ادب وفن

سيرة المكان وقدسيته / جاسم عاصي

العتبة الأولى
عتبة كـ "النجف، الذاكرة والمدينة" تُثير أكثر من قراءة. فنحن إزاء عنوان مجزأ أصلاً وفقاً لوظائف هذه الأجزاء. فـ "النجف" مدينة معروفة في تاريخ المدن عامّة والمدن ذات الخاصية الدينية خاصّة. كما وأنها مستثناة من المدن المقدسة، بسبب احتوائها ضريح رمز من رموزها وهو ضرح الإمام علي "ع" وفي هذا نوع من التفرد ، سواء من خلال هذا الربط، أو عبر تاريخها الذي يقترب من الأسطورة في اكتشاف قبر الإمام وتشييد واقع على حقيقة وليست تصورات من بناة الخيال. أي أن ما هو مشيّد "مدينة النجف" أصبح حاصل تحصيل للبحث عن الحقيقة، التي أكدها الرواة الثقاة. أما وجود الفاصلة "،" بعدها فدليل على شرح، كما لو أننا وضعنا ":" علامة إلى ما يلي من تدرج في الكلام أو الكتابة. بقي لدينا مفردتين "الذاكرة و المدينة" فهي هنا ليست "ذاكرة المدينة" كي ننتهي من تصوراتنا لما يأتي في النص. بل أن الذي كان هو إن المفردتين انفصلتا بـ "و" الإضافة. وهذا يعني أنهما منفصلتين في المعنى الذي يبوحان به من خلال النص. أي أن للذاكرة المكانية والشخصية مقامها وركائزها، والمدينة لها توصيفاتها. بمعنى نحن بإزاء معمارين بنيويين لابد من ملاحقتهما باستقلالية، بالرغم من أنهما على صعيد التسجيل مندمجتين. ومن خلال السياق العام، يمكن أن نقف على تفاصيل العلاقات بين الأفراد والجماعات، وعلى ما يدور داخل المدينة من حراك معلن، لكنه يُشير إلى مضمر أو ما نطلق عليه اصطلاحاً المسكوت عنه، وهو نوع من فلتات الكتابة وحيثيات البنى الفكرية المعارضة للنمط، حيث توحي بسر مكنوناتها وعلى شكل وجهات نظر. ما نخلص إليه من عتبة العنوان واسعة الرقعة والدلالة من خلال اشارات وعلامات التنقيط التي أدت وظيفتها في ما يخص أطراف العنوان الثلاثة.
العابر والماكث
عنوان نجترحه للتعبير عن عابر سبيل في المدُن القصية، ونقصد به أنموذجاً زهير الجزائري الذي شكّل عنده السفر والتجوّال جزءاً من قلقه الوجودي، الذي استجاب لضغط الأزمنة بلا شك. فتجواله في مُدن المنفى، وفر له فرصا كثيرة، لعل أهمها شعوره الأكيد بالمكان الأول، فقد كان اللا استقرار، والمحو السريع دونما أثر للأمكنة العابرة للإرادة وللذات، لا تترك أثراً يوازي أثر الطفولة والنشأة الأولى في المدينة "النجف" لذا نجده يرتبط بالأمكنة باعتبارات الممحاة "المدن التي أدخلها وأغادرها، هي ذاتها. التنقل الدائم بين المدن سلّحني بنوع من الاسترخاء والتبطر" وهذا يعني عمدٌ إلى الاهتمام بالأثر. كما وأنه وبحكم تاريخه الجديد المكوّن لشخصيته العابرة للأمكنة، قد تغيّرت بنيته وفق تغيّر صوّر المدن "أنا حيث ما حللتُ ذاك الواحد الذي تمرّ به المدن وناسها كأشياء عابرة" وهذا مقياسه المضمر في الذاكرة عن المكان الذي كان ماكثاً في حاضنته بالرغم من فوضى وجوده آنذاك. فالأزمنة هنا تتلوّن ويتواصل تخاطرها طالما ثمة مثير غير مرغوب، بل لا يشكّل بنية مضافة لتاريخ الشخصية. وهنا نجده يؤكد بالإشارة التي تتناول ما يخص المكان ظاهره وباطنه. فالأمكنة في المنفى تتبدل ظاهراً، لكن المهم للرائي، كيف يعرف سر هذه الأمكنة. ثم مضمر لا يُشاهَد، يتعسر على العابر حدسه ثم تأكيده كمعنى. وهذا ما يشغل رائينا "زهير" رؤية الباطن تأتي من معايشة تاريخ المكان، أي طفولته المنحدرة مع طفولة الإنسان وبكريته. هنا لم يحصل لرائينا البديل وهو يجوب سحر الأمكنة التي تفوقت على مكانه الأول معمارياً. لذا فهو يؤكد على سؤاله "كيف أعرف الذات الخفية للأمكنة التي أزورها دون أن يُبهرني المظهر" وخير البلاغة في استخدام عبارة "الذات الخفية للأمكنة" والتي أشرنا إليها بالمضمر من الصوّر.
إنه وبهذا المحوّر من التسجيل، يربط المستهل من المذكرات، بما تلاها كخاتمة، التي سنأتي عليها لاحقاً. فالذي يهم هنا الكيفية التي استقبل بها مكانه الأول. تلك الكيفية المكللة بالوهن من التجوّال في المنفى خلال أربعة عقود. فهو يدخل وجلاً من ثلاثة مخاوف هي "النسيان، اللوّم، الموت" فالنسيان هنا نسيان الذات لتفاصيل الأمكنة، ونسيان الآخر لوجود العائد. أما اللوّم فمنصّب على ما سوف يبوح به الآخر إزاء هذا النأي. أيسميه جحوداً أو نكراناً؟ أم أنه ينظر إلى العائد بتسامح. ولكي لا نتسرع في الإجابة نترك للخاتمة وما تبوح به. أما الموت ؛ فأنه محفوف بموت الآخرين أولاً وموت الأشياء ثانياً. وهذان يقودان إلى موت ما يحب العائد. ولعل هرم وشيخوخة المكان هي الأهم في رؤى العائد من غفوته عبر يقظته. فهو عارف أنه كان قد انتقل"من مدينة الكلام إلى مدينة النقود" وواضح وجه المقارنة بينهما. غير أن حدس العائد عابر لمثل هذه التصوّرات، فهو يتوقع لوّماً آخر أكثر بلاغة وقصدية مرّة "سيلومني الاقربون، لأنني تركتهم في أيام الفجيعة، وأعود متأخراً، حين لم يبق غير الرماد والجنائز".
وسؤاله الذي يتكرر عن التشكيل الذاتي والتشكيل العام، ذلك لأنه وجد مغايرة ومفارقة، في وجوده وسط مدينة لها طابعها الخاص، الذي لم يسحبه كلية إلى مجاله. فقد اكتسب من محيطه ما يؤهله لأن يكون ذا بُعد رؤيوي وعميق لما رأى ويرى وسوف يرى. لكن سؤال "أعجب كيف أن هذه المدينة شكّلتني ولم تشكّلني على لهفة زوّارها المؤمنين! كيف أن قدسيتها لم تمنع تشكّل جيل من أبنائها العلمانيين"؟
الخروج عن المألوف
الصراع داخل المكان ناتج عن طبيعة تركيبة المدينة. ولأنها محافظة على تقاليد دينية، فقد أكد الكاتب على حقيقة طرحه على شكل سؤال في موّضع آخر من الكتاب مفاده: إنه ليس من المنطقي أن يكون ثمة تيار يُنشئه أفراد يتجمعون على بعضهم، ذوي نفس علماني. كذلك أكد على أن التيار الديني لم يمنع أن تكون هنالك توجهات خارج السياق العام. وهذه التوجهات بطبيعة الحال هي بنيات متفرقة تنشأ ضمن الحراك العام، لأسباب منها النزوع إلى التمرد، والخروج عن الملل والروتين من جهة، وبسبب التأثر بنوع المعرفة التي اكتسبوها. لذا نشأ مثل هذا الصراع. ولكن طبيعته أن لا يعلن عن مواجهات مباشرة، فقط يُشير إليه خطباء المنابر. والمبرر إلى ذلك وجود تيار ديني منفتح على المعارف الأخرى، وبما حدد العلاقة بين الدين وحرية الفرد. ابتدأ التمرد في ظهور علامات على الزي المعتاد، وهو الجبة والعمة، فقط بدأ يظهر منظر الأفندية، الذي بدا غير مألوف، ثم تدرج إلى شيوعه باعتباره زي المدارس غير الدينية التي انتشرت في المدينة، لاسيّما مدارس البنات.. ولعل في حياة الكاتب، كان التأثير قد انبثق من الأب الذي يلبس الزي الإفرنجي منذ البدء، واقتنائه للمذياع. وما إلى غير ذلك من عادات وممارسات جديدة في المجتمع. ولعل توجهات شعراء مثل "الجواهري، جعفر الخليلي، عباس الشيخ، الشيخ كاظم الدجيلي،الحبوبي" وغيرهم كانوا سمة مميّزة الظهور في المدينة.إن أهم الأمكنة بتقديرنا هي وادي السلام، الذي شكّل علامة فارقة في المدينة من بين المدن الأخرى.
لقد شمل الخروج عن المألوف على التقاليد الثقافية والمعرفية، متوجهاً إلى تغيير المكان. لاسيّما انتشار أهلها في الأحياء خارج المركز.
المركز والأطراف
لعل هذا التقسيم للمكان "مدينة النجف" يوحي ببؤرة أساسية للمكان، وهو موضع الضريح، الذي التفت حوله الأطراف، حتى حين امتدت المدينة إلى خارج مركزه. مما دفع بالمنظومة الاجتماعية أن تتخلى عن تماسكها بسبب التباعد المكاني في الجديد من الأمكنة. أي من الشارع الضيّق، الذي ينوف على الزقاق الملتوي، إلى الشارع العريض، والحدائق ما بين الأحياء. كذلك مساحات البيوت، واحتوائها على أسيجة، ونوافذ مطلة على الشارع. وهي بالتأكيد نوافذ أكثر سعة من نوافذ البيوت القديمة. وهذا يعني انفتاح البيوت على الخارج، مقابل ما كان من ضيق العلاقات بين ساكنيها. وكأن العملية طردية. لقد تطورت المدينة أفقياً، بعد أن كانت ملمومة على نفسها، يجمعها مركز الضريح، وحركة طلاب العلم والزائرين. كما وأن حسابات أبنائها كانت أكثر بعداً في استثمار المجال لتنشيط الحراك الثقافي والمعرفي، وذلك لتوفر بعض المكتبات التي تتعاطى الكتب التنويرية والمجلات الدورية، لاسيّما أن المدينة شهدت جُهداً استثنائياً في اصدار مجلتي "الكلمة وعبقر" مما وسّع دائرة المعارف ذات البُعد العلماني. صحيح حدثت ردود فعل إزاء ذلك، ولكن ردود الأفعال كانت محايدة، بسبب التزام المدينة بأعرافها الأسرية.
رؤى ما بعد العودة
أكاد أجزم أن رحلة "زهير الجزائري" عن المدينة، وتوزع وجوده في مدن العالم الشاسع طيلة أكثر من أربع عقود؛ أسهم في دفعه إلى مركز التشوّق واللهفة لمكان الطفولة. لكنه من خلال مطالعة شكل المدينة وإنسانها، وجد نفسه في منفى جديد داخل الوطن. وهذا مرّده إلى صورة المدينة التي فقدت هويتها التي أسستها على التقارب والمواجهة المباشرة بين أجزائها، وبالتالي بين حيواتها. ولعل قوله وهو ينظر إلى المدينة بعد تجوّال طويل، دال على صرامة المواجهة، وصورتها المخيبة للآمال "قبل أن أراها أطرح السؤال العصي؛ لِمَ هناك وليس هنا"؟
كما وأنه يندمج في الصورة الحاضرة بقوة، تدفعه صورة الأمكنة التي ترعرع داخلها "لن ألتفت إلى المدينة الأخرى، إنما سأضع المركز كنقطة تثبيت، وقبل أن أعبر الفرات، ألّم دروب المدينة وناسها حولي، لأعيد تشكيل المدينة وذاتي فيها"، وفي موّضع آخر "مدينة حائرة بين حاجتها إلى الخروج من أسوارها. لكنها تُهدم سوراً لتبني سوراً جديداً".