ادب وفن

«سماءٌ قريبة من بيتنا» وروائية ما يحدث / زهور كرام

عندما بدأت الرواية العربية مع زمن تشكلها ثم لاحقا مع تطورها، أخذت تُنتج منطقها السياقي، باعتماد أسئلة المجتمع والتاريخ العربيين، كانت تنطلق من تصور حول مفهوم الخيال، باعتباره مُفارقا للواقع، ومُختلفا عنه في منطقه وشكله ومظهره، ومن ثم في رؤيته.
فكان الاشتغال الروائي يسعى إلى التفوق على الواقع، بتركيب عوالم تتعمق في البعد الخيالي، باستعمال العجائبي والغرائبي والأسطوري، وجعل اللغة الروائية تركيبا مُعقدا من اللغات المقبلة من حقول مختلفة، وأحيانا متناقضة، في سبيل دعم مبدأ الخيال باعتباره مناقضا للواقع، وكلما ابتعدت الرواية عن الواقع، ليس من حيث الموضوعات والقضايا، إنما من خلال التعبير واللغة والتشخيص، حقق الروائي انتصارا على الواقع بتجاوزه. كانت هذه الرؤية الروائية تتماشى والمناخ العام للحريات العامة في البلدان العربية، كما كانت تستجيب لتجربة المفهوم التاريخي للخيال. غير أنه إضافة إلى ذلك - يعتبر استعمالا وظيفيا في علاقة الواقع بالخيال، من منطلق القدرة على التمييز بين الحدود الفاصلة بين الواقع من جهة، والخيال من جهة أخرى. ولهذا، عندما كنا نلتقي بتحذير الروائي في بداية روايته، بعدم الخلط بين ما يُنتجه الخيال "النص"، وما يوجد في الواقع "الحياة الاجتماعية/ التاريخ"، ويعتبر ذلك في حال وقوعه مجرد صدفة ليس إلا، فإن الروائي كان يُدافع عن قوة إدراكه الخلاقة، وقدرته على الإقامة خارج منطق الواقع، ما يضمن له وجودا استثنائيا مع مواصفات العلاقات الاجتماعية، ويجعل منه صوتا مرجعيا. هذا التصور بدأ يتلاشى، أو بتعبير آخر، لم يعد يستجيب لوضعية الواقع في الزمن الراهن، الذي بدأ يشهد تحولات تُربك الوعي، وتُخلخل الفهم، وتتجاوز ما كان يُعتبر خيالا. أصبح الواقعُ ما كان خيالا، وأضحى الخيالُ ما كان واقعا، ولم يعد ممكنا للرواية اعتماد تصورات ألغتها التحولات التاريخية والسياسية. هل يمكن اعتبار العلاقة الجديدة "واقع/ خيال"، تحديا للروائي قبل الرواية، مادامت الرواية تحصيلا حاصلا لقدرة الروائي على إبداع القدرة الإدراكية الخلاقة؟ ذلك سؤال، سيظل يتردد عند الاقتراب من واقع الرواية العربية، من مدخل انخراط المؤلف في مجال النص/ السرد، وهي ظاهرة باتت تُعين مجموعة من النصوص السردية العربية، خاصة المحكيات وتجارب التخييل الذاتي، نظرا لاستجابة هذا النوع السردي لهذا التعالق الواقعي/ المؤلف والتخييلي/ السردي. غير أن التحقق الإبداعي لهذا التعالق في مستوى الرواية، يبقى تحديا معرفيا وفنيا، لأنه يُقدم تجربة نوعية في زمن تطور الجنس الروائي في السياق العربي. تعد رواية" سماء قريبة من بيتنا" للمبدعة السورية شهلا العُجيلي من النماذج الروائية التي تُحقق هذا التعالق، الذي يُؤسس لحركية وظيفية للزمن العربي منذ بدايات الاستعمار التقليدي، وسياسة الهيمنة، ونكبة 48، وتهجير الفلسطينيين، إلى فوضى الحرب في سوريا، من خلال تداخل وظيفي بين الواقع والخيال، أنتج عبر التخييل صيغة روائية تعد إمكانية للتفكير في ما حدث ويحدث، عبر إعادة ترتيب نظام العالم في علاقة بالهيمنة الاستعمارية، وانعكاساتها على الأفراد الذين تحولوا إلى أوطان مشردة ومهاجرة ونازحة.
كل مُقترب من رواية شهلا قراءة، قد ينتابه بعض القلق من زمن قراءة الحكاية، لأنها تمنحه من جهة، الاعتقاد بانتمائها إلى السرد الأفقي، خاصة مع هيمنة السارد بضمير الغائب، ثم تناوبه مع ضمير المفرد المتكلم، ثم من جهة أخرى تُورطه في امتلاء الرواية بمحكيات/ معلومات متعددة، تأتي مُثقلة بتاريخ الجغرافيا التي تتآكل مع الحروب والانتكاسات وفوضى السياسة الاستعمارية، وتاريخ/ حالات الأفراد، وشجرة انتمائهم التي تتعرض للفقد والضياع والعبث، غير أن السرد يخترق هذا الاعتقاد. نحن لسنا بصدد سرد أفقي، أو عمودي- تجريبي، لأن السرد يتأسس على شكل مُعين من الترابط، الذي حين تستوعبه القراءة، باعتبارها فعلا مُنجِزا للنص، وليس متلقيا، أو بمعنى آخر، فعلا للتفكير زمن القراءة، فإن الإحساس بالقلق يتلاشى، ويبدأ إحساس جديد يعيشه القارئ، وهو ينتقل من ثقافة التلقي المألوفة "استهلاكا، تفكيكا، إعادة بناء الموجود" إلى ثقافة إنجاز النص. إن امتلاء النص بالأخبار والوقائع، وتاريخ حياة الأفراد وأسرهم، وحالاتهم وأوضاعهم مع الوطن والحرب، مع الحب والمرض، مع الألم والأمل، يضع القارئ أمام تحدي قدرته على التفاعل، من خلال بناء النص الممكن، الذي باستطاعته أن يقترح نظاما لفوضى المعنى. ولعل أهم مكون يشتغل به السرد في الرواية، هو الاشتغال التقني/ الدلالي في زمن الخطاب، والمُحقق بين حكايتين متوازيتين سرديا: من جهة حكاية فوضى الحرب في سوريا، التي أنتجت/ تُنتج اللامعقول، ومن جهة ثانية حكاية السرطان الذي أصاب الساردة والشخصية المحورية في النص "جمان بدران". الحرب على سوريا، والحرب على الجسد، وبينهما يتعمق القهر التاريخي والذاتي. لا نلتقي بالحرب موضوعا محكيا، إنما نرى الحرب انعكاسا على الأفراد والشعوب والتاريخ، حيث الإقامة في العتبة عوض الوطن "مخيمات، نازحين، مطبخ الإغاثة، المطارات"، وحيث السرطان يأكل ما تبقى من علاقة بالحياة "نبيلة، رشيد شهاب، هانية، جمان"، وعلى طبيعة الجغرافية التي باتت تلفظ أناسها، بطفولتهم وأمكنتهم وتاريخهم وأشيائهم الخاصة، بسبب عناصر الخلل "الاستيطان، التهجير، القتل" التي تُرعب معنى الانتماء الذي يحمله الفرد نحيبا تاريخيا "يعقوب"، "كان يشعر بأن في داخله بقعة سوداء لا سبيل إلى إضاءتها، وخواء يصعب ملؤه، إنه خواء الجذور المرعب". لذا، تعددت محكيات الهجرة، والنزوح، والألم والضياع والشرود والخوف والرعب، وأنتجت هذه الأفعال قلقا وجوديا تجسد في ضياع معنى ما يحدث.
هذا التشرد الوجودي لشخصيات الحكايات "الفلسطيني، العراقي، السوري…"، نظَمه السرد، ومنحه ترتيبا مُختلفا عن الأنظمة السردية المألوفة. لكل عمل روائي مظاهر قوة، وبلاغة تحقق روائيته، ورواية شهلا العجيلي تحقق بلاغة هذه القوة في عدة مظاهر، نذكر منها ثلاثة: الافتتاح السردي للنص، الذي تميز بتبليغ سردي، زاوج بين الاقتصاد والتكثيف، مع فعل التوليد. كل فعلٍ/ مشهد يلدُ فعلا، بإيقاع سردي سريع، يُنجز بناء مُرتبا، يأخذ شكل الخطوات المُندفعة بقوة إلى الأمام "سنة 1947، مشهد الجو، خروج الناس إلى الحديقة، الحديقة في حي العزيزية، وسط المدينة، شرفة الفيلا، فيلا المحامي بهجت الحفار"، ثم يتلاشى مع نهاية الافتتاح. يشكل هذا المقطع الافتتاحي ذاكرة السرد في رواية شهلا.
العنصر الثاني يتمثل في بلاغة حسن التصرف في نهايات المقاطع السردية. وبالعودة إلى جل النهايات، سنلاحظ تلاشيا بليغا، يجعل المقطع أو الفصل نصا قائما بذاته ولذاته. ويجعل إمكانية الانتقال إلى محكيات جديدة ممكنة، لأن المقطع السردي تصبح له ذاكرة بقوة التلاشي مع الانتهاء السردي، جاء التلاشي في نهاية الافتتاح السردي للنص على الشكل التالي: «تلك الفتاة الشقراء، ذات الشريط الوردي في شعرها، والجوربين الأبيضين، ستصبح في ما بعد السيدة "شهيرة الحفار"، التي كانت جنازتها هذا اليوم". أما المظهر الثالث، فيتجلى في هذه المعادلة الموضوعية التي تحقق فيها هذا التوافق بين الواقع والخيال باعتبارهما مرجعية الحكي، مع القدرة على ذوبان الواحد في الآخر، بشكل يتعطل معه الانتباه إلى المواد الواقعية، من أفعال وتواريخ وأحداث راهنية "ما يحدث في الرقة وحلب وعلاقة الفضاءين بالمؤلفة شهلا". على أرض سوريا، ومن خلال الرقة، وما يحدث في حلب، نقرأ أشكال الحرب التي أعلنت على الأفراد والشعب، وحولت الإنسان إلى مُهاجر ومُهجَر ونازح وفاقد للأمان.
"سماءٌ قريبةٌ من بيتنا" من الروايات التي تؤسس للتحول السردي في الخطاب الروائي العربي، في علاقة تفاعلية مع أسئلة الزمن العربي الذي يعرف بدوره تحولات جوهرية، تخص الإنسان والجغرافيا والتاريخ والذاكرة، يعني، تخص معنى وجود الإنسان العربي في التدبير السياسي العالمي التاريخي منذ الاستعمار التقليدي، إلى الاستيطان الإسرائيلي، فالاختراق السياسي الذي يُدمر العيش المُشترك، ويأكل الجغرافيا، وينحر الحلم، ويلد طفولة تُغادر طفولتها قبل الأوان، وتُحول الوطن إلى عتبات الانتظار "مخيمات، حدود، جسور، شواطئ الموت.."، وتجعل المستقبل زمنا ملغوما. في مثل هذا الوضع الذي يرتبك فيه الفهم، ويحل الالتباس، وتعم فوضى المعلومات، كما تعكسها الرواية حين امتلأت بالأخبار والحكايات، تصبح الحاجة إلى الوعي حاجة حياتية، قبل أن تكون ضرورة سياسية وتاريخية. تقول "جمان": "بحاجة إلى أن أحلل في مختبر التجربة المرة، كل الأفكار التي كونتني". على الرغم من الحضور المُثير للعناصر الواقعية ذات العلاقة بالمؤلفة، فإن الرواية لا تُوثق لسيرة معنى يضيع وسط فوضى الحرب، إنما المؤلفة، تُحول بعضا منها، منك، منا مادة تخييلية، حتى ترى هذا البعض، الذي يدخل ترتيبا مختلفا، لعلها/ لعلنا، تُدرك الفهم. تقترح الرواية العربية من خلال هذا النموذج منطقها للتفكير في ما حدث/ يحدث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وناقدة مغربية