ادب وفن

الحراك الشعبي والوظيفة العضوية للمثقفين

سعد محمد رحيم
قاص وروائي وكاتب عراقي

المثقف محتجّاً مدنيّاً
باتت كلمة المثقف في التداول العام مرتبطة بعمليات التحوّل الاجتماعي والسياسي، فعند عتبة تلك العمليات يبرز المثقف فاعلاً اجتماعياً له موقع ودور ووظيفة.. وتاريخياً مع تغير المراحل والسياق والظروف يتغير، بهذه الدرجة أو تلك، موقع المثقف ودوره ووظيفته.
يفرِّق إدغار موران بين فضاءين تاريخيين مختلفين أنتجا المثقف المعاصر.. المثقفون Intellectuals بالمعنى الفرنسي، وهم نتاج مجتمعات متعلمة مستقرة حققت مستوى مقبولاً من التطور الاقتصادي والحضاري، وتحكمها سلطات ديمقراطية منتخبة، والمثقفون Intelligentsia بالمعنى الروسي، وهم نتاج مجتمعات يسودها الفقر والأمية وتحكمها سلطات استبدادية، حيث يتحدر المثقفون من طبقة ارستقراطية متعلمة تفصلهم هوّة عميقة عن عامة المجتمع، ولذا يأخذون على عاتقهم مسؤولية الثورة والخلاص، واليوم لم يعد مثل هذا التصنيف صالحاً تماماً، بالمعايير عينها، لا سيما حين نطبِّقه على مجتمعات في القرن الحادي والعشرين (مثل مجتمعنا العراقي) تعيش تناقضات وتناشزات حادة في بنياتها الاقتصادية والاجتماعية، وأشكال مؤسساتها، وتعاني من حالات اضطراب سياسي تصل إلى حد ممارسة العنف، وشيوع الإرهاب.
ارتبطت ولادة المثقف الجديد في أوروبا بالتنوير، وقيام الجامعة، وظهور الإيديولوجيات، وكذلك، كما يقول جيرار ليكلرك في كتابه (سوسيولوجيا المثقفين)، "بعلمنة المجتمع، بالسياسة، بالثقافة... يُربط المثقفون بالحداثة، أي بالعلمانية، بالتعددية الدينية، بحرية الأفكار، وبظهور الطباعة في نهاية القرن الثامن عشر، بالثورة الفرنسية، وبضغط ما يُعرف بحقوق الإنسان"، في هذا الخضم من المنعطفات المحايثة لنهاية عصر الإقطاع وبزوغ الرأسمالية أطلَّ هذا الكائن العارف، المتسائل، الناقد، النخبوي، المتمرد، الرائي، والشكّاك، أما في البلاد العربية فارتبطت ولادة المثقفين بصدمة الاستعمار، وانتشار فكر النهضة الذي صار يشع من قلب المؤسسة الدينية، مهدداً التقاليد الفكرية والمناهج القديمة باطروحات صادمة كانت إلى حد بعيد صدى لفكر التنوير الغربي ذاته.. كان عقل التنوير، هنا وهناك، يرمي، في الجوهر، إلى "فك السحر عن العالم" بتعبير ماكس فيبر.
في العراق، وحتى قبل تأسيس الدولة عام 1921، ألفى المثقفون أنفسهم مهمومين بالسياسة.. كان الوضع العام يتطلب من المثقف أن يحدد موقفه مما يحدث.. كان عليه أن يقول كلمته، وأن يخرج إلى الشارع ليهز وعي الناس ويحثّهم على الفعل المعارض.. أسس ذلك لحتمية ولوج المثقف العراقي حقل السياسة.. ومنذ ذلك الحين، وحتى الآن، لا صراع سياسيا ذا طابع حاسم من غير حضور الثقافي، وتورط المثقفين.
مع الاهتمام المبكر بالسياسة، وتأثير الشروط الموضوعية للواقع الضاج بالتناقضات والصراعات، ومفاعيل الأحداث الإقليمية والدولية، ومن ثم الاحتكاك مع القادم من شذرات الفكر الغربي بين الحربين العالميتين، وبخاصة بعد الحرب الثانية، وجد جلّ المثقفين العراقيين أنفسهم ميالين لجهة اليسار في تبني الإيديولوجية السياسية ومولعين بفكرة الالتزام على وفق ما فُهم من أدبيات الماركسية بمختلف مشاربها أولاً، والوجودية بالمنظور السارتري في ما بعد.. واستمرت فكرة (المثقف الملتزم) لصيقة بالسلوك العام للمثقفين ومواقفهم منذ ذلك الحين، وإن تبدل مضمون تلك الفكرة وكيفية استيعابه وترجمته فعلاً على الأرض بين هذا المثقف وذاك، وبحسب توالي الحقب وتقلبات الأحداث.
واليوم، حين نقول (المثقفون) فإنما نتحدث عن الشريحة الاجتماعية المتنورة التي حصلت على قدر كافِ من التعليم، وتشتغل في مهن فكرية، وتتعاطى مع الرموز، ولها رؤية للحياة، وموقف من قضايا المجتمع، وما يجري من حوله؛ في بلاده والعالم، طالما أن جزءاً مهماً من الصراع الدائر في كل عصر ومكان هو على المعاني والرموز.. إنه في هذا الجانب، صراع بلاغة وسرديات، كما هو في الجانب الآخر، صراع من أجل السلطة، وشكل السلطة ومضمونها.
تتكئ بنية السلطة على آلية الهيمنة، الهيمنة التي تعتمد كما يقول شيلي واليا على تسليم الآخر، وتعمل بحسب غرامشي "عبر خلق خليط من الأفكار المتضاربة، والزج بها داخل عقول الجماهير، في الوقت الذي يتشربون فيه المعتقدات والقيم الثقافية للطبقة المسيطرة، وهي تقصد إلى جعل التابع يقبل باللامساواة والاضطهاد بوصفهما ظاهرتين طبيعيتين وغير قابلتين للتغيير".
في المجتمع المعاصر، ومع تطور وسائل الاتصال والإعلام وأنظمة التعليم والثورة المعلوماتية من الصعب الحديث عن جموع جاهلة.. لقد بات الجمهور الغالب على قدر من الثقافة العصرية، له وجهة نظره، وموقفه المبني على قناعات، وهذا ما أطاح إلى حد بعيد بفكرة النخب العارفة القائدة بمعناها التقليدي السائد.. فتمييز المثقفين، عن الآخرين، في المجتمعات المعاصرة، ومنها كثر من مجتمعات ما عرف بالعالم الثالث، لا يخضع للمعايير التي تؤسس للتراتبية، فالمثقف لم يعد يحتل موقعاً فوق عامة المجتمع، وإنما بينها، وإلى جانبها، ويكون التمييز على أساس الدور والوظيفة المحددين للموقع، والمثقف الذي هو منتج للمعارف ومبدع للفنون الجميلة والمختص بالعلوم الإنسانية وخلق الأفكار والرموز ما عادت المسافة شاسعة بينه وبين الجمهور في المسائل التي تتعلق بقضايا الشأن العام، لاسيما السياسة. لكنه يبقى، بالمقابل، منشِّطاً للنقاش العام، ومصدر طاقة في الحراك المدني.. هكذا تجلت، أخيراً، صورة المثقف في المشهد السياسي العام الآني، محتجّاً مدنيّاً، "يقول الحق بوجه السلطة" على حد تعبير إدوارد سعيد.
ما يفرِّق بين مثقف اليوم (الفاعل الاجتماعي)، ومثقف الأمس النخبوي هو أن الأول قد كفّ عن الادّعاء بأنه يمتلك الأجوبة الصحيحة كلها ومفاتيح الحل، وعلى الآخرين أن يتبعوه.. مثقف اليوم هو المثقف الذي يطرح أفكاراً ورؤى للحوار، ويكون مستعداً لتغييرها إذا ما اقتنع بوجهة النظر الأخرى.. وما يميّزه، عن غيره، في لحظات الصراع المصيرية أنه يرى الظاهرة في سياقها بالعلاقة مع الظاهرات الأخرى، ويتمثّلها في صورتها الشاملة بموجِّهاتها وتحوّلاتها ومآلاتها، وهذا يتطلب منه القدرة على التأمل المنطقي البارد بأقل نسبة ممكنة من الانفعال والحماس، وفي سبيل المثال (عراقياً) لا يحلل المثقف ظاهرة الفساد بوصفها مجرد دالة للانحراف الأخلاقي لأشخاص بعينهم بقدر ما يفسِّرها معطىً لمشكلة بنيوية.. مشكلة تتعلق ببنية السلطة القائمة وآليات عملها، واستراتيجيات المتصارعين حولها والماسكين بمفاصلها، وإيحاءات الإيديولوجية الخفية التي تلهمهم، وجملة المصالح المتعارضة التي توجِّههم.. من هنا يغدو (الإصلاح) في نظره عملية مركّبة ـ مستدامة، وهو (في مثال ثانٍ) في حديثه عن الفساد لا ينسى الوجه الآخر البشع له، أي الإرهاب، حيث التواطؤ بين الإرهاب والفساد، حتى وإن لم يمرِ بالتفاوض المباشر، يُعد أخطر ما يواجه المجتمع العراقي في راهنه ومستقبله.
مثال آخر، نعرف أنه حتى وقت قريب كانت السلطات السياسية تكرِّس هيمنتها بالسيطرة على وسائل الإعلام وصناعة الأخبار وتسويق المعلومات، ومن خلالها تقوم بالترويج لإيديولوجيتها لتعيد صياغة قناعات الناس، أو شرائح واسعة منهم، وهم في نسبتهم الغالبة، في العالم الثالث، كانوا من أشباه المتعلمين أو الأميين.. لكن الميديا الحديثة في زمن العولمة جعلت قوى الحراك المدني، وهذا ما حصل في معظم بقاع العالم، تنتزع جزءاً مهماً من احتكار الحكومات لتسويق الأخبار والمعلومات، غير أن هذا الأمر لم يصب دائماً في صالح الحقيقة، الحقائق المختفية وراء ضباب كثيف من التشويش والتناقض والخداع.. هنا يتحدد موقع المثقف، ووظيفته، أن يستثمر رؤيته الثاقبة وذكاءه وكفاءته البلاغية في قشع ذلك الضباب.
ثمة نوع آخر من التوظيف للثقافي في صراعات السياسة، وهو ما ظهر في عصر العولمة والميديا الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية.. هذا النوع أوجدته السلطات على وفق قواعد ماكرة ومراوغة، فهو (أي المثقف) لا يعمد إلى الدفاع المباشر المفضوح عن السلطة ومصالحها لأن القائمين به سيصنفون حالا في خانة المتملقين الانتهازيين المنتفعين ولن يصغي إليهم أحد، وإنما يقوم بإخفاء نواياه ومقاصده بدهاء شديد.. يرتدي جبة الناقد للسلطة لكن طريقته ترسِّخ أركانها وتوجهاتها ومصالحها، فهو يشوش أكثر مما يوضِّح، ويخلط الأوراق بدلاً من فرزها، ويؤدي دور حصان طروادة ثقافياً، يصطف إلى جانب المعارضين والمنتقدين ونصب عينه تضليلهم والإساءة لسمعتهم.
اللافت في الاحتجاجات المدنية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أنها في الأعم الأغلب ذات طابع شبابي، فهي من أجل ديمومتها تتطلب قوة اندفاع الشباب وطموحهم، لكنها في الوقت نفسه تبقى بحاجة إلى ناظم ثقافي يجنبها التشرذم والوهن واللاوضوح والفوضى.. هذا الناظم الثقافي يستدعي نسغاً من الحكمة والرؤية الشفافة التي يوفرها الشيوخ والشباب معاً.. هنا أتحدث وفي ذهني صورة الاحتجاجات المدنية العراقية المنطلقة منذ أسابيع في مدن العراق الكبيرة.
يتجه جزء من احتجاج الشباب إلى إخفاق الآباء في صنع وطن حقيقي، آمن وقوي ومنتج وجميل.. الأمر يتجاوز العتاب إلى اللوم، وربما إلى التقريع أيضاً، وكأن لسان حالهم يقول، دعونا نغيّر ما أفسدتموه.
لا يتحقق النضج السياسي لأي مجتمع بين ليلة وضحاها.. إنه بحاجة إلى عقود طويلة من التجارب، والتعلم من الأخطاء، وتنمية حس الواقع وحس التاريخ عند الأفراد والجماعات. والمناخ الديمقراطي الذي يتخلله الحراك المدني الفاعل هو الأمثل لتسريع حالة النضج تلك، وفي هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا تؤسس ساحات الاحتجاج لذاكرة سياسية عراقية جديدة، فنحن معها على عتبة مغايرة تنبئ عن ترسيمة مختلفة، أنضج وأكثر فاعلية، للخطاب والأداء السياسيين.
جيل جديد.. مثقف جديد
تُنبئ مراحل الأزمات الكبرى بولادات جديدة، جيل جديد ومجتمع جديد وثقافة جديدة ومثقف جديد، فعمليات المخاض المكلفة بدعم من شروط مؤاتية لابد من أن تحقق وعوداً ومفاجآت، من غير أن ننسى ضراوة القوى المعيقة المدافعة عن بقائها، وحروب المصالح المتقاطعة، ومن ثم إمكانية الإخفاق أمام الاحتمالات غير السارّة، وهي واقعية بطبيعة الحال، حيث يقاوم القديمُ الذي يرفض أن يموت الجديد الذي تصعب ولادته، بحسب غرامشي.
ومن نافل القول إن الجديد لا يعني أنه قطع تماماً مع جذوره في الماضي، بل الأصح أنه راح يتعاطى معه برؤية مختلفة تتساوق وحاجات الحاضر والمستقبل. فيما القديم يعني، في سياق كلامنا، نمطاً من الأفكار والمؤسسات وآليات العمل التي ما عادت قادرة على التكيف مع تلكم الحاجات، وتلبيتها.
مثالاً حصلت قضية دريفوس الشهيرة في فرنسا نهايات القرن التاسع عشر في لحظة تاريخية مناسبة، منْ غير توافرها ما كانت لتلك القضية أن تأخذ بعدها الدراماتيكي المغيّر في ما بعد، فما فعلته أنها فتقت جلد الواقع الرخو سامحة لولادة نمط مغاير من المثقفين الفاعلين مجتمعياً وهم الذين أُطلق عليهم اصطلاح الانتليكتواليين (Intellectuels).. فإلى جانب مقتضيات سوق رأسمالية جديدة كانت ثمة أفكار تنضج على تخوم الحقل السياسي، فحواها الرئيس (العلمنة)، وفي ضمن قوس مؤسسي واسع يبدأ من التعليم وينتهي بتحديد اتجاه نظام الحكم.
يقول مؤلفا كتاب (تاريخ فرنسا الثقافي، من العصر الجميل إلى أيامنا هذه) بترجمة، مصطفى ماهر: "كانت المعركة من أجل المدرسة العلمانية ضارية في بداية هذا القرن (العشرين)، وقد كشفت قضية دريفوس Dreyfs النزعة النضالية العلمانية التي كانت غافية نتيجة لتحالف الكاثوليك مع النظام الجمهوري في عام 1892، أغلقت المؤسسات التعليمية ذوات الإدارة الدينية الرهبانية في عهد الوزير كومب Combes في عام 1904 واكتمل القطع نهائياً بالفصل بين الكنيسة والدولة في عام 1905".. وقد وُصفت هذه الحقبة المتوترة المأزومة، والضاجة بالمتغيرات بالعصر الجميل الذي شهد مولد الانتليكتواليين، وهم رجال أدب ورجال علم وفنانون كان ديدنهم الحقيقة والعدل والتصدي لقضاء ظالم، والدفاع عن الحقوق العامة، فضلاً عن "التزامات أخرى في حياة المدينة".. وهذا النمط من المثقف المهتم بقضايا التحوّل الاجتماعي والثقافي والسياسي أُعطي "وظيفة أخرى أكثر رمزية هي: استخدام رأسماله الفكري في أن يصبح ضمير أمة مضطربة".
ومنذ ذلك الحين حصلت قفزات كبرى في الوضع البشري، وصار العالم إزاء مشكلات مغايرة أشد تعقيداً واستعصاءً على الحل مما كان، على الرغم من المنجزات البشرية المذهلة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاتصالات والإعلام.. مشكلات تتعلق بالبيئة والسكان والهجرة والتهجير والحروب والنزاعات المحلية المسلحة والفقر والجريمة والمخدرات والأنشطة الاقتصادية غير المشروعة والفساد والطبيعة الاستبدادية للأنظمة السياسية، الخ.. وهذا ما فرض ضرورة النظر إلى العالم بعدّة منهجية ـ معرفية غير تلك التي كانت صالحة قبل عقود قليلة.
اُستهلكت طوال سنوات اصطلاحات كان لها بريق جذاب في الأوساط المثقفة والأكاديمية، وعند قوى المعارضة السياسية، لاسيما في عالمنا الثالث (إن صحّ استخدام هذا الاصطلاح حتى الآن)، ومنها، المثقف العضوي، والمثقف الملتزم، وهما اصطلاحان نُحتا في سياق تاريخي مختلف، واكتسبا دلالات متباينة لمّا جرت استعارتهما في ظروف وسياقات تاريخية أخرى.. ففي العالم الثالث ومنه العراق، خرج المثقف الحديث من تحت يافظة المعارضة السياسية إبان عهدي الكولونيالية والاستقلال.. ومنذ البدء كان هذا المثقف مثقلاً بالإيديولوجيا، ومحفَّزاً بفائض من الانفعالات، وحالماً بيوتوبيا صلتها واهنة بالواقع، وعلى عجلة من أمره، وقد صنع دراما مؤسية ومريرة ثيمتها التعثر والصدمة والإخفاق والإحباط.. كان بطيء التعلم من الدروس بسبب محدِّدات الإيديولوجيا التي أبقته في حالة نظر عبر زاوية ضيقة.. كان المشهد واضحاً أمامه لكنه لم يرد رؤيته ممتداً مجسّماً صاخباً ومتغيراً، كان يكذّب عينيه ويصدِّق أفكاره المسبقة، وكان بحاجة إلى أكثر من ضربة على الرأس ليستفيق أخيراً ويرى الهول.. وهكذا انتهى عصر المثقف الرسولي، وحلّ محله عصر آخر متخم بالمشكلات، ويضيق ذرعاً بالتجريد والسفسطة، ويرغب بحلول واقعية عملية ذات نتائج ملموسة، لأن مع كل لحظة تمر يسقط ضحايا آخرون، وتزداد قوافل الناس المتألمين، في أكثر من نصف بقاع الأرض، معظمهم من سكان هذا العالم الثالث، ومنه كما قلنا؛ العراق.
ما يجب أن يتعلمه المثقف الآن هو نسيان البلاغة الفضفاضة لخطابه ذي المحمول السياسي/ الاجتماعي المبتذل، والتعاطي مباشرة مع مفردات الواقع الصغيرة منها والكبيرة التي تتموج أمامه في البيت والمؤسسة والشارع والمحفل العام، في كل ساعة وكل يوم.. الواقع بتناقضاته وصراعاته وتحوّلاته ومفاجآته، المرئية منها وغير المرئية، في المتون وعلى الهوامش، ليبتكر خطاباً سياسياً يتساوق وروح العصر ومتطلباته.
الآن، نحن نعيش لحظة الأزمة المولِّدة فكيف لنا أن نتصوّر إزاحات في الوعي السياسي العام؟ وهل يصح ذلك من غير تفعيل البعد الثقافي مجتمعياً، وإعادة الاعتبار له؟.. ألا يتطلب هذا موضعة جديدة للمثقف، بوصفه فاعلاً اجتماعياً، في القلب من الحدث الراهن؟، وبالتأكيد، لا بحسب الفكرة التقليدية المتشحة بالاستعلاء إذ يلقن المثقفُ العارفُ الجموعَ الجاهلةَ غيرَ العارفة، بالتعاليم الإيديولوجية غير القابلة للنقد، كما ظلّ يظن، وإنما أن تأخذ وظيفة المثقف، في ضوء حضور الثقافي في الحراك المدني، صيغة إدارة النقاش العام حول المسائل الجوهرية الملحّة في الحاضر، وطرح المفاهيم والأفكار والتصوّرات المنشِّطة للحوار عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والندوات والاجتماعات المباشرة، حيث يكون من حق الجميع وبمقدورهم الإفصاح عن آرائهم واعتراضاتهم، بشرط واحد، أن يجري ذلك بعقول مفتوحة مستعدة للمراجعة حين تكتشف أنها على خطأ.
واليوم، عراقياً، بمعاينة ساحات الاحتجاج المدني نجد أنها تتيح لحظة الضرورة التي على المثقف استثمارها لاستعادة مكانته في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية، وهذه المكانة لا تُستحق إلا بوساطة أدائه لدوره الثقافي الجديد بالتأثير في الرأي العام وإنضاجه، وهي الفرصة، وللمثقف دوره الأبرز في هذا، لجعل ساحات الاحتجاج مصهراً يُعاد فيه نسج اللحمة الوطنية التي مزقتها صراعات السياسة الرعناء اللاأخلاقية، والمكان الذي ينبغي أن تُهزم فيه الولاءات المتعصبة ما قبل الدولتية كالطائفية والعشائرية والمناطقية وما شابهها.
تخلِّصُ ساحات الاحتجاج المدني الشباب من حالة الشعور بالعقم والعطالة واللاجدوى والعجز واليأس، وتعيد لهم الثقة بأنفسهم بعدِّهم فاعلين اجتماعيين مؤثرين، ومن هنا بالمستطاع وصفها بساحات الأمل.. وقد نصل بتفاؤلنا إلى حد القول إن ساحات الاحتجاج المدني ستعلِّم شبيبتنا السلوك الديمقراطي الحق، وستؤسس لتقاليد سياسية جديدة، وستهيئ لظهور تيارات فكرية وسياسية لم نعرفها من قبل، ولبروز شخصيات قيادية شابة تكون النواة للطبقة السياسية في المستقبل، وتلك التقاليد الجديدة إذا ما أرسيت في فضاء الفعاليات السياسية فإنها ستتكفل بتغيير خطاب السياسة من الشتيمة والاتهامات المجانية للمخالفين والبلاغة الرثة الجوفاء والوعود الكاذبة والزيف والخداع إلى التحليل النقدي والرؤية الواقعية والتقويم العلمي الرصين وروح الحوار.
ومن وحي هذه الساحات، إذا ما بقيت سلمية ومدنية ومدامة بزخم الشباب من الجيل الجديد وإرادتهم ووعيهم، لابد من ولادة مثقفين جدد يعملون على إعادة بناء المجال السياسي على وفق معايير عصرية متقدمة، تتحقق بوساطتها على أرض الواقع القيم التي يؤمنون بها، ومنها الحرية، العدالة، حقوق الإنسان، التنمية والتقدم التقني والحضاري، تطوير التعليم، السلم الأهلي، الخ..
تفضي الاحتجاجات ومجمل فعاليات الحراك المدني السلمي، آجلاً أو عاجلاً، إلى تغييرات تصحيحية في الخريطة السياسية، وهناك، مع تلكم التغييرات، من سيجد نفسه، من السياسيين أو غيرهم، في موضع تهديد وضرر، لذا لست أقصد أن كل شيء سيحصل بسلاسة ومن غير ما يعيق مجراه..
إن المثقفين برأسمالهم الفكري لا يحوزون سوى الإرادة الحرّة وشجاعة إبداء الرأي وقول الحق، وأن جيل الاحتجاجات المدنية لا ينطلق إلا بقوة العزيمة والوعي وطاقة الشباب، في مقابل ما يمتلكه مَنْ سيعادونهم من أصحاب السلطة والمال من وسائل العنف والإكراه والمؤامرة، وحتماً سيسعى هؤلاء إلى إبقاء المجال السياسي على ما هو عليه، أو تكييفه في ضوء مصالحهم، حتى وإن فتك مسعاهم بمصالح المجتمع، وعرّض مستقبل البلاد للخطر.
عصرُنا، والوظيفة العضوية للمثقف
تتحقق الوظيفة العضوية للمثقف بالموقع الاجتماعي التاريخي الذي يتبوأه في مسار السيرورة الاجتماعية، وبالدور الذي يؤديه انطلاقاً من ذلك الموقع، وهما، أي الموقع والدور، يضمنان له تميّزه عن بقية الفاعلين الاجتماعيين، فكلاهما ذو طابع ثقافي في المقام الأول، أما وجود المثقف فيتفاعل لا مع فعاليات الحقل الثقافي فحسب، وإنما مع عمليات التحديث في العالم حوله، ومع ألاعيب السياسة وصراع الستراتيجيات كذلك.
تنقسم الوظيفة العضوية للمثقفين إلى أربعة محاور:
ـ كشفية ـ وصفية.
ـ نقدية ـ تقويمية.
ـ متنبئة ـ رائية.
ـ تحريضية ـ مطلبية.
وفي الإطار العام يمكن فصل هذه المحاور، نظرياً وإجرائياً، بعضها عن بعض، على الرغم من تعاشقها الخفي، وقد تظهر غلبة محور ما، في الواقع الفعلي، على ما عداه، إلا أنه يعكس حضور بقية المحاور في إهابه ويتعزز بها.
يبقى جوهر وظيفة المثقف هو النقد والمواجهة. وهذه الوظيفة تخضع لمنطق التغيير.. إن صفتها العضوية تجعلها في اتساق مع المحيط الاجتماعي التاريخي، وهو متغير بالضرورة، فتبعاً لتحوّلات الظروف والأفكار والأنساق والمؤسسات والأهداف والوسائل يجد المثقف نفسه مضطراً إلى التكيّف، وهو عملية مستمرة، من غير أن يعني هذا أن التكيف هو الانقياد السلبي لكل حادث طارئ، فنحن ها هنا نتحدث عن متلازمة النقد والمواجهة.. حيث النقد لا يُقصد به الرفض إطلاقاً لأن ذلك سيكون شكلاً من أشكال العدمية، والمواجهة لا يُقصد بها الوقوف في الخندق المضاد دائماً، فالنقد والمواجهة يمكن أن يدخلا في إطار مفهوم الحوار، والذي يأخذ في الحالات الاعتيادية ثلاثة أبعاد، حوار مع الذات، حوار مع الآخر، حوار مع العالم.. حيث الذات هي مجموع العلاقات الاجتماعية للفرد، وهي أوسع من ذلك أيضاً.
يربط غرامشي المثقف العضوي بالطبقة الاجتماعية حيث يعبِّر ويدافع عن مصالح تلك الطبقة ويسعى لتنظيم حركتها ووعيها، وبحسب غرامشي، أيضاً، إذا كان المجتمع السياسي هو الفضاء الذي تُحدث فيه الهيمنة بوساطة وسائل القوة والقهر فإن المجتمع المدني هو فضاء للهيمنة الإيديولوجية، وقد دعا الطبقة العاملة في الغرب إلى السيطرة على المجتمع المدني قبل المجتمع السياسي على عكس ما حدث في روسيا (1917)، وهنا يبرز دور الشريحة المثقفة لتنظيم مثل هذه السيطرة/ الهيمنة.
وحين نحاول استلهام مفاهيم غرامشي في سياقنا التاريخي الحالي، عراقياً، نجد أن المثقف لا يعمل في إطار مجتمع مدني ناجز كما في أوروبا الغربية، وإنما يتعاطى مع جنين مجتمع مدني في طور التكوّن، وعليه يقع عبء مضاف، وهو المساهمة في عملية التكوين هذه، وبهذا سيعبِّر عن مصالح كتلة تاريخية هي الأخرى في طور التشكّل في خضم من صراع بين توجهين إيديولوجيين ـ سياسيين أساسيين تتفرع عنهما توجّهات أخرى، وهما يتمثلان بالنزعة المدنية ـ الوطنية الجامعة المتخطية للهويات ما قبل الدولتية من جهة، والنزعة الطائفية العشيرية المرتدية لجبة?التأسلم السياسي من جهة ثانية. وإذن المثقف الذي نتحدّث عنه غير ذاك الذي تحدّث عنه غرامشي القارئ للمعضلة الإيطالية في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
إن صورة المثقف محتجّاً مدنياً تعبير عن وظيفته العضوية.. هنا لا نشير إلى وظيفة ثابتة متخطية للزمان، بل إلى وظيفة لها علاقة بالتاريخ، بمفصل من مفاصل التاريخ، إذ معه يستعيد المثقف حس الواقع والحس التاريخي، فيحاول إنجاز تمثيل فكري/ إبداعي للبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها في ضمن سياق ثقافي له اشتراطاته وإكراهاته ومقولاته وسردياته، وبذا يكافح من أجل تصحيح علاقات السلطة والهيمنة، بالقدر المستطاع، لصالح الضحايا والمهمّشين والمغلوبين على أمرهم والذين يعانون في خضم صناعة الأحداث، مثلما يرمي إلى إحداث توترات في القناعات السائدة مفكِّكاً الإيديولوجيات المسوِّغة للهيمنة والداعمة للطرف المهيمِن في معادلتها.
في محطات الحراك المدني يلتقي المثقفون.. لقد غادروا معتكفاتهم ليقيموا نوعاً من مجموعات تآزر تتحلق حول قضية أو فكرة أو مشروع، والوظيفة العضوية كي تؤدّى بسلاسة وفعالية تشترط ألا يكون المثقف وحده، والانخراط في الشأن العام في ضمن مناخ حواري يخلق مجتمع مثقفين، لا بوصفهم طبقة منفصلة عن بقية الطبقات الاجتماعية بل نخبة مؤسِّسة لخطاب وستراتيجيات عمل مدني بوساطة وسائل اتصال وإعلام حديثة، هذا يتطلب أن يتخلص المثقفون من أمزجتهم الأنانية ونرجسيتهم المتعالية وحياديتهم السلبية وينتزعوا أنفسهم من عزلاتهم لأن مجتمعهم وبيئته? وزمنهم وإرثهم وبلدهم وثرواتهم ومصيرهم تحت طائلة التهديد.
تتجه الأنظار، في الغالب، إلى المثقف حين البحث عن خطاب بديل لخطاب السياسي، وفي أحايين كثيرة يمتلك المثقف ما يحتج به على خطاب السياسي من غير أن يكون ثمة بديل في جعبته، ولا يكون المثقف في الأحوال الاعتيادية مطالباً بصياغة، أو المشاركة في صياغة، برنامج سياسي. ولكن في المراحل الشائكة من تاريخ المجتمعات على المثقف أن يقدّم في الأقل رؤية حول الوضع العام، والقوى والمصالح المتصارعه فيه، واحتمالات مآلاته وتحوّلاته.. رؤية تكون ملهمة، ومساعدة لأصحاب القرار من ذوي النوايا الحسنة، إنْ وجدوا، لصياغة برامجهم السياسية.
إن أي تحليل نظري للمعضلة العراقية الراهنة لابد من أن يتخلل إلى جانب مشكلة السياسة والحكم والاقتصاد ذلك الجانب الآخر وهو الأرضية الإيديولوجية ـ السياسية ـ الاجتماعية المولِّدة للعنف والإرهاب، وإذا أعدنا القول بأن جوهر الوظيفة العضوية للمثقف هو النقد فإنه النقد الذي يُطال المؤسسة كما المجتمع كما الإيديولوجيا كما ستراتيجيات الآخرين كما لعبة رأس المال المعولم الذي هو جذر البلاء في نهاية المطاف، وقد أثرت التجربة المرّة للاحتلال على الفضاء السياسي والخريطة الاجتماعية، وجانباً مهماً من قناعات الناس وأفكارهم وسلوكهم وأنماط حيواتهم في العراق، وهي التجربة التي تحتاج إلى تفكيك واعٍ للنفاذ إلى منطق العلاقات التي أسستها، والالتباسات سواء في الثقافة أو الحياة، التي تمخضت عنها.
غالباً ما يجري تبخيس دور المثقف في الحياة العامة على وفق معايير خاطئة أو قاصرة تقيس مدى التأثير بالشدّة العالية للنتائج في الزمن القصير، كما كان يحدث، مثالاً، حين كان شاعر فحل قبل أكثر من نصف قرن يلقي قصيدة عصماء تلهب مشاعر المتلقين وغيرتهم وحماسهم الوطني فتدفعهم للتحرك السريع، غير أننا عندما ننظر في تاريخ فكر التنوير الأوروبي وتمكّنه من العقول، وتأثيره في أشكال الممارسات السياسية، نجد أن الأمر تطلّب عشرات ومئات السنين، وأن التطور كان يحصل ببطء ولكن برسوخٍ قار.. ولأن المبتغى من الوظيفة العضوية للمثقف تنويري في مضمونها فإن تداول المفاهيم الجديدة في المجال العام وعبر وسائط الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي ناهيك عن الفعاليات الإبداعية المختلفة يخترق الوعي المجتمعي على مهل، وبتجذر في شكل تقاليد وأنماط سلوك وممارسات لعصر جديد.
إن احتكار السلطة السياسية لوسائل الدعاية والإعلام والترويج الإيديولوجي ومن ثم الهيمنة الفكرية على الفضاء الثقافي الاجتماعي في معظم ما ظل يُعرف ببلدان العالم الثالث وحتى بدايات الألفية الجديدة قد كُسر اليوم بفضل التطور المذهل لقنوات الاتصال والإعلام، لاسيما الفضائيات، وشبكات التواصل الاجتماعي، والثورة المعلوماتية، وانفتاح العالم بعضه على بعض، من هنا باتت الشريحة المثقفة قادرة أكثر على أداء وظيفتها العضوية حتى وإن لم تتبلور الممهدات السوسيو ـ اقتصادية التي تحدّث عنها غرامشي كضرورة لأداء المثقف العضوي لدوره، بعدما صرنا نعاين خريطة سياسية مرتبكة مسندة باقتصاد ريعي متورم بالفساد.
هنا لا يخترق نقد المثقف المجتمع السياسي وحده، بل ذلك الجزء من الإيديولوجيات السائدة أيضاً المغذّية للعنف والإرهاب، فضلاً عن الأطر الصراعية التي تضرمها ستراتيجيات إقليمية ودولية، في حمّى مواجهات معقدة تتجاوز الموجِّهات والأسباب المحلية في اندلاعها، وإلى حد بعيد.
في المجتمعات الخاضعة لمقتضيات الاقتصاد الريعي والتباساته يحضر خطاب السلطة رثاً ومهلهلاً في الغالب على الرغم من تسويقه عبر وسائل الإعلام المحتكرة للسلطة ذاتها، في مقابل الخطاب المضاد ـ الأكثر موضوعية وتماسكاً ـ للمعارضين المبرزين أحياناً والخفيين في أغلب الأحايين، وهم، في جلّهم، من المثقفين والمتعلمين وناشطي الحراك المدني، وهو الخطاب المسوّق بوسائل أخرى.
إن عصر المعلوماتية والميديا الحديثة قد أطاح باحتكار السلطات السياسية الحاكمة لوسائل الإعلام والنشر والدعاية مما أفقدها واحداً من أمضى أسلحتها في الهيمنة، مانحاً الخطاب المضاد الفرصة التاريخية لمعارضة فعالة، وموفراً موقعاً أكثر حيوية للمثقف في الفضاء الاجتماعي السياسي.
إن واحدة من غايات الحراك المدني في كل مكان هي كسر هيمنة ثقافة السلطة المسيطرة، وإعادة الاعتبار لثقافة أخرى مكافئة أو نقيضة أو بديلة. ومثالاً أعادت الاحتجاجات المدنية في العراق طرح سؤال الهوية السياسية للدولة العراقية، وهو السؤال الذي يقع في القلب من اهتمام المثقف، وله الأولوية في خطاطة وظيفته العضوية في راهننا العصيب.
الاحتجاجات المدنية والوظيفة العضوية للمثقفين
الوعود الكبيرة لما بعد انهيار حكم صدام لم تتحقق، وتبين أننا كنا نسير على أرض غير ممهدة، نحو أفق من سراب.. وُجد فضاء شبه ديمقراطي، ولم يتكرس نظام سياسي قائم على قواعد الديمقراطية الصحيحة، ولو بالحدود الدنيا، فمع أحزاب احتلت الواجهة السياسية، وجماعات قديمة وأخرى تشكّلت على وفق تقاطعات المصالح، غير الوطنية غالباً، هي غير ديمقراطية في اتجاهاتها وبناها الداخلية، ومع دستور مملوءٍ بالثغرات ولد بعجالة غريبة، وقوانين ضرورية تأخر تشريعها، وآليات انتخابية تطيح بمبدأي الدقّة والعدالة، فضلاً عن لعنة المحاصصة التي أوجدتها سلطة الاحتلال واستساغتها النخبة السياسية المتسلقة لسلالم السلطة والثروة، ومع الموجِّه الطائفي والعرقي والعشيري والمناطقي والفئوي المغذّي للقرار والإجراء السياسيين للأحزاب والتيارات والجماعات المتصارعة على تقاسم الكعكة العراقية الدسمة، ومع إخفاق مريع وكارثي في إدارة موارد المجتمع وإنجاز تنمية مركّبة ومستدامة، أقول مع هذا كله بتنا أمام جدران من أزمات وانسدادات في وضعنا العراقي لا نحسد عليها، وربما نستحق من جرائها الشفقة.
في واقع مثل هذا، ومع الاختلالات التي خلّفتها السياسات الفاشية والديكتاتورية في بنى المجتمع العراقي ومؤسساته وعقابيل الحروب الكارثية المتتالية، ومن ثم الحصار الدولي المنهك الذي أصاب الحياة المدنية العراقية في الصميم، صارت النخب الثقافية تخسر دورها وتأثيرها في تنمية المجتمع ووعيه، وحتى بعد نيسان 2003 حين تحسّن نسبياً المستوى المعيشي للطبقة الوسطى المدينية العراقية، لم تزدهر هذه الطبقة التي منها معظم أفراد النخب الثقافية بسبب غياب المشروع السياسي التنموي الشامل، وبسبب آفتي الإرهاب والفساد اللتين أعاقتا كل توجّه مخلص وجدّي للنهوض المجتمعي.
ومثلما قلنا فإن معظم أفراد النخب الثقافية يتحدرون من الطبقة الوسطى المدينية، وهي الطبقة التي تحمّلت، إلى حد بعيد، عبء بناء الدولة العراقية الحديثة وقيادة مؤسساتها، حتى ثمانينات القرن العشرين، إذ بدأ دورها منذ ذلك الوقت بالانحسار تدريجياً، بعدما راحت تفقد، بتأثير سياسات النظام الحاكم وحروبها، مرتكزات وجودها، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية.
ينتعش دور النخب الثقافية بنمو الطبقة الوسطى المدينية ووجود المشروع الوطني السياسي التنموي الطموح والاستقرار السياسي ـ الاجتماعي والأمني، وتوافر مناخ سياسي يهيئ لتنمية ثقافية، ووضوح المشروع الثقافي للنخب أنفسهم، وبروز حراك مجتمعي ـ مدني ينخرط فيه المثقفون بوصفهم فاعلين اجتماعيين.. وحين نعاين جوهر هذه الشروط وما تكرّس منها عراقياً خلال السنوات المنصرمة التي أعقبت سقوط نظام صدام نُصاب بالصدمة والإحباط.
هنا أود الحديث عن الوظيفة العضوية للمثقفين في المجتمعات التي تعيش فضاءات سياسية واقتصادية واجتماعية مأزومة، وتعاني من تناقضات عصية على الحل في المدى القصير، واختلالات بنيوية تفضي إلى عدد من الحلقات المفرغة التعيسة لاسيما في الحقلين الاقتصادي والسياسي، إلى جانب وجود فئات تعتاش على الأزمات والاختلالات وتعمل على ديمومتها، مثلما هو حاصل عندنا، هنا/ الآن، في العراق.
وما أقصده بالوظيفة العضوية للمثقفين هو أن يختار المثقف لنفسه موقعاً مؤثراً في الحراك المدني القاصد وقف التدهور أولاً، والعامل على تصحيح الأوضاع وإصلاح وتغيير البنى التشريعية والمؤسساتية التنفيذية للدولة والمجتمع تالياً.
تتمثل الوظيفة العضوية للمثقف في ذلك التعاشق الذي يحدث، في لحظة ضرورة تاريخية، اجتماعية وسياسية، بين الفكر والممارسة، وبين البعدين الثقافي والسياسي، فإذ ذاك تغدو الوظيفة العضوية صورة للمثقف، وهي صورة ثلاثية الأبعاد، مجسّمة ومركّبة ومتحوِّلة، تختزل مجموعة صور (للمثقف) كما في شريط سينمي، صورته مهتماً بالشأن العام، وقارئاً لوضع مجتمعه الذي هو في حالة أزمة، ومبدعاً لأعمال فنية وفكرية، وأخيراً مشاركاً في الحراك المدني، فيكون الاهتمام بالشأن العام انغماراً في تبني قضية، سواءً بالتعبير الأدبي والفني والفكري والإعلامي، أو عبر النشاط المدني الممأسس.. من هنا يغدو مفهوم الحراك المدني أوسع من مفهوم حركة الاحتجاجات المدنية، ولكنه يتضمنه.. يتصل المفهوم الأول ببعدين واسعين، سياسي ـ اجتماعي يخص قضايا الشأن العام، وثقافي يهتم بإعادة صياغة الوعي الاجتماعي.
وإذا كانت ساحات الاحتجاج المدني تمثّل فضاءات اختبار لممكنات القوة والتأثير لدى الأطراف الفاعلة المختلفة فإن النخب المثقفة العراقية مدعوّة لمغادرة حالة (بعض السلبية) إن صح التعبير، التي تعاني منها.. ذلك أنها لم تكن خارج أطر الصراعات المحتدمة، بمستوياتها كافة، قبل سنة 2003، وحتى ما قبلها.
إن المؤشر الذي يعتد به في راهننا، ويعكس نجاح النخبة المثقفة المدنية في فرض منظورها، حتى على الجماعات غير المدنية، هو أن الجميع باتوا ينادون سواءً عن قناعة، أو نفاقاً، أو مداورة، أو ركوباً للموجة، بوجوب أن يكون شكل الحكم في العراق مدنياً، وأن الدولة لابد من أن تكون مدنية، لا دينية، الأساس فيها مبادئ المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتنمية المركّبة، المستدامة، والتي ما تزال أمنيات لم تتحوّل، عند النخب والجماعات الماسكة بمفاصل السلطة، وربما لن تتحوّل أبداً، إلى أسس وموجِّهات برامج سياسية جادّة، تحوِّل بنى الواقع العراقي وتجعل من الدولة العراقية عصرية مشبعة بقيم الحداثة والتنوير.
ما أريد التأكيد عليه هو أننا لا نعيش في مناخ ديمقراطي بآليات عمل سياسي فعالة، لكن ثمة فسحة في الفضاء السياسي العراقي الآن ممكن الاستثمار فيها لمصلحة التوجّه المدني الديمقراطي عبر إيجاد قنوات اتصال وحوار وتغذية استرجاعية منتجة بين النخب والجماعات والمؤسسات ذات الطابع المدني الحداثي.
تؤسس ساحات الاحتجاج المدني لوعي جديد أكثر حدّة وعمقاً لأنه نتاج أنشطة في الشارع السياسي، وتفاعل مجتمعي وإن بدا محدوداً، وصدام مباشر وغير مباشر مع قوى مضادة، وهذا يبلور وحدة الفكر والممارسة، ذلك أن ناشطي الحراك المدني ينطلقون من أفكار وتصوّرات تنضج بسيرورة الممارسة التي تقوِّمها الأفكار في إطار جدلية ثقافية ـ اجتماعية ـ سياسية.
في ساحات الاحتجاج المدني تتقلص المسافة بين النخب الثقافية والناس الاعتياديين إلى حد التلاشي أحياناً.. يترك المثقف، مؤقتاً، معتكفه الإبداعي إلى الشارع ليتعلم، بقدر ما يبث من أفكار، مما يقوله الناس، داساً أنفه في ما يعني الوطن والمجتمع ومستقبلهما، وهذا هو فحوى ما نقصده بالوظيفة العضوية للمثقف، فالتجربة المشتركة تُنضج قناعات مشتركة وتنشئ تقاليد مبتكرة للعمل السياسي تتساوق وطبيعة المرحلة وروح العصر، وتساهم في ولادة نخبة سياسية عصرية جديدة.. فالحراك المدني إذا ما استمر ببرنامج متماسك وواقعي لا يُخرج الوضع السيا?ي من الركود وحسب، وإنما سيعكس آثاره على الحقل الثقافي كذلك. كما أن الأحزاب السياسية التقليدية (وصفة التقليدية لا تنتقص من شأنها) إذا ما وجدت في صفوفها أصحاب عقول مرنة، وذكية، مؤمنة بالحوار، والتغيير، تستطيع أن تكسب خبرات مضافة من السيرورة التي تُحدثها حركات الاحتجاج المدني، وأن تطوِّر وسائلها في العمل، وأن تنفذ أعمق في جسم الواقع ومشكلاته، فيكون لها عندئذٍ أدوار أكثر أيجابية في البناء.
يمكن تأشير وحصر الناتج الفكري ـ الثقافي الذي تفرزه عمليات الحراك المدني السلمي في العراق بإعادة طرح سؤال الهوية في أفق رؤية عصرية لدولة مدنية، والربط بين أقنومي الحرية والعدالة الاجتماعية من عتبة أن هوية الدولة لابد من أن تكون ديمقراطية عمادها مبدأ المواطنة، مع جعل العامل السياسي في القلب من الاهتمام الفكري النظري والثقافي الإبداعي، والكشف عن البعد الطبقي للأزمات والاختلالات في بنى المجتمع والواقع، فلا يمكن إنكار حقيقة أن الدافع الطبقي في الاحتجاجات المدنية قائم بوضوح، فظاهرة الفساد التي هي مرمى المحتجين الاول تتمفصل مع القضية الطبقية، ذلك أن النخب السياسية الفاسدة اغتنت من طريق سرقة المال العام على حساب حقوق المواطنين وكدحهم. فزادت الفجوة الطبقية بين محدثي النعمة السرّاق من القطط السمان، وملايين الناس التي تعيش، الآن، عند خط الفقر أو تحته.
الحفاظ على حيوية الحراك المدني يتطلب الطاقة التي يتيحها أداء المثقف لوظيفته العضوية.. الوظيفة التي تجعله لصيقاً بالقضايا الرئيسة لمجتمعه وعصره، والأداء الذي يمد الخطاب السياسي المترشح من الحراك بالدلالات والمعاني، والطاقة التي تضمن سيرورة التغيير.