ادب وفن

رواية "منعطف الصابونجية" للروائية العراقية نيران العبيدي : النص السردي في جادة التراث والحكاية الشعبية

 
خضر عواد الخزاعي
رواية" منعطف الصابونجية" من روايات الNovelette)) القصيرة في 133 صفحة وسبعة وعشرون فصلاً، صدرت عن دار الضفاف للطباعة والنشر 2014 .حيث هيمنت الشخصية الرئيسية البنت الكبرى للحاج مصطاف، "بدرية العانس" على مجمل فصول النص السردي منذ سطوره الأولى"لم تكن بدرية خاتون مخترقة حجب الغيب .." وحتى ختام الرواية حين تتذكرها شقيقتها مديحة، وقاتلها ابن عمها مرهون بعيون باكية"بكيت انا أيضاً ونزلت دموعي بصمت وأنا أنظر الى مرهون، ياابن عمي وهل تعتقد أني وبهذا العمر لا أعرف سر بكائك؟ تتذكر حب بدرية وحبها لازال يمتلك قلبك.ص130". والرواية نص سردي بيولوغرافي يمكن اعتباره من ضمن النصوص الحكائية الشعبية العراقية، عن أسرة الحاج مصطفى الكاهجي، وأولاده عادل ويونس، وبناته بدرية وصبيحة ومديحة، وزوجته حسيبة وأخته ست العياطة.
و"منعطف الصابونجية" سياحة سردية تراثية في بغداد القديمة، بين أزقتها ومحلاتها وساحاتها وبيوتها القديمة، خلال عهدين مهمين من تاريخ العراق الحديث، هما اواخر العهد العثماني في نهايات عصره في العراق، منذ الانقلاب والمشروطية في العام 1908 التي تحدث عنها الزعيم يونس باشا، الشقيق الأكبر لبدرية، بإشارته الى ماكان يكتنف الوضع العراقي من تجذبات سياسية ودينية بين الولاء للدولة العثمانية القديمة، كممثل شرعي للخلافة الإسلامية، وبين تأييد العهد الجديد الذي يبشر بالتعاليم الديمقراطية الجديدة، كالعدل والاخاء والمساواة، الى العهد البريطاني، والانتقالات الحادة والخطيرة، التي كانت تحدث في المجتمع العراقي، بتنوعه العرقي والأثني، من عرب وأكراد وتركمان، ومسلمين ويهود ومسيحيين، وماكانت تتركه تلك المنعطفات من تأثيرات بارزة ومؤثرة في حياتهم الاجتماعية. والرواية ذاكرة فلكلورية على تراث بغداد وأرثها الشعبي، بمحلاتها القديمة، واغنياتها الفولكلورية، وأزيائها، وطقوسها وتقاليد أهلها:محلات "قنادي نظافت" للحلويات لصاحبها الهندي. شارع الرشيد. سوق الصفافير.مدرسة المأمونية.محلة باب الاغا. محلة الفضل. محلة الغالبية.السراي خانة.الجالغي البغدادي.ابن خيوكة. قنبر علي.جامع الفضل. الوزيرية .بستان الخس. البتاوين.العلوازية. الصدرية.الشماسية، مسناية الخضر، المقام العراقي، بالإضافة الى حرص الكاتبة على أن تكون مقدمات فصول النص، مقاطع من أغاني بغدادية مشهورة في الذائقة العراقية البغدادية"يابو زبون الزري ومطرز بأبرة ..كل الشرايع زلك من يمكم العبرة". والتي كانت في مجملها دلالات سمعية، لفصول كانت تقترب، من الفن السينمائي، كمنظومة مرئية تحاكي الواقع البغدادي، لكن تختزله في مشاهد مكثفة، تكاد أن تكون منفصلة عن بعضها، باستخدام تقنيات القطع الحاد"Cut " كما يحدث في انتقالات السارد الخارجي الى الداخلي، في الفصل الرابع من النص، في الحديث عن الفرقة الموسيقية التي ستحييّ الحفلة المسائية في بيت الحاج مصطاف، بمناسبة ختان أولاده، حيث تسجل الساردة انطباعاتها عن الفرقة الموسيقية :"عازف الكمان كان يرتدي القيافة الغربية ويضع بدل ربطة العنق شريطاً اسوداً مربوطاً بشكل وردة في حين عازف الجوزة كان يعتمر الكوفية أما ميوعة الطبال وشعره الحاسر المدهون فكان يدل على أنه أحد دلقية بغداد".ثم فجأة يدخل صوت عازف الكمان كورجي، في انتقالة حادة"Cut" ليقطع سلاسة السرد الخارجي الى"monologue"مونولوج داخلي،"الصدرية وجامع الصدرية ودكان ابن العم موشي الصائغ وأنا أضع كماني في زاوية الدكان ورقعة كتب عليها أهل الفن ...ص26".
في حين تمتعت الكاتبة نيران العبيدي، بذائقة جمالية عالية، وهيّ تتدرج في مستويات حبكة النص السردية، بملامسة شفافة، لا تخدش ذائقة القاريء، وهي تتنتقل به بين عوالم شخوصها، كما يحدث في الفصل الثالث من النص، في الانتقالة التي تشبه استخدام تقنية التلاشي Vanishing" ".ومن ثم الى الاسترجاع والتذكر"Flash Back "من حسيبة خاتون وهيّ تنتهي من صلاتها، ومباركة العبد مرجان لها، الى"موسيقى ورقص أفريقي واصوات تنبعث من حيطان الايوان ترجع زمن سحيق وشيئاً فشيئاً تتحول حديقة الدار الوسطية الى غابة رطبة وتتحول النخلة الى شجرة موز ... ص16".
نفس الانتقالة نتلمسها، في سرد مقاطع من حياة حسيبة خاتون مع عشيقها ابن الاركوازي في بلدورز، خلال السرد، في الصفحات 18،19،20،21. في الفصل الرابع والعشرين، تعمد الكاتبة الى استخدام تقانة المخيال، في انتقالاتها، حيث تتخلى، عن حكائية السرد، مقابل توظيف الصورة السينمائية، لتوخي القيّم الدرامية في نصها السردي. بين بؤس الحاضر و ورمزية الماضي،"بعدها استقبلتني رياح باردة عصفت بي من باحة الحوش تجاه المجاز المظلم، حملتني من مكاني ووضعتني في مكان ليس كما هو المكان، وزمان ربما كان في عصور عباسيّة غادرت ولم تعد، كل الذي أعرفه رأيت نفسي مع مومسات رخيصات اتخذن من الكهوف والمغاور محلات سكن لهن مع مغاور الحشاشين والسكارى في منطقة مليئة بالاحراش والادغال لا يؤي اليها سوى اللصوص وقطاع الطرق يقال لها كلوذا.ص94".
على المستوى الثيمي يمكن اعتبار "العنوسة" والتي هي نتاج بناء مجتمعي سيء، الثيمة الرئيسية في النص، والتي هي إحدى إفرازات الصراع الطبقي، الذي تميّز به العراق في العصور المتأخرة من العهد العثماني، والتي تتفرع منها "ثيمات" ثانوية مرتبطة بها اجتماعياً ونفسياً وسلوكياً، ولقد حققت الكاتبة نيران العبيدي، نجاحاً سوسيولوجياً وأدبياً، بأن جعلت من مهمة الكتابة،"تهدم وتعيد البناء، وتنزع اقنعة الزيف" كما يشير أدونيس، في كشفها لكثير من تلك الأقنعة المجتمعية، المغلفة بالوجاهة والرياء، فالشقيقات الثلاث، بدرية وصبيحة ومديحة، يعانين من عقدة نفسية حادة، نتيجة التقدم في السن، وبقائهن بلا أزواج رغم تعدد الخاطبين، بسبب التفاوت الطبقي والإجتماعي والعرقي، بين أسرة الشقيقات، ومن يتقدم لخطبتهن، وإن كانت معاناة "بدرية" الأخت الكبرى أكبر، كونها قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، فلقد أوصلها الإهمال والعناد الأسري، من قبل الأب والأشقاء، بالتفكير بأسوء الحلول للتخلص من مشكلة العنوسة"خالة لو الحجي ينحجي جان حجيته ألسنا بشراً؟ألا نشعر بالرغبة لرجل يضع يده ويلمس جسدنا مو كظى العمر بالآه والونه...ص14". وستبقى هذه المشكلة مرجل يغلي، ومحفزة للكثير من الهواجس النفسية في عقل وجسد بدرية، التي ستتحين الفرص للحصول على رجلٍ يملأ عليها حياتها،"خاله والله لو أكو واحد يقبل الهزيمة كان هربت معه وخلصت من هذه العيشة.ص14". وهيّ نفس المشكلة التي عانت منها العمة "ستة العياطة". مع أبيها وأشقائها، أيام شبابها، وحرمت بسببها من الزواج، وبقيت تعاني من مشكلة العنوسة، الى ماتبقى من حياتها في بيت الأسرة، بنفس الدوافع والأسباب التي تعاني منها بدرية، وهيّ دوافع وأسباب تقف على رأسها، المنافع المادية، والتفاوت الطبقي"طالما البنات في بيت حجي مصطاف اياسوا لا زواج ولا هم يحزنون ها اني هم ضحية لهؤلاء الانذال أخوتنا، قضينا عمرنا نحلم الى أن الحيطان ملت من احلامنا همنا همنا وبعدين سكتنا.ص15". وإذا كانت العمة ستة قد آثرت السكوت والاستسلام في وقت مبكر. فإن بدرية لم تيأس، بل ظل الأمل يراودها في حبيب ينقذها من بيت والدها، بيت "ابو النخلة"، كما كانت تسميه، متجاوزة كل الاعتبارات المجتمعية والطبقية والعرقية، لتحقيق حلمها بالزواج، وربما كانت بدرية تمتلك بعض المؤهلات الشخصية، وهو ماكانت تفتقده شقيقاتها، لتعبر بصراحة وبصوت مسموع عما يجيش بصدرها، وعن تحدّيها المعلن للقمع الذي كانت تعاني منه هيّ وشقيقاتها في بيت والدها، ذلك التحدي الذي أوقعها في وقت مبكر في فخ المحضورات المجتمعية، حين تختار عازف الكمان اليهودي"كورجي" ليكون منقذها أو زوج المستقبل، رغم معرفتها المسبقة باستحالة تحقيق ذلك"خبأت مشط أمي الخشبي مع بقجة الملابس أشياء صغيرة لكن معانيها عندي كبيرة ، ذاكرة دار كبيرة، ونخلة تتوسط الدار ومحلة لايوجد فيها حديقة وسطية في كل أطرف الغالبية سوى دار أبو النخلة وعمر لأكثر من ثلاثين عاماً يستحيل الى مكحلة ومشط خشبي، وأنا بانتظار اللحظة المناسبة للرحيل. ص64،65". لكن تلك اللحظة التي انتظرتها بدرية لسنوات، تقودها منذ أن وضعت خطواتها الاولى أمام دكان موشي، مكللة بالسواد تغطي وجهها بالخمار، الى منعطفها الحاد والخطير. لتضعها بين حياتين، حياتها السابقة في بيت أسرتها، وحياتها القادمة، التي ستبدأ بقبولها الانقياد مع عشيقها كورجي، الى بيت رجينة القوادة في العلوازية، وتنتهي بمقتلها، في بيت ريمة الحكاك في الصابونجية، على يد ابن عمها مرهون، بعد أن رفض كورجي، التخلي عن ديانته اليهودية، واعتناق الاسلام، والاقتران بها.
من المآخذ التي يمكن تسجيلها على النص، مشكلة اللغة، أو الأداء اللغوي، بين شخصيات الرواية، بين العامي والفصيح، في أكثر من مكان من النص، كما في المحاورة التي تتم بين الخادمة كتيتي والشقيقات من جهة، وبنات الكلجية من جهة أخرى، في بداية النص، حين يخطئن الطريق الى الفضل، ويدخلن الى محلة الصابونجية، فاللغة المحكية هنا خليط بين العامي والفصيح، والمفارقة التي وقعت فيها الكاتبة، انها جعلت من الخادمة الافريقية كتيتي تجيد بعض المقاطع البغدادية أفضل من الشقيقات الثلاث، وبنات الكلجية. حيث تصرخ أحدى نساء الكلجية: "يابنات هذه المرأة تدعي انها شريفة وتهيننا في عقر دارنا، " فتجيبها كتيتي: "عيني دادة لم اقصد الاهانة" فتتغير لهجة المرأة، الى العامية، وكأنها تنسحب بلا وعي، الى مزاج الخادمة كتيتي، لتجاريها في أدائها اللغوي، "لا يابة لا انت تقصدين ونص" بينما تخاطب بدرية، الخادمة كتيتي، بلغة بعيدة عن مزاجية المكان، والبيئة الشاذة "خالة هلمي للخروج بسرعة"، ثم نقرأ بلسان حال أحد رجال المحلة "هل ظللتن الطريق؟" فتجيبه كتيتي بلهجة بغدادية رصينة وأنيقة "ابني الله يحفظك لشبابك نحن لسنا من المنزول ولانعرف كيف نخرج انشدك الستر بجاه هذه المغربية.ص.12،13". لقد سرقت هذه المحاورة التي يفترض بها أن تكون بغدادية صرفة، وولدت في أجواء حادة، ومزاج منفعل، الكثير من جمالية الصورة، فبدل من أن تقوم اللغة هنا بمهمة "تنظيم الفوضى" على حد قول رولان بارت، - المشادة الكلامية/العراك بالأيدي. أو أن تكون ترجمة صادقة للواقعة، فإنها خلقت إرباكاً حكائياً لم يكن بمستوى الحدث، رغم أن القاريء سيصادف في مواضع أخرى من النص، تماهي حقيقي، بين المحكي والمكتوب.
فيما حفل النص بصوَّر جمالية، اقتربت كثيراً من حدود السحري والُمتخيّل، كما في لقاء مرهون ومديحة، في نهاية النص السردي"أدخل وأرى بدرية تجلس متكورة على نفسها في زاوية إيوان الدار تبكي وحدها .. يا إلهي، ما الذي انهضك الان من قبرك يابدرية؟وما هذه الخطوط القاسية البادية على وجهك؟؟أحاول أن أتفحص الجالسة بوضوح والغشاوة تملأ عيني لأرى مديحة وقد قصت ضفائرها وخط الشيب مفرقها وزادها عمراً على عمر، وتهتز كل جوانحي وتشتعل نيران قلبي، وأتذكر أنها أكثر من خمسة عشر عاماً منذ رأيتها آخر مرة.ص122،123".كذلك نتلمس الذائقة الجمالية لدى الكاتبة نيران العبيدي، في الفصل الحادي والعشرين، وهي تتحرى حياة كورجي، في أطواره الصوفية، وهو يعيش حالة من الانعتاق عن كل ما هو أرضي وواقعي، في انتظار محبوبته ووتره الخامس بدرية،"وأذهب في اغماءة العطش والجوع، والروح لائبة تبحث عن من يخلصها واتوق لقطرة ماء تطفيء ظمأي وأرى ما لم أره في حياتي ابداً ضوء يتجلى بشكل شيخ كبير ...!! يناولني كأساً من الماء اتناوله فأسكر حباً وشفاعة، أصحو وصوت المدائح تعلو ...ص89".
رواية"منعطف الصابونجية" للكاتبة المجتهدة نيران العبيدي، منجز ابداعي، ونقول "مجتهدة" لانها دخلت متون التاريخ العراقي، من أجمل وأخطر مسالكه، التراث البغدادي الشعبي،بكل ثرائه وغناه، وتنوعه الفطري، فبرعت به، رغم قصر نصها السردي، الذي كان يحتاج في بعض فصوله، الى الكثير من الصبر والإفاضة.