ادب وفن

دلالات مشاركة المثقفين في الربيع العراقي

فاضل ثامر
رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق
يكشف النهوض الجماهيري الواسع الذي شهده العراق منذ الحادي والثلاثين من تموز 2015 عن مجموعة كبيرة من الدلالات السياسية والثقافية والاجتماعية التي يتعين علينا، مفكرين وسياسيين وإعلاميين ومثقفين وأكاديميين تدارسها وفحصها، وأود اليوم ان أشير إلى ظاهرة دلالة مساهمة المثقفين العراقيين الملحوظة في مظاهر النهوض الشعبي الذي يرقى بحق إلى ان يسمى بـ "الربيع العراقي"، والذي كشف عن تواصله والتحاق شرائح اجتماعية جديدة كانت تقف موقف المراقب والمتردد لأنها تعتقد ان مصالحها لم تمس بعد، ولكن حالما مست مصالحها وجدناها تشارك في الاحتجاجات الشعبية واعني بها شريحة الموظفين الذين تهدد مصدر رزقهم بمشروع نظام توحيد سلم الرواتب كاسرة حاجز الخوف والتردد، ومما له دلالته ان تنطلق مثل هذه الاحتجاجات من شرائح محسوبة على أجهزة الدولة العليا وفي المنطقة الخضراء بالذات.
ان هذه الحالة قد خلقت اصطفافا جديدا للقوى والشرائح الاجتماعية والطبقية، فقد توحدت كلمة جميع الشرائح الفقيرة من العمال والكسبة والفلاحين والمتوسطة من ممثلي البرجوازية الصغيرة التي كانت هي الخاسر الأكبر في تشكيلة النظام السياسي الطائفي القائم على المحاصصة وقد التحمت مع هذه الشرائح جموع غفيرة من المثقفين والحركات والتنظيمات الشبابية والنسوية وكل المواطنين الشرفاء الحريصين على مستقبل العملية السياسية وضمان تعزيز مبادئ السيادة الوطنية وعملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المستدامة.
ومن جهة أخرى تقف في الجانب الآخر القوى والشرائح الطفيلية التي أثّرت بطريقة أسطورية في لعبة المحاصصة السياسية فشرعنت قوانين للفساد وسرقة المال العام وقسمت ثروات البلاد ومراكز الدولة الحساسة بينها غنائم وإقطاعيات وهبات مما أدى إلى انفصالها كليا عن الشعب وهمومه الذي عانى ما عانى من ويلات الفساد والتمييز وغياب العدالة وسيطرة مافيات وحيتان القوى الطائفية على مقدرات البلاد والعباد والتي تضم كبار رجال السياسة والدولة والقسم الأغلب من أعضاء مجلس النواب وبشكل خاص أولئك الذين صعدوا على وفق شعارات طائفية وفئوية ضيقة فلم يبذلوا جهودا ملموسة للدفاع عن مصالح الناخبين وإنما أصبحوا شركاء في عملية الفساد السياسي والاقتصادي وحصلوا على ثروات ضخمة بالحق وبالباطل.. كما يضم هذا المعسكر الكثير من ممثلي الأحزاب والتيارات الطائفية شيعية وسنية على السواء الذين ارتضوا وللأسف ان يكونوا جزءا من منظومة الفساد التي دمرت المجتمع العراقي واقتصاده وبناه التحتية والثقافية ومن المؤسف أيضا ان تشارك في (مهرجان الفساد) هذا فئات من المحسوبين على رجال الدين والذين طبلوا وشرعنوا لآلية الفساد فأساءوا بعملهم هذا إلى سمعة الدين المبرأة من الفساد، ولا يمكن ان نستثني شريحة كبيرة من القيادات العسكرية والأمنية التي صمتت على مظاهر الفساد ودعمته أحيانا بل وأصبحت جزءا منه فكانت تشجع وتغذي ظاهرة العسكريين الفضائيين لكي تمتلئ جيوب البعض بالمال الحرام أو من خلال بيع السلاح والعتاد في السوق السوداء والذي يصل في الغالب إلى قوى الإرهاب والتكفير فضلا عن عدم الاهتمام بتدريب المقاتل العراقي وعدم الحرص على بناء عقيدة عسكرية وطنية، وما عملية سقوط الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى بهذه الطريقة المهينة إلا ثمرة هذا الفساد الذي يدين بوضوح كل المسؤولين السياسيين والعسكريين عن الملف الأمني والسياسي آنذاك.
لقد تأكد للجماهير الشعبية الغاضبة ان الحل يكمن في بناء دولة مؤسسات، لا دولة طوائف، وان تكون هذه الدولة مدنية ودستورية وديمقراطية لأنها الضمانة الوحيدة لوحدة العراق شعبا وأرضا، وان مشروع الدولة الدينية سيقود في النهاية إلى تقسيم العراق لأنه لا يمكن إقامة دولة دينية تلتقي فيها جميع المذاهب الدينية ولذا فسوف تكون هناك دولة دينية شيعية وأخرى سنية، مما يقود لا محالة إلى تجزئة العراق وتدمير وحدة مكوناته المتآخية، كما أثبتت التجربة الحية في العراق وفي جميع البلدان العربية والإسلامية التي ادعت قيامها على أسس دينية فشلها الذريع في إقامة العدالة وكانت سببا مباشرا في استشراء الفساد وتوقف مشروعات التنمية ومصدرا للتوتر والشحن الطائفي والعقائدي وعاملا من عوامل العداء للحداثة والتطور لان مشروع الدولة الدينية لا ينتمي إلى عصرنا وهو مشروع مسيء إلى قداسة وسمو القيم والمبادئ الدينية السامية التي شوهتها إلى حد كبير ممارسات فقهاء التخلف والظلام والإرهاب والتكفير الذين حوّلوا الدولة الدينية إلى دولة بوليسية أو طائفية تمارس أقصى درجات القمع والاستبداد ولا تخدم إلا مصالح فئات وشرائح محدودة من رجال الدين الذين يموهون أهدافهم السياسية تحت شعارات دينية.
ولو عدنا إلى التاريخ العربي الإسلامي لوجدنا ان الكثير من الصراعات والحروب الداخلية التي شهدها العالم العربي والإسلامي كانت ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو طائفي أو جهوي لكنها كانت تغلف بصبغة دينية أو طائفية لممارسة سياسة الإبادة والإقصاء ضد القوى التي تخالفها أو تستهدفها، وإذا ما استثنينا فترة حكم الخلفاء الراشدين فإن الدولة الدينية كانت تعبر عن المصالح السياسية ولم تكن تكترث بالدفاع عن القيم الجوهرية للدين الإسلامي الحنيف – وإلا كيف يمكن ان نفسر الصراع بين العباسيين والأمويين وبين حكام الطوائف المسلمين في المغرب العربي وفي الأندلس، وربما يمكن ان ننظر إلى اقرب مثال هو ما قامت به الدولة العثمانية من هيمنة على مقاليد البلدان العربية وممارسة سياسة استعمارية عنصرية واضحة باسم الدين، اعطوني مثالا عادلا ومضيئا واحدا باستثناء الدولة الراشدية للدولة الإسلامية عبر تاريخنا القديم والحديث؟
ومما يبعث على التفاؤل في هذا الحراك ان الجماهير لم تعد تنطلي عليها الشعارات البراقة الكاذبة السياسية والطائفية معا، ومزقت الأقنعة عن الوجوه الحقيقية للفساد، وأنها تواصل التحدي والدفاع بشجاعة عن حقوقها وحقوق جميع أبناء الشعب العراقي ومصالحه العليا في الأمن والبناء والعدالة والحرية.
وبين تضاريس هذه الفسيفساء الاجتماعية الناهضة يبرز دور شريحة المثقفين العراقيين التي تضم أدباء وفنانين وأكاديميين ومفكرين وتكنوقراط والذين برهنوا على حضورهم الفعلي والميداني في ساحات التظاهر والاحتجاج في بغداد وبقية المحافظات وكشفوا عن وعي استثنائي لجوهر الأزمة السياسية التي يمر بها العراق، وباعتقادنا فان حضور شريحة المثقفين يؤكد جملة من الدلالات والحقائق الجديدة التي يتعين علينا ان نأخذها بنظر الاعتبار، فلأول مرة تستعيد شريحة المثقفين هذه دورها الفكري والتعبوي بعد ان شلت قدراتها سياسة نظام الحزب الواحد التي مارسها النظام الدكتاتوري المقبور، وهي إنما تواصل تقاليد المثقفين العراقيين الثورية الملتزمة منذ تأسيس الدولة العراقية والتي وجدت تجليا لها في الوعي المتقدم لها في رفع شعارات التحديث والتغبير، فضلا عن قيادة حركات تجديدية وتحديثية في مختلف ميادين الإبداع والفكر والثقافة مثل الشعر والقصة والرواية والصحافة والمسرح والسينما والفن التشكيلي والبحث الأكاديمي.
كما تؤكد هذه المشاركة ان هذه الشريحة لم تعد تسجن نفسها داخل أبراج عاجية أو داخل سجون اللغة وشعارات الفن للفن، بل التحمت بهموم الجماهير وتطلعاتها وعبرت عنها بأدوات وتقنيات جديدة وحداثية، وهو ما يبشر بنضج التجربة الإبداعية وتنوعها وإمكانية تقديمها لعطاء نوعي ممكن في الفترة القادمة.
ومما له دلالة في هذا المجال ان المثقفين العراقيين قد كسروا حاجز الخوف النفسي من سلطة الرقيب البوليسي والطائفي والعرفي، وبدأوا يحققون مشروعاتهم من خلال استثمار هامش الحرية النسبي وعدم الخوف من شعارات تأثيم الثقافة أو تكفيرها والتي تطلقها بين آونة وأخرى بعض القوى المتخلفة والرجعية التي تتقنع وراء ستار الدين والأخلاق والفضيلة، فها هي اللوحات الجدارية تملأ الساحات في كل مكان، وها هي الموسيقى تصدح وهي تمجد بطولات الإنسان العراقي، وراحت تتساقط الشعارات المتخلفة التي تكفر الثقافة وتتهمها بالكفر والإلحاد والمروق عن الأخلاق والقيم النبيلة وهي ادعاءات واتهامات باطلة تكشف عن ضيق الأفق الذي يسم حامليها.
ان كل ذلك يؤكد إمكانية ان يتحول وعي شريحة المثقفين إلى وعي ذاتي بوصفها شريحة اجتماعية من حقها ان تشارك في صياغة القرارات السياسية والاقتصادية التي تقرر مصير البلد وترفض في الوقت ذاته محاولة تهميشها أو جعلها مجرد ملحق صغير بالفئات والشرائح السياسية والطائفية الطفيلية.
ونرى ان هذا النضج الملحوظ لوعي شريحة المثقفين يؤهلها لان تجسد قوة المثال للجماهير الشعبية المنتفضة من خلال خلق تقاليد ديمقراطية للتظاهر والحوار والاختلاف وتجنب سياسة الإقصاء وضيق الأفق والعصبويات الطائفية والعشائرية والاثنية والذاتوية، وهذا الأمر يمنح هذه الشريحة الفرصة التاريخية لكي تلعب مع قوى اجتماعية شعبية أخرى مثل الطلبة والشباب والنساء والعمال والكسبة دورا قياديا واعيا بما تختزنه من تجربة وثقافة ووعي للإسهام في بلورة ما هو جوهري وأساسي من مطاليب الجماهير وتحديد الطريق القويم للخروج من الأزمة وبناء نظام سياسي واقتصادي عادل قادر على ان يواجه تحديات العصر والمرحلة، ويستجيب في الوقت ذاته إلى مطاليب الجماهير العادلة والتي بدأت في التظاهر بمجموعة من الشعارات المطلبية المحدودة الخاصة بالخدمات العامة مثل توفير الماء والكهرباء لكنها راحت تنضج تدريجيا وتتخذ بعدا سياسيا لا بد منه، لان مصدر هذه الأزمات يكمن في الخلل الجوهري للدولة العراقية ومؤسساتها وبرامجها والذي سهل الطريق أمام استشراء تقاليد الفساد والمحاصصة والطائفية والسياسية وبالتالي خلق طبقة طفيلية أثرت بطريقة غير عادلة على حساب جوع الشعب وتخلفه وتدمير البلد وسرق ثرواته وشرعنة سياسات الفساد والتمييز والإقصاء والمحسوبية في كل مناحي الحياة.
شخصيا أعوّل كثيرا على الدور المستقبلي لشريحة المثقفين العراقيين التي ترفض التراجع أمام شعارات التهديد والتخويف والاتهام بالكفر والإلحاد والمروق والتي ترفض ان تبيع أقلامها وإبداعاتها لتجار السياسة ومافيات الفساد لأنها قد وهبت عبقريتها وإبداعها ودمها إلى الشعب العراقي وحده.