ادب وفن

الناقدة أماني أبو رحمة: إرادة التغيير هي الغائبة أو المغيبة .. القسم الأول .. / حاورها: مازن المعموري

كان لظهور اسم "أماني ابو رحمة" في عالم الترجمة والنقد والبحث مؤخرا قد افرز اهتماما بها من قبل القارئ وخاصة في مجال دراسة الواقع الفكري والسياسي للمرحلة الحالية من تاريخ التحولات الفكرية في الغرب, فكانت هناك مجموعة من الاصدارات التي اهتمت بالسرد وأفكار بعد ما بعد الحداثة تجاوزت ثمانية كتب, والحقيقة فان إجراء حوار مع شخصية فلسطينية عرفت عن قرب, وترجمت, السمات العامة لتحولات الواقع الفكري الغربي وأثره الكبير في إعادة قراءة الواقع العربي في ظل حرب صعبة على مستوى التاريخ البشري, أخذت أقنعة مختلفة واستدعت الماضي وأسدلت الستار على عصر الحداثة العربي مع صعود التيارات السلفية إلى دكة الحكم , سيلقي الضوء على مجمل أمور مهمة, إذ مازلنا نعاني من ضمور ثقافة الحوار المكثف للثقافة العربية بل أن الواقع السياسي والاجتماعي أكد عزلة المثقف وعدم فهم المرحلة التاريخية الخطيرة التي نعيشها اليوم, وهذا الحوار عتبة في مجال حوارات مختلفة بدأتها مع الباحثة والمترجمة أماني أبو رحمة بداية الشهر الحالي من عام 2013:
هل تعتقدين أن تداعيات الانقلابات الاجتماعية والثورات السياسية في العالم العربي بمثابة خلاص دراماتيكي للغرب من ذات الفعل الثوري لتحولات ما بعد الحداثة التي ظهرت مع تظاهرات الطلبة عام 1968 في فرنسا ؟
أرى أن السياقات والتيارات المحركة للأوضاع الحالية مختلفة تماما. لست متفائلة أيضا بشأن المستقبل. فعلى سبيل المثال كانت انتفاضات الطلبة عام 1968 والتي يعدها بعض المفكرين والمؤرخين الانطلاقة الحقيقية لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية على وجه الخصوص، إعلانا للثورة ضد الأنظمة والسياسات التعليمية والمناهج الدراسية لأنها تخدم مصالح البيروقراطية والطبقة الحاكمة. وكانت الاحتجاجات تعلن وبصراحة القطيعة مع الماضي والرغبة في التجديد وكسر هيمنة القوى المحافظة على التعليم والإدارة والسياسة. وفي خضم هذه الأحداث برزت أسماء مهمة غيرت بكتاباتها وأعمالها وجه الثقافة الغربية وطرحت أفكاراً راديكالية كبيرة كان من نتائجها إحداث قطيعة ثقافية وفلسفية وأدبية وفنية وفكرية شاملة مع الماضي، ومن أبرز تلك الأسماء لوي التوسير وهربرت ماركوزه وروجيه غارودي وميشيل فوكو وجاك دريدا وجان بودريلار وفرانسوا ليوتار. إذا كانت هناك أسس فكرية ناضجة ومطالب محددة لتلك الثورة ولكن ، وعلى الرغم من محاولات الكثير إسباغ طابع الثورة الشعبية على ما يحدث في المنطقة، إلا أن غياب القيادة الفعلية والخطاب الجمعي المتماسك والمطالب المحددة المستندة على وعي فكري مستنير يهتم بالمستقبل يجعل الأمر أقرب إلى الفوضى المدبرة التي تقود إلى المجهول.. ومع ذلك فما زال هناك أمل بأن تكون إرهاصات تغير نحو الأفضل كامنة فيما يحدث وان تحدد المنطقة أساسا لفكرها بعيدا عن التلفيق الذي أدى إلى ما يحدث الآن .
أرى من جانب ما أن الثورات ستقود إلى انهيار أعمدة الكذب والزيف والى تشقق تلك القشرة السطحية البائسة التي طالما غطينا بها قضايا فكرية يجب أن تحسم ..الآن نحن في مواجهة حقيقية مع الذات ستقودنا إلى مستقبل (أما أو) والأمر متروك لنا بالطبع لنحدد خارطة المستقبل.
تذكريني بكتاب مؤسس الوجودية الحديثة سورين كيركغارد (أما أو) واعتقد بان الخيارات تبقى فردية, اما ونحن نتحدث عن شعوب وجماعات فالامر مختلف جدا, اقصد اننا لا نملك القدرة على تغيير مستقبلنا كما فعل الغرب, والسبب هو ظلال التاريخ الثقيلة على إرادة الشعوب العربية التي مازالت تفكر بطريقة ميتافيزيقية, أو أنها تعتقد أن ما يحدث مكتوب علينا, لذلك اعتقد أن الغرب يصدر أزماته إلى آسيا وتحديدا العرب بسبب وجود المبررات الراسخة, فإذا اتفقنا على وجود المبرر فان المستقبل سيبقى مقرونا بالأساطير والسرديات الكبرى, إلى أي مدى يمكن مقاربة نظرية السرد مع الواقع العربي , بما هو جزء من فضاء السرديات؟
لا توجد إرادة لا جمعية ولا فردية للتغيير.. أكاد اصدق أن التغيير مناف للطبيعة في هذه المنطقة من العالم.. التغيير يقابل عادة بالاستنكار والهجوم الحاد حتى قبل أن يفكر الناس في محتواه ومضمونه.. أنا أيضا لا أرى قصورا في العقل العربي إطلاقا ولكن إرادة التغيير هي الغائبة أو المغيبة. انظر مثلا إلى الأفلام التي تفوز بجوائز أو حتى تلك الجماهيرية والى الروايات التي تفوز بالبوكر مثلا أو تحقق أعلى المبيعات في الغرب، تجد أنها تطرح رؤى مغايرة على أي صعيد كان. يتلقف الغرب شعبيا ونخبويا التغيير ببساطة وحفاوة في آن.. يستهلكون الفكرة حتى أقصاها ثم يغيرونها هكذا بكل بساطة.. هذا يتيح لهم فرص التجريب واختبار الجديد وتقييم الحاضر واستشراف المستقبل.. الميتافيزيقيا ليست هي العائق أبدا.. فلا احد في هذا الكون حسب قناعتي يخلو منها أو يتمكن من العيش بدونها .هي تأخذ صورا مختلفة ومسميات عدة ولكنها في النهاية ليست عائقا إذا ما تمت مناقشتها. نحن نخشى الاقتراب ليس من الميتافيزيقيات فحسب وإنما من الماديات أيضا، ومن أفكار نعلم أنها خارج دائرة الميتافيزيقيا والمقدس ولكننا أضفينا قدسية على أصحابها فغدوا أعظم منها.. تتلاشى الفكرة العظيمة تدريجيا حين نقدس صاحبها، والحقيقة هي أن القيمة أو الفكرة أكبر بما لا يقارن من كل المدافعين عنها على مر العصور.. هنا نصنع دكتاتورياتنا بهذه الطريقة وهنا نضيع القيم والأفكار أو لنقل أننا نمنع عنها التقدم والنمو والتطور.
لست مع إسقاط السرديات الكبرى، الأمر هنا بالغ الخطورة.. اعتقد أن السرديات الكبرى هي الناظم الجمعي الذي يربط أو يشكل مجتمعا ما ..خطورة إسقاطها المتهور هو استبدالها بسرديات صغرى ستقود حتما إلى التفتت والخلافات وقد تتحول مع الزمن إلى سرديات كبرى من نوع آخر، خذ مثلا: أن احتفاء ما بعد الحداثة بموت السرديات الكبرى أو ما وراء السرديات وادعائها المفارقي بأن الحقيقة العالمية الوحيدة هي أنه لا توجد حقيقة عالمية كان أعظم أساطيرها. ذلك ان البشرية لم تخضع في تاريخها الطويل لما وراء سردية واحدة كما هي اليوم, حين تهدد الرأسمالية العالمية بإقصاء كل سرد و كل معنى آخر ـ عدا سردياتها الخاصة ـ من حياة الإنسان. وفي حين أن التاريخ والتقاليد التي ربطت بين الناس والمجتمعات المحلية ومنحتهم إحساسا بالمعنى والانتماء أضحت محاصرة من كل الاتجاهات ،فان نظام الاقتصاد العالمي غير الإنساني والذي لا هوادة فيه يجرف بقايا الكرامة الإنسانية والأمل لأولئك الذين تم نفيهم وإقصاؤهم واستغلاهم بالحروب والفساد وعدم المساواة المتزايدة التي يجرجرها النظام الاقتصادي العالمي في أذياله. هذا هو السياق الذي يجب علينا وضعه في أفكارنا إذا كنا نريد أن نسأل: لماذا ينجذب كثير من الناس إلى أشكال متعصبة ودوغمائية الدين.
ما نحتاجه في الحقيقة هو مراجعة جادة وتنقية أو غربلة متأنية لهذه السرديات بحيث يتم إعداد بدائلها المناسبة حتى لا نسقط في هوة الفوضى والتشرذم ..نحن بوضعنا الحالي غير جاهزين والمغامرة المتهورة ستكلف الكثير .
مازلنا حتى هذه اللحظة نشعر بانهزام مشروع الحداثة العربية التي انطلقت مع الجيل الأول لرجالات الثقافة التنويرية منذ نهايات القرن التاسع عشر, البعض يعتقد أننا لم نتخلص من هيمنة التاريخ, رغم جهود مفكرين مثل محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وغيرهما في ردم الهوة بين الواقع العملي للأنا وعلاقتها بالهوية من جانب وصورة تدهورها في ظل علاقتها السلبية بالاخر الغربي وتبعيتها له من جانب آخر, فهل هناك تصور منطقي للفشل المتصاعد داخل الذات العربية؟
القضية من وجهة نظري بالغة التعقيد.. هناك مفكرون حداثويون ولكن هناك جماهير ووعيا جمعيا يتمسك بقوة بالماضي ويرفض التغيير.. أصبحت أشك أن سمة رفض التغيير أو مقاومته هي السمة الأبرز في هذه المنطقة.. قد يضع المفكرون خطوطا عريضة للتغيير الفكري ولكن بقاءها في معزل عن التذويت عند الجموع سيفقدها طاقتها التغييرية ويعمق حالة الفصام .. هنا أيضا يمكننا أن نقول أن ايلاء النقل أهمية خاصة على حساب العقل و تهميش الاجتهاد لصالح القياس وعرض كل فكر مغاير على محكمة الدين والإيمان حتى لو باب مناقشته وغربلته أمورا تضيف للتعقيد تعقيدات واشكاليات ..
العقل الغربي خفيف الظل, يتقافز, يبتكر, لكنه في ذات الوقت يدمر ما حوله كما لو انه طفل سريع الجزع, فهل يمكن ايجاد مبرر حقيقي لتمسك المجتمع العربي بكيانات وخطابات إسلامية كهلة وميتة؟
الخطابات الإسلامية ليست كهلة كما أنها ليست ميتة .. الغرب لا يختلف عنا أبدا في هذه الناحية تحديدا إلا انه أشد دهاء ونفاقا.. الغرب شديد التدين بل انه أكثر تمسكا بسردياته الكبرى على المستوى الشعبي والنخبوي أيضا.. كل نظرياته تنبع من عقيدته المسيحية اليهودية.. ضدها او معها ولكنها جوهر فكره ولب اهتماماته.. الفرق هو انه يناقشها بحرية ليست موجودة لدينا بسبب سيوف التكفير المسلطة على رقابنا.. قلت إننا نقدس الشخص أكثر من الفكرة وحينها ربما لا ندرك مع الزمن ما هي الفكرة الحقيقية.. لسنا بحاجة أبدا لإسقاط الاستلام، كل ما نحتاجه من وجهة نظري هو الحرية الفكرية في مناقشة ما يعرض علينا كله بوصفها إسلاما أو مقدسات.. لو أننا كنا على مستوى نقاش كهذا لكان الإسلام أحد أعظم كنوزنا الفكرية.