ادب وفن

بمناسبة مرور 4 أعوام على رحيله : محي الدين زنكنة .... عصي على النسيان / عبد الكريم جعفر الكشفي

بتأريخ 21/8/2010 غيبَ الموت قامة كبيرة من قامات العراق ونخلة باسقة من نخيل العراق وهي لما تزل في قمة نشاطها وعنفوانها.
إن فقد «أبو أزاد» خسارة كبيرة لا تعوض وهو عصي على النسيان بوصفه مسرحياً وروائياً يشار له بالبنان، أنه سليل عمالقة الأدب العراقي الحر، وخريج مدرسة علمتهُ كيف يذود عن المبادئ ويقارع الظلم والطغيان.
إذا عدًّ الكتاب التقدميون كان محي الدين في الطليعة منهم وإذا حسب المناضلون فهو الصفوة المنتقاة .... أنه من الكتاب الكبار الذين يملكون حدقات زرقاء اليمامة في الرؤيا ومعرفة المستقبل وأنه من الفنارات التي نتطلع إليها بشوق ولهفة وأنه منارٌ كشف لنا دياجير الظلمة أمام أبصارنا وعقولنا ولا يمكن للزمان إن يخنق صوته في أذاننا ولا للمكان إن يمحو صورته من حدقات عيوننا وصفائح وجداننا .... لقد كان وديعاً طيب القلب والجنان نظيف الجيب عف اللسان هادئاً كما هي الطمأنينة في الخافقين ... وادع كما هو لإيحاء الجميل في الوجدان وإذا جالستهُ شعرت به يوشي أحلاماً ويطرز أمالاً حلوة غالية .. يصوغ أمنيات وعذابات وقد يخيل أليك إن صوته لا يبلغ صدى الهمس وإذا تحدث قال ناراً وثورة وهو بركان أدب حمم وصوته وصورته .... إن أرتعاشة أنامله تهديد ونذير .
لقد كان يخافه الطغاة كما يخافه الأدباء المتملقون وكأنه شعبٌ كامل .... لقد كان لسان الشعب الشجاع وصوته وهديره، لسان الشعب الذي لم تتأخر عنده كلمة جريئة بحقه أو قولة صريحة كان يطلقها قوية هادرة ... كانت حياتهُ أدباً ملتزماً وسجناً وتشرداً في عام 2005 حينما سيطر الإرهابيون الظلاميون على بعقوبة كان سجنهُ بيته وموقوف في يديه القيود لكن لسانه نار لا تخبو ومعاناة لا تتقطع ولكثرة ما عاني من الفاشست الجدد عام 1963 و1968 يخيل لك إن الطغاة يلاحقونه لكن الحقيقة أنه كان يلاحق الطغاة هذه إيحاءات ألمت بوصف أديب وقاص عزيز صورتهُ ريشة فنان متقنة ... لقد كان يواصل نقده للطغاة مصاصي دماء الفقراء والذين استهزؤوا بمقدرات الشعب وراح يلوح لهم ويلهب أرواحهم في كثير من مسرحياته ورواياته والتي تصور مدى، كان يشغل ذهنه ومشاعره تجاه كفاحهم ونضالهم ... كان لا يتذوق الحياة في عهد الأوباش إلا من خلال نقدهم وإفهام الشعوب المناضلة بخستهم وسيرهم وراء مصالحهم الجشعة.
ففي عالم مليء بالصراعات وفي منطقة شهدت صراعات أنية هي كركوك وفي ساحة ممتلئة بالنضال المرير من المعاناة السياسية والاجتماعية ونتيجة الوعي السياسي الملتهب وتحديداً في فترة الأربعينيات والخمسينيات برز عدد كبير من الأدباء والمثقفين والفنانين والساسة والذين صمموا أن يعالجوا جميع الظواهر الحياتية من خلال منجزاتهم الإبداعية .... لقد كانت هذه المجاميع مؤمنة بقضية الإنسان الكادح المتعب والذين اكتسح الفقر وجوهم وهم يعانون من القحط والبؤس في الحياة المحيطة بهم، خصوصاً وأنهم عاشوا في مدينة طافية على بحر من النفط وهي كركوك والذين لا يشمون من هذا النفط والذي هو مستعبد الشعوب سوى رائحتهِ ولد أبو أزاد حيث أخذ يعبر عن صدق إيمانه من خلال أعماله الأدبية المنجزة ومن خلال المواقف المستوحاة من واقع الحياة النضالية بواسطة منجزة الأدبي الرائع ولكونه ملتصقاً بتأريخ شعبه ووطنه وتراثه العريق والذي ساهم في بناء مستقبلة الحضاري.
لقد نقل أبو أزاد من خلال كتاباته عذابات الجماهير المظلومة الخفية والظاهرة وبألوانها القاتمة ورسمها بطابع مؤثر لأفكاره الوطنية ومؤمناً بأن الأدب هو مرآة وضمير الشعوب المتطلعة نحو الغد الأفضل ... لقد كان رمزاً خلاقاً من رموز تلك الفترة المشحونة بالتوتر والغليان السياسي والصراع الطبقي ..... لقد كان كاتباً فذاً وظف أدبه الجاد بوعي للتعبير عن الموقف السياسي والفكري للكاتب الملتزم بقضايا الشعوب وهو يرسم أفكاره ومعاناته من هموم الجماهير ....
لقد أصدر بعض الروايات والمسرحيات عن طريق دائرة الشؤون الثقافية أيام النظام المقبور وهيمن في تلك الفترة الكم لا النوع من النشر وسادت عمليات النشر عن طريق الولاءات والتحزب والعلاقات الاخوانية أو عن طريق ولائم الأكل مما صار من العسير على القارئ إن يهتدي إلى الأعمال الجادة ولا يمكن لكاتب مبدع أن يمرر منجزه الإبداعي إلا بشق الأنفس وفي أغلب الأحيان وقد أغلقت الأبواب بوجه كتاب كبار من تمرير منجزهم الأدبي أما مقص الخبير فقد قطع الكثير والكثير مما يضطر الكاتب في بعض الأحيان إلى المساومة المبدئية على بعض آرائه لتمرير منجزه.
لما بلغ محي الدين زنكنة ريعان الشباب كانت الشهرة الأدبية الطائرة تسعى إليه وتحوطه بهالة من الإعجاب فأحب ذرى كردستان ومدن العراق وخاصة بعقوبة لتحتضن كاتبها الناهض الذي شرع الناس يهتفون به تقديراً لمواهبه الوثابة الطيبة لم يكن أبو أزاد مجرد كاتب قصة أو روائياً بل كان أستاذاً مرموقاً ذا شخصية فذة ومحبوبة وكان يعتقد باستحالة فصل الأخلاق عن القيم الجمالية وكان يدعو إلى إن تكون القصة والمسرحية أداة لترويج قيم الحرية والكرامة .... لقد رسم بروحيته الثائرة وملامح كتاباته التي بدأت شرارتها تلتهب في فترة مبكرة في حياته والتي ركز فيها على ضرورة أن تكون القصة والمسرحية جديدة في مضامينها وعلى الروائي والمسرحي أن لا يتهيب من التجديد ويتراجع خشية من النقاد، كان من خلال مسرحياته ورواياته يطرح على كنهه مجموعة من الأسئلة التي كانت تخامر عقله ويجد لها الحل والجواب الشافي حتى إذا انتهى من طرح الأسئلة راح يسد الطريق على من ينكر عليه هذا التفكير الجريء محتجاً بالدعوة إلى حرية الفكر ومحاربة الطغاة المتزمتين والذين ركنوا إلى أنفسهم خاملين وعلى عقولهم منطوين.
لقد كان ضد المتأسلمين الذين يحاربون الفكر والمتسترين بالدين والذين لا يفهمون من الدين إلا قشوره إما اللباب والجوهر فما أبعدهم عنه أما المخلصون منهم فقد أحتفظ التأريخ لهم بسطور وضاءة من جهادهم الوطني الشريف أمثال محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر ... لقد عاش أبو أزاد بعيداً عن الضجة والبحث عن الأضواء وهي سمته الأولى فهو عكس الكثير من أبناء جيله لقد كان يعمل بصمت وهدوء ويدع عمله يتكلم وكان متأنياً في كتاباته . كان واحداً من أمهر القصاصين العراقيين وأكثرهم صبراً واعتناء بما يكتب لذا تجد قصصه ورواياته في معظمها إن لم تكن كلها مكتفية بذاتها غير قابلة للشطب ولا تقبل الإضافة .... لقد كان مؤمناً كل الإيمان بالمساواة ويرفض الفروق الطبقية التي لها دور في تصنيف الإنسان في المجتمع ويعود ذلك إلى سعة اطلاعه وإيمانه المطلق بالفكر الشيوعي الإنساني الذي ساند موقفه في هذا الاتجاه لذا علم طلابه وجلاسه ومحبيه على احترام الإنسان لأخيه الإنسان بغض النظر عن العرق والدين واللون .... وختاماً لقد أنطفأ ذلك السراج الوهاج فالدنيا بعدك يا أبا أزاد في ظلام دامس لقد خمدَ ذلك الموقد الذي كان يبعث فينا الدفء فمحيانا في زمهرير.... أيها الصامت إن صمتك أبلغ من كل أبجديات الدنيا وسكونك المدوي صرخة حق في عالم الأباطيل وإن روحك تضيء لنا دروب المستقبل وهي بقايا نور في جبين الإنسانية لقد تهيأت للرحيل وأنت ترتدي ثوباً أبيض بلون رسالتك العظيمة وبلون الحمائم البيضاء وبرائحة نسمات الصباح الندي لقد بكتك الرجال قبل النساء كما بكاك الفقراء والمحرومون الذين دافعت عنهم حتى الرمق الأخير آه ... يا أبا أزاد في زمن العتمة حيث لا نور ولا ضياء يهتدي الناس بالطيبين من أمثالك فمن لاتحاد أدباء السليمانية وديالى ومن لجريدة طريق الشعب والصحف الأخرى بعدك ومن في المواقف الهادئ الشريف... إن عزاءنا يا أبا أزاد ونحن نعيش مع ساسة جهلة وأميين أتعبتنا تصرفاتهم بعد أن عشنا سنيناً عجافاً في ظل حكم دكتاتوري شمولي وضع الثقافة والأدب وكل ما هو إنساني تحت حذاء السلطة الثقيل.... نم قرير العين فأنت مفخرة لجيلنا المعاصر والمستقبل وعين لقلادة أدبنا الحديث وهذا ما سيذكره التأريخ إن لم يكن اليوم ففي القابلات الحافلات من الأيام ... يقول الشاعر الكبير ناظم حكمت (لقد جربت كل أنواع الوجع فلم أر وجعاً يعادل وجع الفراق)نحن أصدقاؤك ومحبوك نتذكرك ونتمسك بك حياً وليت شعري هل بإمكانك أن تخرج من جدثك لتعرف كم نحن نحبك وكم كان حزننا عليك عميقاً؟ لقد كنت فينا في أخر أيامك كنجمة الصباح تظهر أفلة قبل النجوم لكنها تبقى حية ساطعة حتى يطلع الصباح لقد تركناك ترحل في بلاد كردستان دون وداع الرفيق لرفيقة والصديق لصديقه في ذلك اليوم المصيري لقد كنت تعاني وتشكو فراق الاحبة في بعقوبة العزيزة على قلبك آه كيف يرحل رجل كبير مثلك بهذا التأريخ المفعم من النضال والتضحيات ومناضل كبير بهذا القدر الكبير من الشعب والوطن رحمك الله يا أبا أزاد ونور قبرك كما نورت الأذهان والقلوب بكتاباتك الخالدة .سلامٌ عليك بكرة وعشيا وما بقي الدهر ودام الليل والنهار وسلام عليك راحلاً.