ادب وفن

أشد ما نخاف أن تأتوا في وقت متأخر / ناجح المعموري

الانتظار مفردة تكررت كثيراً في مسرحية المبدع علي عبد النبي الزيدي والتي أخرجها راهب المسرح البابلي ثائر هادي جبارة.
والتكرر المتلاحق لهذه المفردة قصدي ولم يكن اعتباطاً وله دلالات عديدة, اهمها ما يومئ اليه في اليومي / المعيوش / المعروف, ولم يكن انتظاراً ميتافيزيقيا. صارت حياة الجماعات انتظاراً واحباطاً , وكلما تعمقت ثقافة الانتظار للفرد او الجماعة, كلما ازدادت هيمنة السلطة وقهرها وملاحقتها و مزاولة الطرد للأبناء عبر الحروب و السجون , وتكاد تكون هذه المونودراما , حكاية عراقية بأمتياز اختصرت سرديات كثيرة , واشتركت بها عوائل عديدة, بحيث تحولت هذه المسرحية الى صوت اختصر تاريخاً من القهر و الاخضاع و الازاحة.
المثير في مسرحية انتظرتهم, سيادة الصوت الواحد مثلما هو معروف في مثل هذه التجارب المسرحية, لكنه - الصوت الواحد - استدعي حضوراً متنوعاً ومتعدداً, منحها قبولاً من خلال مشاركتهم في تراجيديا الحضور والغياب والترقب ورسم شبكة من الاحلام المتناسلة في زمن الترقب والتوقع, زمن الانتظار والتشوف, هي احلام متكاثرة , تزداد في كل لحظة, ومن حق الكائن ان يحلم واذا كف الحلم خسر كينونته الانسانية هذا العمل مأساة عن الكائن, الجماعات في زمن معلوم , واخر مجهول هي تصورات عن الاخر المطرود من الحياة في كل مكان من عالمنا الواسع , لكن على الزيدي جعل من هذه المسرحية كاشفة عن المحنه و الامتحان وقد التقطه المخرج و المبدع الكبير ثائر هادي جبارة وعلق مرأة وسط المسرح , ليمنحها طاقة رمزية كبيرة, وتسجل كل ماحصل وانعكس على سطحها
انتظرتهم يا علي , ربما هو المقدس المعروف , و ربما هو المؤلف بحوار مع الشخص الغائب , المعروف ,المجهول لكني اعتقد بالطاقة الفنية التي يتمتع بها الفنان علي الزيدي, الذي دائما ما يلجأ الى نوع من الحوار مع المقدس, ويقول له اشياء كثيرة وبدون خوف وخشية, واذا افترضنا علي هو المقدس, فانه ظل حاضراً في الذاكرة والهوية وكان سبباً في فجائع الدفاع عن الهوية ولم يحرك ساكناً والجماعات تتوسل في كل لحظة يستعين بطاقته الخارقة لمنح الخلاص للجماعات المخذولة , المطروده من احلامها التي لم تقدم غير ما هو ضدي, عودة الابناء وسط اكاذيب الشهادة ملفوفين بالعلم الذي فككه المخرج وسأتحدث عن ذلك لاحقاً.
الانتظار طويل/ ومرير وحتماً تخلل هذه الاحلام تحولات كثيرة و ضغوطات قاسية . الراوي حالم بوضوح تام, وهو لايريد زمناً طويلاً للانتظار لأن هذا افساد لاحتمالات التحقق اشد ما نخاف ان تأتون في وقت متأخر كتبنا وعيوننا على الدرب يا علي. كنت خائفاً ولكنني انتظرتهم وقد زرعت الطريق الذي سيأتون منه احلاماً و وروداً و عيوناً وذكريات.
ظل النص القصير محكوماً بالنمطية غير المحركة الا بأستثناءات قليلة مثال ذلك دخول اللغة العامية بقوة وتخلخل نمط الكلام والحوار واحياناً اللعب على الانحرافات في المفردات/ اليأس... يا ناس/ وكذلك حاول الزيدي الاستفادة من الذاكرة والتاريخ, فكان استدعاء الف ليلة وليلة, وعجائب الدنيا. وسط انهيار الراوي وحلمه بقميص جديد و مشاركة الذاكرة لزحزحة النمط والركود / خرجت يوم العيد... بملبس جديد/ واستطيع اختصار وجهة نظري حول النص المتمركز حول النمط المتكرر, و لم يسعفه الزيدي بوحدات نصية داخله للتنوع, والمونودراما ليست منغلقة على وحده فنية واحدة لكني ادركت بأن الفنان ثائر هادي جبارة قد ابتكر عرضاً لم يتقاطع مع النص, وللحقيقة اقترح علامات كثيرة في العرض, لعبت دوراً في القراءة والتأويل ما نطوت عليه بليغ بدلالته, وكافٌ لبث شفرة الحصار والاصطياد الرمزي , وجعلت من الراوي ضمير الجماعات كافٌ لاجراء تمثيلات على ما عاشه الوطن, فالجزء خازن للكل. وتفضي رمزية الشبكة للدلالة فيها شعرية ومرونة, حتى تمنح المتلقي فرصة معاينة مايجري على المسرح , كذلك هي رمز شفاف وظفه المخرج برؤية و بنجاح وبقوة, واتسع الرمز, هذا لاختطاف العلامات ذات القيمة الوطنية العليا فالسارية الخاصة بالعلم العراقي بوصفه رمزاً حاضناً للغائب و الحاضر والمنتظر, كانت واقفة على اليسار او اليمين, ولكن لاوجود للرمز الوطني, والعلامة المتعالية حتى وان كان على الارض, وهذا ما احتوته الرؤية الفنية للاستاذ ثائر حيث توزعت قطع العلم وكأنها وهذا المتحقق تفككت وفقدت دلالتها الشعرية المرتبطة مع الذاكرة الجمعية, لكنها لم تغب تماماً , لان الرؤية المنطوية على تنوع المعاني تأخذ المتلقي نحو العناصر الصياغية للعلم.
ولعل الثنائية عن عباءة الام ولون العلم الاسود هذه العلامة التي ما كفت عن وظيفتها في تغليف التوابيت مما يعني توسع فضاء التغيب للابناء وهو نوع من التدمير "اين هي الارض التي قالوا لنا انها ارض الانبياء والاولياء والصالحين".. "يا علي.. ابكي على وطني , ابكيه .... تلك الدموع النهر, ايستحقها ذاك الذي لم يهبني سوى القطارات التي لا تطلق سوى صافرات الانذار ولم يهبني سوى مصاطب المحطات المكتضة بالانتظار والبساطيل و الكراجات التي تقلني الى كراج اخر و اخر يقلني الى الموت؟
اختصر تاريخ طويل و سرديات حاضرة و لم تغب كلياً عن الذاكرة الجمعية , تفكك الوطن / المكان و توزع العلم , كل لون / قطعة في مكان و حصل انحراف للعلامة, بعد تفكك الرمز الوطني.
وكل لون من ألوان العلامة الوطنية المتسامية زاغ واكتفى بما يوميء اليه في الحياة العراقية, ان العناصر اللونية ذات دلالة مثيرة و شعرية فاالاخضر حاضر, يفضي عن بقاء الحلم الانبعاثي واستمرار الخصوبة في الحياة على الرغم من سيادة الموت, والانتهاك المرموز له باللون الاسود, وما اراد الفنان جبارة العمل عليه هو الديمومه / البقاء/ استحالة حصول تعطل كلي للحياة , فالبياض طاقة الكائن وهو جزء حيوي من الحلم, مثلما هو المستقبل. دلاله الاخضر الانبعاثية و الصلة المشتركة بين الاسود والاخضر. وتميز الاخضر بهيمنة مركزية دينية, لان اللون الاخضر وضعه المخرج وسط المسرح وظل معلقاً ومجاوراً للمرآة. وكان المخرج منحازا للمقدس بوصفه شاهداً, ومراقباً, لكن الدلالة العميقة ذات الطاقة في الاحالة, هي ان الفكر الفلسفي, قدم قراءة واضحة ومعروفة للمرآة ومنهم والترزبنيامين / هايدجر/ نيشة , و أولهم الجاحظ الذاهب نحو الغربة والاغتراب ووجدت في رمزية المرآة هي نوعاَ من الشاهد/ وذاكرة تاريخ موضوعي اكثر مما هي شهادة على الروحي, الذي ظل معطلاً و النص يختزل كل العطلات في الحياة الجمعية المقترنه بالدين, الذي دخل طرفاً مهيمناً في سقوط ساريتي العلم, اثناء العرض و تحول العلم الى خرق بالية, والدين و من يمثله سبب خراب هائل كما ظهر ضمن سينوغرافيا العرض رموز الدين السياسية وسيط كبير وفاعل, ومؤثر ومهم مقامرون ووجود ورق القمار بيد الفنان ونثرها كافية للتعبير. عن ذلك ومثل هذه الانتباهه الاخراجية أكدت قطيعه بين المقدس و تمثيلاته في الحياة / السلطة لذا أعلن المخرج ثائر هادي احتجاجاً قاسياً وهجاء مريراً لتمثيلات المقدس. بتحقيق حلم الخلاص لذا حلق لحيته امام الجمهور وتخلص من لحيته ورمزها.
صار المستحيل متحققاً والخلاص معيوشاً وضع نهاية لسرديات الفجائع التي ازدحم بها النص وشطب على التراجيديا. هذا لم يقله النص لكن الرؤية الاخراجية وصلت الى لحظة غياب الراوي و اختار المخرج تشابهاً مع يسوع لكني واثق بأن الحلم حاضر حتماً بمعنى الفوز بالخلاص "ولكنني انتظرتهم و قد زرعت الطريق الذي سيأتون منه احلاماً وروداً و عيوناً وذكريات"، هذا الحوار مركز ومغتن بتصورات الآتي الذي سيأتي حتماً. اخيراً نجح الفنان ثائر هادي جبارة لرؤيته الاخراجية وانضج النص بتفاصيل العلامات واعتنى العرض بطاقته على الحركة و مسح: الحزن والخسران والفجيعة المتلبسة ايقاع صورته. جاء المستقبل/ الخلاص ولكن "في وقت متأخر".
دخل الراوي في فضاء التغيب و رسم صليبهُ على المسرح و لم يبق غير المرآة راوياً لأنها سجلت كل ما هو حاصل عبر عينها الواسعة. وهو يود استعادة الفجائع فلنحدق بمرآة ثائر هادي جبارة.