ادب وفن

في الإصلاح الثقافي

رضا الظاهر
كاتب وباحث
يعني الإصلاح، في الجوهر، اتخاذ إجراءات للتغيير السلمي نحو الأفضل تشمل جوانب الحياة المختلفة، وهو يختلف عن التغيير الجذري، والإصلاح، في جانب منه، مفهوم فكري، ومن هنا تباين دلالاته وتفسيراته.
ويفترض الاصلاح وجود أزمة في المجتمع تكون سبباً في اللجوء إليه، فتنهض قوى الاصلاح لحل الأزمة، بينما تواجه قوى المجتمع القديم هذه العملية، بكل الوسائل المتوفرة لديها، بما فيها المال والآيديولوجيا والقمع، وأحياناً السافر، حفاظاً على امتيازاتها ومواقعها.
وفي ما يخص الاصلاح الثقافي، يرتبط الأمر بتوفير مستلزمات أساسية بينها إعادة إعمار البنى التحتية للثقافة، وتأمين شروط نهوض ثقافي وفق خطة ستراتيجية تعتمد الكفاءات والآليات السليمة، وتعزيز دور الدولة في هذه العملية، وتنمية الوعي الثقافي، وضمان حرية التعبير، والتنسيق بين منظمات المجتمع المدني الثقافية ومؤسسات الدولة المعنية، بما يضمن ازدهار الثقافة الوطنية وثمار الابداع وحقوق منتجيه.
سمات الأزمة الثقافية
وفي ما يتعلق بالأزمة الثقافية (وهي جزء من الأزمة الاجتماعية) يمكننا الإشارة، من بين عناصر عدة، الى خمسة منها:
- "غياب" (هو، في الجوهر، تغييب) لدور المثقفين يعكس الخلل في موقف النخب السياسية من المثقف وإبداعه.
- غياب الدعم الحقيقي من جانب الدولة ومؤسساتها للنتاج الإبداعي، وتخلي الدولة عن مسؤوليتها في انشاء البنى التحتية للثقافة وتوفير شروط ازدهارها.
- عواقب الدكتاتورية وحروبها واستبدادها، وآثار الاحتلال وسياساته المتخبطة والفوضى التي خلقها، ويأس المثقفين من السياسيين الذين لا تحتل الثقافة مكانتها اللائقة في أنماط تفكيرهم وبرامجهم.
- معاناة المثقفين من تأثير ثقافة الاعلام وإحساس المثقفين بالتهميش على يد الحكام المتنفذين واستمرار نظرتهم الأحادية التبسيطية للثقافة الابداعية وتصوراتهم الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته.
- انسحاق المثقف تحت وطأة الاحساس بالإحباط والعزلة وطاحونة اللهاث وراء العيش على نحو يستنزف طاقته الابداعية.
وفي سياق تحليل الأزمة الثقافية لا بد من النظر في مصائر الطبقة الوسطى، فقد تعرضت هذه الطبقة، وهي حاملة مشعل التنوير وحاضنة مشروع الديمقراطية والمدنية، الى "غيبات" عدة، واتضحت ملامح هذا الغياب منذ اشتداد الاستبداد ونشوب الحروب والحصار وعواقب ذلك.. وأدى هذا الغياب الفاجع، من بين أمور أخرى، الى تحول في البنية الاجتماعية، وانهيار في القيم الثقافية، وسيادة للانحطاط الروحي في المجتمع.
والاستنتاج الأساسي هنا هو أنه ما دامت هناك منهجية محاصصات لا يمكن الثقة بأن أزمة الثقافة (والأزمة الاجتماعية من باب أولى) يتيسر حلها. وكل تفكير بمثل هذه الامكانية في اطار المحاصصات هو مجرد ضرب من الأوهام التي يتعين علينا أن لا نبقى أسراها اذا ما أردنا فهم الواقع حقاً وتغييره فعلاً.
الاصلاح الثقافي
هدف الاصلاح الثقافي اعادة الاعتبار الى الثقافة كجزء أساسي من حياة الناس وتوفير شروط نموها وتطورها بحيث تفعل فعلها على مستويين: المستوى التنويري، والمعرفي – القيمي والانساني لأفراد المجتمع، ومستوى نهضة المجتمع كمكون أساسي في سياسات التنمية.
ويعتمد انجاز هذه الأهداف على إعادة اعمار البنى التحتية للثقافة، وتأمين التمويل اللازم لإطلاق وانجاز عملية التنمية الثقافية الشاملة وفق ستراتيجية ثقافية مدروسة.
وعلى صعيد الدولة تبرز من بين الآليات الستراتيجية الثقافية الواضحة والمعللة، القائمة على الفهم العميق للموقع المؤثر للثقافة في حياة وتطور المجتمع، وعلى ادراك دورها في نموه وتقدمه، وهذه الستراتيجية ما زالت غائبة حتى اليوم.
وهناك الآليات والأطر القائمة، ذات الصلة المباشرة بالثقافة والتنمية الثقافية، وبينها: أولاً: تخصيصات ميزانية الدولة السنوية للأغراض الثقافية، التي يتم تمويل قطاع الثقافة منها عبر الوزارة المعنية ووزارة الاقليم ومجالس المحافظات وبعض المؤسسات الثقافية المتفرقة. وهذه التخصيصات تتسم بالهزال والعجز عن أداء المتطلبات الأساسية، وثانياً: وزارة الثقافة، وهي المؤسسة الرسمية الأساسية المعنية بالثقافة وإدارتها، وتبدو عاجزة عن النهوض بمهماتها، ويعود السبب الى افتقارها الى الرؤية الستراتيجية، وضآلة المخصص لها في الموازنة السنوية للدولة، خصوصاً الحالية، وافتقادها السياسات الملموسة والخطط السنوية للاعمار والتنمية الثقافيين، مثلما يعود الى الادارة غير الموفقة لعملها، والتصرف غير الرشيد بتخصيصاتها المالية المحدودة، الناجمين كليهما عن عدم العناية باختيار قياداتها وكوادرها المسؤولة، وثالثاً: المؤسسات التعليمية والأكاديمية والبحثية من معاهد ومراكز وجامعات، وهي ذات طبيعة تأسيسية بالنسبة الى الثقافة في معناها الاوسع مثل أكاديميات ومعاهد الفنون الجميلة التابعة لوزارتي التربية والتعليم العالي، والمجمع العلمي وبيت الحكمة ومراكز أخرى، ورابعاً: المؤسسات الثقافية في الاقليم والمحافظات.
وعلى صعيد المجتمع هناك، خصوصاً، المنظمات الثقافية ذات الطبيعة المهنية، والمنظمات الثقافية غير الحكومية، ووسائل الاعلام، فضلاً عن المنابر الثقافية الأهلية.
وفي هذا السياق يبقى اهتمام المنظمات الثقافية (اتحاد الادباء، نقابة الفنانين...) بالواقع الثقافي، وبدور الثقافة والمثقفين محدوداً، وربما غائبا، ويشكل اتحاد الأدباء استثناء، بدرجة معينة، على هذا الصعيد.
أما المنظمات غير الحكومية المعنية بالثقافة، والمنابر الأهلية مثل المجالس الثقافية فتتسم بمحدودية دورها وتأثيرها.
وأما وسائل الاعلام فقد لعب العديد منها، في ظروف العجز الراهن للبنية التحتية للثقافة، دوراً هاماً في التعريف بالنشاط والنتاج الثقافي، وكشف عجز الدولة وضعف دورها.
وبخصوص التغييرات الواجب ادخالها على الوسائل والآليات، ينبغي، أولاً، أن تستعيد الثقافة استقلالها، وأن تكف الدولة عن التدخل والهيمنة، وتهتم بواجبها الأساسي متمثلاً بدعم الثقافة ومبدعيها.
في ضوء ذلك يتوجب النظر في التغييرات والإجراءات الاصلاحية من خلال: استكمال رسم واعتماد الستراتيجية الثقافية الوطنية في بلدنا متعدد ومتنوع الثقافات، وإدخال تغيير عميق وجوهري في مجال تخصيصات الموازنة العامة السنوية للأغراض الثقافية.
ويتطلب الامر هنا نظرة مغايرة الى الثقافة من جانب النخب السياسية الحاكمة والمشرعين، تستند الى اعادة النظر في طبيعة وزارة الثقافة ووظائفها ومهماتها في الظروف الجديدة، وتتمثل، أساساً، في صياغة الرؤية الستراتيجية العامة للثقافة، بالتعاون والتنسيق مع المثقفين أنفسهم، وفي الرعاية الشاملة للثقافة، وتأمين الدعم للمبدعين - المنتجين المستقلين، وتقديم التسهيلات والخدمات والحوافز للنشاط والإنتاج الثقافيين بوجه عام.
وأخيرا .. بما أن كل مشروع سياسي لا بد أن يستند الى مشروع ثقافي، فان الديمقراطية هي الأساس الذي ترتكز عليه هذه العملية في صياغة مشروع نقدي يتمثل في إعادة انتاج العلاقات الضرورية بين الفكر والأخلاق والسياسة.
وبما أن الديمقراطية هي شرط ازدهار الثقافة فان التساهل في وضع المثل الديمقراطية موضع التطبيق يمكن أن يكون مقدمة لنمط من الاستبداد يحول الثقافة الى أداة إعلامية لتبرير نهج السلطة السياسية.
ويتعين علينا أن ندرك حقيقة أن بؤس الفكر السلطوي يمهد لنتائج سلبية في العمل السياسي قد تكون مدمرة، ويمكن القول، بشكل عام، إن سياسة خاطئة في حقل الثقافة تعكس خطأ ما في المفهوم والممارسة في حقل السياسة.