ادب وفن

الصليب في الشعر العربي الحديث / غريب دوحي

"كل أديب عندنا لا يحمل الصليب يصير حمالاً على مرفأ تل أبيب"
نزار قباني
الشعر العربي الحديث حافل بالصور الفنية، فهناك شعراء رسامون أجادوا في الوصف وكانوا بطبيعة حياتهم النضالية أصحاب مبادئ وقيم إنسانية، وهم كما اشترط الشاعر الراحل نزار قباني قد حملوا صلبانهم ولم يقفوا على الحياد بين الحق والباطل، وقد رسموا أحزانهم وهمومهم على قصائدهم التي كانت تنضح روعة وعذوبة وصدقاً عكست معاناتهم، فكانوا أصحاب مواقف تمثلت في تجاوز المحظور وتخطي الموانع التي حاولت أن تحد من إبداع الشعراء عبر مراحل التاريخ المختلفة، ومن هؤلاء الشعراء الذين اخترت نماذج من قصائدهم: بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، محمود درويش، سميح القاسم وكاظم الحجاج. فقد تصديت لما صادفته من قصائدهم المبثوثة في دواوينهم الشعرية والتي تلقي الضوء على موضوع "الصليب في الأدب العربي الحديث"، الذي أصبح منذ صلب المسيح رمزاً للفداء والتضحية ليس عند المسيحيين وحدهم بل رمزاً عالمياً يهم الإنسانية جمعاء. فالشعراء كما يقول أناتول فرانس "الشعراء كالأطفال يسلون أنفسهم بالصور".
نبدأ بالشاعر اللبناني بشارة الخوري الملقب بالأخطل الصغير "1885-1968"، في قصيدة نظمها سنة 1933 في رثاء وديع عقل نقيب الصحافة اللبنانية:
تمشي على مَسَكِ الصدور وشوكها
وتلف بعد الموت بالأورادِ
لو لم يخضب بالدماء صليبه
عيسى لما كان المسيح الفادي
وقال في رثاء الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي:
وسَعَ الديانات السما
ح وضم أشتات الندوبِ
زفرات أحمد في رسا
لته وآلام الصليبِ
* * * *
وتحتل مسألة صلب المسيح في قصائد السياب مساحة كبيرة نظراً لمعاناته التي مر بها طوال فترة الحياة القصيرة والتي لم تتجاوز "39" عاماً لهذا نراه يشبه نفسه بالمسيح في قصيدته "غريب على الخليج" التي كتبها أثناء تواجده في الكويت:
بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه
ولعل قصيدته "المسيح بعد الصلب" خير تعبير عن مشاعره تلك:
بعدما أنزلوني سمعت الرياح
في نواح طويل تسف النخيل
والخطى وهي تنأى إذن فالجراح
والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل
لم تمتني
ويمضي في نفس القصيدة قائلاً:
بعد ان سمروني والقيت عيني نحو المدينة
كدت لا أعرف السهل والسور والمقبرة
كان شيء، مدى ما ترى العين
كالغابة المزهرة
كان في كل مرمى صليب وام حزينة
قدس الرب، هذا مخاض المدينة
لقد استمد شاعرنا السياب "1926-1964" من كتاب "العهد الجديد" الإنجيل معظم رموزه الخاصة بآلام المسيح وقد عكست قصائده في هذه المرحلة من حياته غربته الروحية وانكساراته النفسية، فهو في قصيدة "العودة إلى جيكور" يشير بوضوح إلى المسيح حين البسوه تاجاً من الشوك استهزاء به قبل أن يصلب:
من الذي يحمل عبء الصليب
في ذلك الليل الطويل الرهيب؟
من الذي يبكي ومن يستجيب
للجائع العاري
من ينزل المصلوب عن لوحه
من يرفع الظلماء عن صبعه؟
ويبدل الأشواك بالغار.
ويستمر السياب على إيقاع الصليب في قصيدته "مرثية جيكور" في تشابك حميم بين صلب المسيح ومدينته التي ولد فيها "جيكور" في أنفاس لاهثة يقول:
يا صليب المسيح ألقاك ظلاً
فوق جيكور طائر من حديدٍ
بالظل كظلمة القبر في اللون
وكالقبر في ابتلاع الخدود
والتهام العيون من كل عذراء
كعذراء بيت لحم الولودِ
مر عجلان بالقبور العواري
من صليب على النصارى شهيد
فاكتست منه بالصليب الذي
ما كان إلا رمز الهلاك الأبيد.
كما أستعار السياب قصة هابيل وقابيل كإشارة إلى العدوان الذي لا يزال قائماً بين أبناء البشر في كل زمان ومكان.
السائرين إلى الوراء
كي يدفنوا "هابيل" وهو على الصليب ركام طين
"قابيل" أين أخوك؟ أين أخوك؟
جمعت السماء آمادها، كورت النجوم إلى نداء
"وهكذا مات السياب في 24/12/1964 في المستشفى الأميري بالكويت ولم يكن قد تجاوز التاسعة والثلاثين من العمر ولعلها أعجب مصادفة تحدث لشاعر توحد بالمسيح، فمات في ليلة عيد الميلاد.."
هذه العبارة وردت في كتاب "الأسطورة في شعر السياب.. تأليف: عبد الرضا صالح.
* *
ولا يخرج عبد الوهاب البياتي "1926-1999" عن مسار السياب في ذكر مفردة "الصليب" في قصائده فهو أحد رواد الشعر الحديث ونجد في قصائده عمق الخواطر وحسن الذوق فهو شاعر المنفى العذب وفي أشعاره انتصار للقضايا الإنسانية الكبرى حتى أصبحت قصائده أغانٍ يتغنى بها الناس لذا فإن الكلمات تزهر تحت قلمه، يقول في قصيدة له بعنوان "إلى عام 1975"
وقال لي يسوع
بالأمس مر من هنا يسوع
صليبه: غصنان أخضران مزهران
عيناه كوكبان
طلعته حمامة، مشيته: أغان
بالأمس مر من هنا، فأزهر البستان
واستيقظ الأطفال، لا أحلى
وفي السماء، كانت نجوم الليل
كالأجراس كالصلبان
ويحلم البياتي بمستقبل يمشي فيه المسيح بلا صليب وتتحرر الإنسانية فيه من أعباءها الثقيلة:
الليل تطرده قناديل العيون
عيونكم، يا أخوتي المتناثرين الجائعين
تحت النجوم وكأن حلمت بأنني بالورد أفرش والدموع طريقكم
وكأن يسوع، معكم يعود إلى الجليل، بلا صليب
ويصور البياتي "الخيانة" خيانة بعض أصحاب المسيح له:
وهمست "إني منكمو"
ومضيت مرفوع الجبين
ويداك حباً ترسمان حمامة بيضاء تحتضن الصليب
وغصن زيتون خصيب
ويقول في قصيدة أخرى:
لو أنني كفرت بالإنسان
لكنتم يا أيها الذباب في وليمة الغالب
يا ثعالب الهجير حاشيتي
لكنني المغلوب، فوق صليب كلماتي، أبداً مصلوب
* *
وتبلغ مسألة "الصليب" ذروتها في قصيدة الشاعر محمد جواد الحلي "1937-2000" في قصيدته الغزلية "غادة وصليب":
سفاحةٌ أنتِ أم لله عابدة
بنت النصارى أرى من أمركِ العجبا
عيناك أنبأتا ان أنتِ قاتلة
دم الضحايا على خديك قد سكبا
أن تدعي كذباً أن لستِ آثمة
فيم المسيح على نهديك قد صلبا
أفدي صليباً ومَصلوباً وحامله
بين النهود يباهي بالذي ارتكبا
كاظم الحجاج شاعر الإيقاعات البصرية الندية التي ترقص على وقعها سعفات نخيل البصرة الخضراء ونوارس شط العرب البيضاء فتشكل لوحة فنية رائعة كروائع قصائده. فمن قصيدة له بعنوان "أصوات حول صليب الحلاج" احتواها ديوانه "وأخيراً تكلم شهريار" والقصيدة على لسان امرأة كانت موجودة ساعة إعدام الحلاج:
لك نذر أيها المصلوب
لو ارزق طفلاً
سأسميه "مسيح المسلمين"
لن تموتوا مثل ما مت ولكن
سوف تحيون على هذا الصليب
وأنا أمنحكم حبي على أن تمنحوني
حبكم للحق ... هلا تعدون؟
* *
وأخيراً أبيات الشاعر بيرم التونسي "1893-1961" التي استحالت إلى قصيدة غنائية لحنها الموسيقار الراحل فريد الأطرش وهي بعنوان "نشيد الفداء" تقول:
قد تعانقنا هلالاً وصليبا
وتلاقينا بعيداً وقريبا...