ادب وفن

جمهورية البرتقال.. انشودة وفاء للمدن الاثيرة / عبد الحاج حمود الكناني

وقف الشاعر ابراهيم الخياط على باب مدينته الحبيبة (بعقوبة) وراح يناجيها ويتغنى بها ولهاً متيماً بحبها، عاشقاً لخصلات شعرها المجسدة في نخيلها الكثيف المتشابك المنتصب على ضفتي النهر خيراً وملاذاً... فهي مدينته التي وسمته جوّابها المستقر في تفردها بين جميلات العراق، ووضعته فوق مشابك عرباتها اكليل ورد ضاجاً بالالوان الساحرة.
مدينته التي بادلها الشوق، واحترقت احشاؤه توقاً لرؤياها، وفاضت مشاعره الجياشة مفردات عذبة ورشيقة بين قصائده التي ضمتها مجموعته المتميزة (جمهورية البرتقال) والتي لا يجد القارئ والمهتم صعوبة في معرفتها، فهي (ديالى) مدينة البرتقال، فأين تولّ وجهك تلفحك رائحة البرتقال في (بهرز وشفته والزهرة) وغيرها من الانحاء الساحرة التي عاشت مع الشاعر الخياط اينما حل وارتحل، حتى وزع محبته لها في مجموعته هذه ليؤرخ للجمال فيها، ويبشر بها حاضرة للأخاء والايثار والتماهي بين اطيافها ومكوناتها، وهو بقدر حبه لجمهوريته، فهو يرثيها مرغماً لانها انهكتها الحروب وعبثت بها الدعوات الجديدة الدخيلة على بلادنا والتي امطرت في سمائها بؤساً وشقاءً وجعلتها مدينة حزينة يطوف في أجوائها الموت وتنتشر في زواياها رائحة الخوف وصور الرعب المفاجئ الذي كاد ان يعصف بتاريخها ويحولها الى مومياء في قافلة الزمن القبيح، فهو يقول:
(بين الأسى
واستدارة النهر الذبيح
كانت خطاي تنبئ بالجفاف
وتقرأ سورة الماء المدمى ايامئذ
انتكس القلب مرة
وانتكس النهر مرات
فلم يبق لقلبي
سوى ظل انثى
ولم يبق لنهرنا الشقي
سوى حثالة الاهل المتسربين
ومثل كل مرة
كانت المدينة تسورني بالتماعاتها
وتأمرني بالبكاء)
(الفوانيس الشاكية)
ويطلق صرخته المكبوتة اعلاناً عن الخطر المتربص بحبيبته، حيث:
(جفّ القلب
وجفّ النهر،
فما عاد القلب كبيراً
وما عاد النهر عظيماً..)
هذه الثنائية هي تأكيد على العلاقة الجدلية بينه وبين مرتع صباه وملعب يفاعته ومنطلق احلامه وملهمة مستقبله، ودعوة الى الاسراع لضمّها من جديد وحمايتها بالضلوع ونبض القلوب فالنهر:
(الذي كان تزفه النوارس دهراً
هجرته الآن
حتى الضفادع)
وفوانيسها باتت شاكية، وخاصم الماء نهرها، وظلت تبكي حبيبها عسى ان تطرد دموعها اليباب.
انهما شريكان بلا شك وأن كانا بلا ليل لكن امنيتهما واحدة وهي ليست سوى الدار الآمنة، وهي اشارة الى حياة الاستقرار والاطمئنان وأجواء المحبة والتعاون التي اختفت جراء غزو الجراد واصحاب الاقنعة والسموم، وهي الشراكة الأزلية التي يمتد ضياؤها الى بقاع اخرى من البلاد، بل الى البساتين والبراري والبوادي والسهول والجبال والاهوار:
(كنت ارتقي ابراج المخافة
والقباب التي انتذبتها من بين اضلاع بغداد،
وكنت هياماً حدّ السكوت
حين اتلفع الغيمة الغشوم
وامتهن التجوال على محيط العراق،
هذا المسوّر
بالجزائر الرملية
وبضع راسيات غفين على سراب
قيل الحكومة)
ولم يقف عن حدود مدينته في قصائده، وعند تلك المسافات الرحيبة، بل تناول الهمّ الشعبي في أخريات من قصائده، وضمنها موقفه عبر نقده للمظاهر الجديدة التي تمضخت عن التغيير الذي حدث في البلاد، ومرارته من تفاهة التوجهات لجهات القرار العراقي والتي انحصر جلّ اهتمامها في اللهاث خلف المحرمات والسحت الحرام وتناسوا مسؤولياتهم وحتى شعاراتهم والتي اكدت كذبهم ومكرهم بل غدرهم بتطلعات المواطن العراقي المسكين الذي كان يحلم من خلالهم بحياة رغيدة سعيدة لاسيما ونحن بلاد غنية وبامكانها ادخال البهجة والغبطة على تلك الاعماق الجافة والتي خوت من جراء وأد امنياتهم ودفنها في وديان الاهمال، فهو في قصيدة: سؤال بسيط جداً؟، يعدد الوزارات والهيئات التي تجاوزت الاربعين، ومنها وزارات لا لزوم لها، وليس لها عمل، سوى مناصب شكلية وارضائية مثل وزارات شؤون مجلس الوزراء، ووزارة شؤون مجلس النواب، ووزارة شؤون المحافظات، فهذه الوزارات ماذا تفعل؟ أليس هنالك أمانة عامة لمجلس الوزراء، وديوان لمجلس النواب، ومجالس محافظات (حكومات محلية) ومحافظين مرتبطين بمجلس الوزراء؟، ألا يعني هذا أن هناك عملية هدر مال مقننة، وتشجيع على البطالة المقنعة.
وإلا فقل لي ماذا يفعل وزير الدولة لشؤون مجلس النواب؟ هل يقتصر عمله على اخراج الهويات والجوازات للنواب والوثائق الاخرى؟ او متابعة اراضيهم وامتيازاتهم ورواتبهم؟ او جلب القرطاسية لهم، وتوفير الاطعمة والملابس والعطور لهم؟
انها حقاً اسئلة حيرى، وحسناً فعل الشاعر في الاشارة الى هذه القضية التي كشفت عن حقيقة وطنية الاقطاب والاحباب والاحزاب، وهو لم يكتف بالتعداد فقط، بل يتهكم اكثر بقوله:
(ما الجدوى من تشكيلة
حكومة عزوم ؟
وهي تتلألأ بـ ! هذا الكم من الوزارات والهيئات والمستشاريات
فضلاً عن دزينة من
وزراء لا حقائب لهم، ولا خرائط!!
ما الجدوى؟
إذا كان بيتي السعيد
منطقة منزوعة القوت
وحواليه تتضوع حديقة من الديون).
لقد وظف الشاعر مسائل عديدة في شعره وقصائده وهو شأنه شأن أي شاعر لابد ان تكون تناولاته واسعة، وساحة اهتماماته اوسع، وجاءت قصائد المجموعة باشكال متنوعة فمنها من كانت الغنائية سمة غالبة وواضحة فيها، ومنها من اعتمدت السجع المركز، واخرى كانت مفتوحة، ورابعة اتخذت من المقاطع بناءً لها.
على اية حال ان الشاعر اراد ان يفصح عن قدراته وامكانياته في بناء القصيدة ومنحها الشكل المناسب لها، الى جانب انه كانت له مفردة خاصة عكست سعة ثقافته واطلاعه ونفسه الشعري، فلم تكن عباراته وجمله تقليدية، بل كانت تنطوي على اسرار خاصة وفرتها له ملكته الشعرية والقدرة على توظيف الاحداث والمواقف وايجاد اللغة والجمل التي تتناسب مع مضمونها.
ومن بين قصائده التي حتما يستوقف عندها القارئ والمهتم، ويحيطها بتساؤلاته المنبثقة من اعجابه ببنائها وموضوعتها، قصيدة (النبي الصامت)، والتي يقول فيها:
(أوما اخبروك؟
كان انكيدو - فتى صعلوكاً
أغرى المليك وأغواه.. برقصتين
وحرير الكلام
ونسج من الخلود المرتجى
عباءة الاوهام
أكان في بيته ماكنة الافلام
ويعرف المشاهد اللاحقة
وعقدة الرواية
ولقطة الختام
أكان في جيبه مسبحة الايام
ام كان نبياً صامتاً،
فباعنا
قبل الآف قليلة
وخلف العشبة المسروقة...
راح ونام...)
لقد ضمت المجموعة ستة وعشرين قصيدة كانت بمثابة انشودة حرّى لمدنه الاثيرة، وهتاف جميل الى الاماكن التي شهدت بهجته وسعادته، وتلويحة محبة الى الاحبة على امتداد الارض النبيلة فأجاد بوحها.