ادب وفن

خلف الشرع والمهوال صكر / عيسى مسلم جاسم

"الهوسة" ابداع ثوري شعبي، يتسم بالشاعرية العالية، والبديهة الحاضرة، والعنفوان المتوقد، والموقف الطافي المتجدد، وليد اللحظة، والموقف السريع، وهي ضربة سريعة، ورسالة جريحة خاطفة، متعددة الاغراض، اغلبها في المدح والقدح، والاخير يتسم بالشجاعة الفولاذية والخيوط الفكرية والمبدئية.
وتعد "الهوسة" الوريث الشرعي والوليد البار، لأمجاد العرب في القرون الوسطى، لا سيما في العصر الاسلامي، ومرحلة توسيع الامبراطورية خارج المنطقة العربية الى أطراف ووسط آسيا وعبوراً الى اوربا وما عرف في المعارك بالهزج والرزج وما اصطلح عليه بـ"شعر الفتوح" وهو ليد ساعته وينساب تحت صليل السيوف وطعن الرماح، وسنابك الخيل، وأبرز رواده "مالك بن نويرة".
بيت القصيد قصيدة شعبية "هوسة صكر" للشاعر خلف الشرع المنشورة على الصفحة الخامسة، أدب شعبي في جريدتنا الأثيرة "طريق الشعب" بعددها 73، ليوم الخميس المصادف 19 تشرين الثاني 2015.
القصيدة "هوسة صكر" تألفت من اثنين وسبعين سطراً او اكثر بقليل، وهي قصيدة "حدثاوية" وحين اطلع عليها امام الحداثة "محمد الماغوط" انتابه شعور غريب ان هذا الوليد بسطوره من صلبه، لكنه بالنسخة الشعبية "العراقية" كذلك جاءت القصيدة بتفعيلات متوسطة، هادئة الوقع ترقص لها الألباب، بدل الرنين الذي يطرب الأذن وتطبطب له الأقدام، كما نرى في أغلب ما يحدث في المهرجانات الشعبية حيث يتمحور اهتمام الشاعر على تفاعل الجمهور، وسكرته بايقاعات القافية وموسيقى الالقاء الصاخب فالمتلقي يمسك الصورة الشعرية سريعاً، ويفقدها سريعاً. وما سرني ايضاً خلو القصيدة من الهفوات النحوية والاملائية والاعرابية. نعم جاءت بلغة "المثقفين" اللغة الثالثة، وكانت سليمة، فلا يحسب الشعراء الشعبيون انهم بمنأى عن سطوة جنرالات اللغة، وان مقص الرقيب لا يطالهم.
القصيدة "بونوراما" تاريخية شعبية، اجتماعية/ سياسية، كانت لوحة "عراقية" إطاراً والواناً زاهية ماسية لربما تكون نتاج ريشة وأزميل الفنان الرمز "جواد سليم" وامتدت الدماء في اوصالها وانتفضت روحها، فهاجت ثورة تحت نصب الحرية في تظاهرات جماهيرية.
القصيدة "فلاش باك" عادت بنا الى مكابدة الطغاة، ورجم المحتلين، عودة الى سيطرة الانجليز ونضوج الفتى الثوري الذي رسم معالم ثورة العشرين، فكانت "كومونة" العراق وبعد ضياع وسبات طويلين تنهض من جديد تطالب، وبيافطة عريضة ضد الفساد والمفسدين، ولأجتثاث داعش ونظرائهم في السلطة في الداخل والخارج.
نعم أكرر ان القصيدة من طراز آخر جديد:
الأول/ تكحلت سطورها، باللغة الفصيحة، على الرغم من كونها شعبية وفي صفحة شعبية، لنطلع على السطور الاولى منها:
* يروح ويجيء.. متخطياً..
خطوات سريعة وطويلة، طائرة
قبالته "عناد" مطرقاً يبيت لأمر ما.
الأقتباس كشجرة النخيل التي تمنحني ثمرة "التمر" والأخير يدخل في صناعات مختلفة، ناهيكم عن جسد الشجرة مائة في المائة يسعفني في ايجاد ضالتي.
وكما اسلفت جاء بالفصحى، وابتعد عن الاسلوب الشعري والرنين الايقاعي، وان القصيدة تضمنت اللونين الشعبي والفصيح "تريدني أردح كدام هذا الأحيمر"، وهذا يقيناً ليس بدعة ابداً فقد سبقه وابدع في ذلك الشاعر الجماهيري "موفق محمد" ولربما آخرون. اما أن يكتب الشاعر باللونين فهذا وارد جداً ومن خلال اقلام ولسان شعراء كبار؛ مظفر النواب، عريان السيد خلف، وسلك هذا الضرب شعراء آخرون: ريسان الخزعلي، نجم خطاوي "مغترب في السويد".
ثانيا/ على الرغم من أن القصيدة طويلة "نسبياً" وجاءت في عمودين "دسمين" في الصفحة، الا انها يمكن كتابتها نثراً وعلى شكل مقال لكنها جسدت مفهوم "قصيدة النثر".
"يروح ويجيء.. متخطياً.."
عزيزي المتلقي علامة الترقيم، النقاط، وضع الشاعر نقطتين في موضعين، وفي سطر واحد "الأول"، لذا أرى من الأفضل وضع ثلاث نقط بدل الأثنين؛ لان الثلاث نقط في اللغة الرياضية والفنتازيا تعني الاستمرارية واللانهاية، وتمثل حكاية شعب تتواصل خيوطها حتى كتابة هذه السطور. وهي رسالة الشاعر.
ثالثاً/ نعم القصيدة "قصيدة نثر بامتياز، لذا نحن المتلقين قرأنا حالة السرد الروائي/ القصصي، ومنذ السطر الأول الذي تكرر في هذه الرؤية المتواضعة مرتين.
* "صكر* شاخص بنظره الى الشيخ وضيوفه بنظرة فاحصة وهمه ان يُرى موقفه مهما حصل، وهو يتصبب عرقاً".
ان اعلاه سطر واحد ونصف السطر، فالشاعر وضعه في أربعة أسطر. ثم وفي المناسبة لنتمعن في النص المقتبس فنرى: "صكر هو ابن قريتنا التي تنوء بثقل النظام السياسي الملكي وهيمنة وكلاء المحتلين من إقطاعيين وكبار الموظفين، صكر الاعزل الاّ من رجولته، والطرف الآخر مدجج بالاسلحة المختلفة التقنية والبشرية، أجل لن يساوم، موظفاً السلاح الأمضى والمجرب حينما "هوّس" في ثورة العشرين: "الطوب أحسن لو مكواري" وثانية "مشكول الذمة إعله الفالة" هي ساعات بل ثوان قاتلة. كانت الأطول في التاريخ "تمر علينا ساعات اطول من عشرات السنين لينين" كذلك اغترف من معين "الميثولوجيا" الروحية، موقف "الحر بن يزيد الرياحي" في ملحمة كربلاء كيف كانت خطورة اختيار القرار لذا نرى "صكر" تصبب عرقاً، شعر المواطن ابن القرية إنه ليس فقط "صكر" من دم ولحم واعصاب، بل اكبر من ذلك هو الأعمام والقرية والوطن والشعب والمبادئ، متعاظم واصبح قضية، قرر وان لاقى حتفه لكنه سيربح الخلود في الدارين، وبعد مخاض طويل قصير جاءت الهوسة بوجه "الاحيمر" الانجليزي ومضيفه الاقطاع:
تف لا والشوفه، اهلاً بالصاحب، والصاحب هو الانجليزي صاحب الاقطاعي.
"صكر" قلب الموازين وغير السنن، وبخصوص المداخل الموضوعية، أولاً يكون مدخلك ايجابياً "دبلوماسياً" ثم تدخل في مهمتك ولو كانت شاقة نرى "المهوال" صكر أوصل رسالته سريعاً "مختصر مفيد" "تف" وهي "البصقة العريضة" ملحمية مجازية رمزية وتصل الى الاقطاعي وانتكاسته، لكنها شعلة إلهام بيد ابناء جلدته من الفلاحين.
كان "صكر" قدوة حسنة، غرست وعياً فكرياً في ظرف صغير، تعجز القاعات الاكاديمية عن ايصاله "القدوة الحسنة افضل من مائة عبارة" لينين-.
* وبحماس وانفعال، أحس "صكر" بانه يبرئ ذمته فهو لم يمدح الغازي المحتل الانجليزي النص السطور الاخيرة فـ"صكر" لم يخذلهم وينكس "عكلهم" بل رفع رؤوسهم، وأطال رقابهم.
وتعد القصيدة لوحة شرف معلقة في مدخل مدرسة الواقعية الاشتراكية.