيعته مضمونا أو تأويلا، وهنا دور بلاغة البياتي في ت?كيد المضمون الشعري من جهة، وتأويل القناع من جهة أخرى، لذلك في ديوان سيرة ذاتية لسارق النار على وجه الخصوص، تواجه مستويين من الشعر بإطار بنيوي، حيث هدفية الشاعر في طر المضمون والذائقة والقيمة هي وحدات مستوى عمودي، فيما القناع والميثولوجيا والمعنى العام هي وحدات مستوى افقي، يجاور ما في القصيدة العمودية من ميزات طافية على سطحها، ومن أسلوبية وفلسفة قصيدة النثر في استخدام لفظات شعرية غير معهودة فيما هو سائد لدا الشاعر، وفي القصيدة التي حملت ذات العنوان الأساس للديوان، نواجه استهلالاً شعرياً ساخراً وانفعالياً وم?مرداً، وفيه بعد أيديولوجي لكن غير تقليدي .
اللغة الصلعاء كانت تضع البيان والبديع
فوق رأسها باروكة
وترتدي الجناس والطباق في اروقة الملوك
في عصر الفضاء – السفن الكونية – الثورات
كان شعراء الكدية الخصيان في عواصم الشرق
على البطون , في الاقفاص يزحفون
ان البياتي بث كل مقومات المعارضة الإنسانية والسياسية في عموم شعره تقريبا، وقلما تجد شعره خارج ذلك السياق، وفي القصيدة التي حملت ذات عنوان الديوان (سيرة ذاتية لسارق النار)، نجد نفس التوصيف الذي أشرنا اليه سابقا، حيث كان المقطع الشعري أشبه بثورة لغوية على لغة المديح المجاني الجوفاء من جهة، ومن أخرى هو إعلان عبر الشعر عن موقف لشاعر له أهميته العالمية، ومن جهة ثالثة تأكيد على ان الشعر الحقيقي لا يكون موظفاً بذلة لخدمة ساسة او إيديولوجيات، بل انه تعبيري حيوي ادبي عن المعنى الحياتي، واعتقد ان القناع كان احد االحاجات  المهمة التي كانت إحدى علامات شعر البياتي البارزة، وبه قد ناور في المضمون الكتابي، فكانت قصائده ولا تزال قيمة إبداعية أسست لمصطلح وموقف مهم ومعتبر إنسانيا.