ادب وفن

انطون تشيخوف.. من الخوف إلى الثنائية الخلاقة / لفته عبد النبي الخزرجي

يعتبر انطون تشيخوف، الكاتب والفنان، رائد القصة القصيرة، والمبدع الأول في جعل القصص عملا فنيا ولغة زاخرة بالجديد والمتنوع والباهر.
لم يتعرف تشيخوف على حياة الطفولة كما الأطفال الآخرون، وقد ذكر ارنست ج سيمونز الذي كتب عنه بصورة تفصيلية في كتاب ضخم «ترجمة حياة تشيخوف»أن تشيخوف أشار في أخريات حياته، انه لم يكن ثمة طفولة في طفولتي.
إلا أن هذا الذي لم يكن ثمة طفولة في طفولته قد أنتج وقدم للإنسانية أروع ما أبدعته روحه التواقة للحب والفن والموسيقى والسلام، حيث أتحف العالم بقصصه ومسرحياته وفنه الراقي، «تشيخوف فنان لا نظير له، انه فنان الحياة، وقيمة إبداعه كامنة في انه مفهوم ومقبول ليس في روسيا فحسب، بل من الإنسانية جمعاء «.
ولد تشيخوف في بلدة صغيرة على بحر آزوف في عائلة كبيرة وكان تسلسله السادس في أبناء تلك العائلة المحافظة والمتزمتة جدا في حضورها الثابت للكنيسة، وعندما منح جائزة بوشكين عن مجموعته القصصية «في الفجر» عام 1888م، كانت تأثيرات تولستوي واضحة في بداياته، إلا إن هذا التأثير لم يستمر طويلا، فأختار له طريقا جديدة، وبدأت مسيرته الإبداعية تأخذ طابع الجد والموضوعية والعمل الفني المتوج بالرصانة والحذق والابتكار، وأهم ما امتازت به قصصه ورواياته، هو أن أبطاله وشخصياته، كانوا يتحركون بعفوية، من دون أن يكلف نفسه عناء التدخل في مساراتهم ومصيرهم، مما أعطى أعماله الأدبية روحا وتميزا وحداثة. لقد كان يمقت التعاطف مع شخصياته، ويدعها تواجه مصيرها.. حيث كان يراقب المشهد لأبطاله، ويتركهم يرسمون مسارهم بأنفسهم ويواجهون الحياة بكل تفاصيلها، بعيدا عن فضوله أو دون أن تكون له يد في توجهاتهم السياسية والاجتماعية والفكرية.
ولأن تشيخوف، كان يدرك منهجه في كتابة قصصه القصيرة ومسرحياته، بعد أن اختار له طريقا غير آمنة ولم يسلكها أحد قبله، فقد كان هذا إيذانا جعل منه فنانا من طراز خاص، وأصبح في نظر النقاد من أساطين الأدب العالمي ورواده الأكثر شهرة وذيوعا.
الغرض الفني عند تشيخوف
لم يكن تشيخوف كاتبا فحسب، بل انه كان وقبل كل شيء، إنسانا تفيض جوارحه وأفكاره ومفرداته، لغة جديدة في الحب، وصورة حديثة في نقل الحقيقة، وحالة فريدة في التفكير وطرح القضايا ذات الطابع الذي يمس جوهر الإنسان ومعاناته وطبيعة علاقاته المتنوعة والمتباينة، بلغة شفافة وفن رفيع،
وعندما بدأت أفكاره تعمل في مخيلته، وبدأ نضجه الأدبي في الكتابة الفنية، فقد اختار وتبنى قضية التقدم الإنساني، ولذلك نراه يوجه النقد لسياسة القيصر الرجعية والمتخلفة، كما انه لم يناصر أيا من الأحزاب الليبرالية أو المحافظة، مع كون الفكرتان هما السائدتين في تلك الحقبة في روسيا، ولذلك فقد تجنب الأحزاب، وتابع توقه للاطلاع على حياة المعذبين والمجردين من الحظ  كما يسميهم  فقرر السفر إلى سخالين، وهي جزيرة كانت تضم المبعدين والمعارضين لقيصر وسياسته المعادية للحرية والإنسان، وهناك اطلع على السجناء المبعدين ومعاناتهم القاسية مع الظروف الطبيعية والجوع والمرض والبعد عن الأهل والأصدقاء.
بعد عودته من تلك السفرة المتعبة والتي أضافت له هما جديدا حيث زاحمه المرض وقوض صحته المهزوزة أساسا من المرض المستوطن في جسده.
تجربته المسرحية
بعد أول عرض لمسرحيته «النورس البحري» وما رافقها من فشل كبير، كان الخوف والحنق قد أخذ منه كل مأخذ، لقد كانت تجربة قاسية جدا على تشيخوف، كان ذلك عندما تم عرض المسرحية عام 1896م، حيث قوبلت بفتور شديد وانعكس ذلك على صحة تشيخوف المتعبة أساسا، إلا أن المسرحية نفسها، وعندما أعيد عرضها على مسرح موسكو، صادفت نجاحا منقطع النظير، مما انعكس إيجابا في توجه تشيخوف لكتابة مسرحيته الشهيرة «بستان الكرز» ثم جاءت مسرحيته «الشقيقات الثلاث» التي رفعت رصيده الأدبي بشكل لافت وأضافت إلى فنه وإبداعه، صورة الكاتب المتألق، الذي لن يكبو جواده إلا لينهض أكثر قوة واعلى همة واشد شكيمة وثقة بنفسه وأسلوبه وطريقة عمله في الكتابة.
تجربته القصصية
عندما بدأ تشيخوف بكتابه قصصه الأولى، التي كانت هزيلة وهزلية وساخرة أيضا لكنه سخرها ليقتات من مردودها المالي الذي كان بأمس الحاجة له، وهو يواصل تعليمه في الطب، حيث أن تلك القصص كانت تتناغم مع الخط السياسي والمنهج الفكري لتلك الجرائد والمجلات التي يكتب على صفحاتها، ولذلك كان النقاد حاضرون في هذا الاتجاه «فقد اظهروا الفرق بين المئات من قصصه الساخرة والهزلية، أحيانا في طوره الباكر التي كتبت بروح الهزل المتفائل والخيِّر وجملة قصصه الناضجة تصف بتشاؤم عميق، القسوة، الشر، الرياء، وبلادة الحياة التي هي محزنة من غير نهاية، ورغم سيادة النفس الساخر والمتشائم في قصصه المبكرة، إلا انه و»للتأكيد يوجد مرح ونوع من الضحك في أغلب قصص تشيخوف المبكرة كانت المجلات تطلبها، والظروف تضطره إلى الكتابة فيها، إلا أن التحول الكبير الذي حدث في كتابة تشيخوف للقصة القصيرة، جاء تلبية لمنهجه الفلسفي الذي جعله يتحرك في ضوء الثنائية الخلاقة، وهي الفلسفة التي اختارها تشيخوف، في هذا الميدان، ولأنه كان طبيبا فقد كان ينظر للظواهر الاجتماعية التي يتناولها في كتاباته، نظرة علمية، لكنه جعل من تلك الظواهر لوحة فنية، بل انه عالجها في كتاباته وفق منهجه وفلسفته التي تبناها، وهي فلسفة أطلق عليها النقاد «الثنائية الخلاقة، «وهي» منهج يرد أصل وطبيعة الكون إلى وجود الحركة الثنائية المضادة».
وأهم ما يميز قصص تشيخوف أنها كانت تسير بعفوية ليست مطلقة، لكنها محكومة بمراقبة ومعاينة ومراجعة الكاتب، ومع ذلك فقد استطاع تشيخوف أن يخرج على شرنقة الكتابة التي سبقته.. وتمكن أن يعبد الطريق لمن يأتي بعده، حيث استطاع أن يصوغ أروع قصص نضوجه الفني اللامعة، كما يقول صاحب المقدمة.
وفي تموز من العام 1904 توقف قلب انطون تشيخوف عن عمر يتجاوز الأربعين قليلا، حيث إن ولادته كانت في العام 1860، ووقف مكسيم غوركي على جنازته، وكتب في مذكراته وهو يتذكر صديقه تشيخوف «في كل قصة من قصصه الساخرة، اسمع تنهيدة القلب البشري الهائلة والعميقة، تنهيدة يائسة للتعاطف نحو الرجال الذين لايعرفون كيف يحترمون الفضيلة والإنسانية، الذين يستسلمون بلا أية مقاومة ، يحيون كالسمك، لا يعتقدون بشيء سوى ضرورة الالتهام مثل التهامهم الحساء الكثيف بقدر ما، ولا يشعرون بشيء غير الخوف من أن أحدا قويا ووقحا سيهبهم مكانا يلتجئون إليه».