ادب وفن

مسرح الشمس / د. زهير البياتي

إن من أكثر الحقائق الثابتة في المجالات الإبداعية بصورة عامة والدراما بصورة خاصة هو عكسها للصورة المعبّرة عن طبيعة العصر الذي يعيشه المبدع، فالعرض المسرحي إذ يُقدم تجربة مكثفة فأنهُ يستخلص هذهِ التجربة من تفاصيل الحياة التي يعيشها مؤلف النص والمخرج صانع العرض المسرحي وكذلك الممثل، وخاصةً في خضّم الفترات المليئة بالصراعات والمتغيرات وعلى جميع المستويات، وإزاء هذهِ المتغيرات ظهرت تجارب تباينت في طرح أهدافها وطرائق إيصالها إلى المتلقي ومن هذه التجارب تجربة ( آريان منوستكين1940) التي من خلالها أسست فرقة (مسرح الشمس) وآريان منوشكين التي وُلدت في باريس من أبوين روسيين وتخرجت من جامعة (السوربون) أسست هذهِ الفرقة فرقة (مسرح الشمس) عام1964 والتي ضمت مجموعة من الهواة وعلى شكل جمعية تعاونية عمالية تحولت فيما بعد إلى فرقة مسرحية اعتمدت القيام بالبحث عن الشكل الفني الأكثر عمقاً والأقوى تعبيراً وقد تولت مسؤولية الفرقة إدارةً وإخراجاً وتنظيراً إذ اعتمدت في إدارتها هذهِ على مبدأ المشاركة الجمعية في الإنتاج
لقد عمل (مسرح الشمس) على مبدأ الابتعاد عن المسرح التقليدي وعلى عدم مسايرته وخاصةً فيما يرتبط بالنص وعناصر الإنتاج، وكذلك عناصر العرض المسرحي، فهو بالدرجة الأساس مسرح سياسي يؤكد على الضرورات الآنية للمجتمع وعلى ما تفرزه طبيعة المرحلة من قضايا اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية، إذ يصهر هذهِ القضايا المهمة في بودقة النص المسرحي الذي تعتبره الفرقة ومنهجها عنصراً من العناصر المكونة للعمل المسرحي لذلك تقوم بعملية إخضاعه لمبدأ المشاركة الجمعية، أي بمعنى أن مجمل أعضاء الفرقة يساهمون بإعداده بحيث يصبح متوافقاً مع أهدافها السياسية التي تدعو إلى التحرر والانعتاق من العبودية.
ان فرقة مسرح الشمس ولطبيعة تكوينها الأيديولوجي اعتمدت فيما يخص النصوص المسرحية على إعدادها لها من خلال خبر سياسي يُنشر في صحيفة معينة أو يُقدم من خلال المصادر السمعية والبصرية الإعلامية، فالنص المسرحي عند فرقة مسرح الشمس مساحة مفتوحة وقابلة للتعديل والتطوير والتفسير، وكل ذلك يتم عن طريق اتفاق الرأي الجمعي (للكروب) المسرحي بأكمله من خلال التمارين اليومية، حيث تنطلق الفكرة الأولى، وتبدأ المجموعة بالشغل على تطوير هذهِ الفكرة، وكل تمرين من التمارين على المسرحية المعينة يعد بمثابة إضافة وتغيير في البنية الأساسية للفكرة التي انطلقت منها الفرقة.
لقد بدأت مونشكين عملها المبكر مع مسرح (الثياتردوسولي) في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين من خلال مسرح (الشعب) وكان هاجسها نشر المفاهيم الاشتراكية والتوجه نحو الطبقة العاملة وأماكن تجمعاتها. وتطبيقاً لذلك فقد تم عرض مسرحية (المطبخ) لـ(آرنولد ويسكر 1968) وقدم العرض في عددٍ من المصانع المضربة عن العمل آنذاك.
انضمت مونشكين إلى (كوبو) بعد تأثرها به لكونه كان يعمل في مجال الارتجال وأسلوب (الكوميديا ديلارتي) وعلى سمات العرض التي يشتغل على أساسها السيرك، وقد انتجت الفرقة عرضين مهمين هما (1789 على الصورة ان تتوقف عند أكتمال السعادة عام 1970) والعرض الآخر هو (1793 مدينة الثورة من هذا العالم عام1972 ) وهذان العرضان هما تأويل للتأريخ الفرنسي من منظور انتفاضة الطلبة عام1968 . وفي الثمانينيات فقد خضع مسرح (الثياتر دوسولي) لتأثيرات (بيتربروك) وذلك منذ عرضها مسرحية (حلم منتصف ليلة صيف) الذي قدمتهُ عام1968.
سارت عروضها الحديثة على ذات الخط الطليعي الذي سار فيه (جان لوي بارو) و(هانبرمولد) و(روبرت ويلسون) وفي نهاية السبعينيات تبنت (متوشكين) بعض المنطلقات التي تبناها (آرتو) بخصوص (المسرح الشرقي) وقد ظهر ذلك واضحاً في العرض المسرحي (جنكيزخان) عام1961 وخاصةً في بعض مفردات العرض المسرحي التي استخدمتها، المشاعل المتعددة والملابس والأعلام الملونة (البيارغ).
والتجريب بدأ واضحاً عند (منوشكين) حينما عرضت مسرحية (عصر الذهب) عام1975، ويتجسد التجريب لديها في الرمزية المتمثلة في المسرح الصيني، والتجريب على مستوى استخدام الأقنعة وذلك لغرض خلق معادل معاصر يتحدى أنماط الإدراك التقليدية من خلال جذوره الغربية، وفي هذا الصدد تقول (منوشكين) إننا لا نحيي هنا أشكالاً مسرحية قديمة أو الكوميديا ديلارتي أو حتى المسرح الصيني التقليدي، أن ما نبغيه هو إعادة صياغة قواعد اللعبة، تلك اللعبة التي نصور من خلالها الواقع اليومي وان نكشف عما تنطوي عليه من قدره على الإدهاش والتحول، لا ما تنطوي عليه من اعتيادية وثبات.
مسرح الشمس له لغتهُ الخاصة التي تحتوي على استعارات غنية وتمتاز بطابعها الخاص، وهي تجمع بين من يشاركون في التجربة المسرحية، فالعمل المسرحي لديهم مغامرة ولا يمكن أن يُفهم فهماً كاملاً إلا أثناء العرض على خشبة المسرح.
مسرح الشمس بُني على وضوح الرؤية، والممثل لنا يصبح قادراً على الأداء إلا إذا كانت لديه رؤى واضحة للأشياء وأن يكون متحفز الذهن وصاحب خيال عال، وبصورة عامة مسرح الشمس يعمل فيه الممثل المهاري الذي يستطيع أن يجسد رؤى المؤلف والمخرج من خلال أدواته التي يمتلكها والتي بواسطتها يلعب الدور بشكل مرن وبلياقة عالية.
مسرح الشمس يتجنب الزخرفة والممثل فيه يتجه إلى ما هو جوهري، ويؤدي البحث عن الجوهري إلى خيارات فنية مثل غياب المعنى المتعارف عليه للكلمة وتغير المساحات الخالية وتغير عمقها، كما يوجد تركيز واهتمام متزايد على عمل الحركات والتعبيرات الجسدية، وهذا يعتمد على الممثل الذي يمتلك المهارة العالية في الأداء.
ومسرح الشمس يبدأ من الثوابت في تسيير العملية المسرحية فالعاملون فيه يطورون الثوابت ولا يغيرونها تغييراً كاملاً، لذلك فأن القناع أصبح لديهم وسيلة مهمة في العرض المسرحي فهو يّعبر عن الانتقال إلى داخل الشخصية وبشكلٍ عام فقد أصبح القناع هو النظام الأساسي لهذهِ الفرقة.
وفي نفس الوقت الذي يعتمدُ الحوار المعتاد كأهم وسيلة للتواصل فأنهُ يقوم وبشكلٍ دائمي على التغيير المستمر في اللغة المستخدمة من لغةٍ ذاته إلى لغة عامة، إلى لغةٍ تشبه لغة الحِكم والأقوال المأثورة.
والممثل في مسرح الشمس نجده أيضاً في تغير دائم فهو ممثل يتحول من دورٍ لآخر وبسرعة، وأحياناً يحصل هذا التحول في كل شيء وأمام المشاهد و»المشاهد بهذا يتغير هو نفسهُ، فعند دخول المسرح تتم دعوته لمشاهدة مرحلة ارتداء الأزياء ووضح الماكياج، وهذا يربطهم أكثر بواقع العمل وفي نفس الوقت يجعلهم على تماس بفكرة مسرح الشمس.
والتقليد في مسرح الشمس لا يعني الاقتباس، أنهُ يعني التعريف، والقضية ليست تقليد شيء من الخارج بل من الداخل، لذا فهي تقول أي منوشكين- أبحث عما هو حقيقي وليسَ عما هو واقعي، والحقيقي غير الواقعي، فدخولك المسرح هو دخولك لمكان رمزي وكل شيء فيه موسيقي وشاعري، وكما أن الفضاء المسرحي يكون مفعماً بالديكور والموسيقى والإضاءة والأصوات والحركات، ويُعدّ الفضاء المسرحي للعرض اكتشافاً لموقع القصة المدفونة.
لقد أكدت (منوشكين) على البساطة في الديكور، وتجاوزت الستائر في الفضاء المسرحي وكذلك الأجنحة، فالفضاء في مسرح الشمس عبارة عن أرض بلون الطين وحوائط بنفس اللون، فالفضاء المسرحي لا يمكن خلقه إلا من خلال العلامات، واعتبرت منوشكين القناع وسيلة مهمة للتعبير عن الممثل، فهو الخطوة الأولى للانتقال من التمثيل الطبيعي إلى التمثيل المسرحي، فلو قام الممثل المقنع بأداء دوره بطريقة طبيعية فأننا سنرى شخصياً يضع على وجهه شيئاً قبيحاً ميتاً لا حياة فيها، أما إذا جعل الممثل من القناع شيئاً يموج بالحياة وأعطى له معنى وإيقاعاً وتوازناً، وعاش داخل هذا القناع، فأنهُ في هذهِ الحالة يُعطي ميلاداً لصورةٍ جديدة، يقترح من خلال القناع وجهاً آخر، وهكذا تظهر لنا على المسرح شخصية جديدة أكثر غموضاً وحسب القناع الذي يختاره الممثل، ومن خلال القناع يحاول الممثل أن يثير من ذاكرتنا شخصيات قد نكون على معرفةٍ بها أو رأيناها في مكانٍ ما، لذلك فالمواجهة مع تلك الدمية البشرية الخيالية في ملابس بهلوانية بوحدتها الاصطناعية وانفها الطويل، تثير في كثيرٍ من الأحيان الضحك فنحنُ نضحك نظراً لعدم غياب الممثل أثناء تلك الظاهرة، في المقابل فأن الممثل لديه الإحساس أننا نراه ونعرف شخصيته فضحكنا يزعجهُ، ومن ناحية أخرى فأنهُ سيُسعَد كثيراً في عرضه لنا حتى قبل أن نفكر في معرفة هويته. وكلما زادت التناقضات الداخلية الخفية كلما زادت الأحاسيس الشخصية، وهنا فالممثل يستخدم كل الوسائل في عرضه المنظم، فيستخدم جسمه، صورته، قناعه، ويجمع بين غير الواقعي الغامض وبين الحقيقة غير الكاملة مع الاستمرار في تقويم الاقتراحات والاستشارات والاستكشافات حتى يجعل من شخصيته شخصية ممتعة.
ان قدرة القناع على إثارة ذاكرة الممثل بوضوح وبدرجة كبيرة أو بدرجة ضئيلة تنعكس على قدرة الممثل على أداء الشخصية ومحاولاته في هذا الاتجاه، وبالرغم من هذا فأن الكثير من الأقنعة التي تُستخدم في العروض هي ليست لشخصيات مشهورة. ان الشخصية المقنعة هي التي يكون لها إيقاعها وهذا الإيقاع يتشكل وفقاً للعاطفة والحالة، كما أنهُ لا يمكن أن نقول أن ارتداء القناع يفرض حركة معينة للرأس والرقبة، فالممثل يهيمن على الشخصية بصورة عامة، ثم يقرر الطريقة التي يعّبر بها عن شعوره في موقف معين، والقناع في مسرح الشمس يشكل القاعدة الرئيسة لعمل الممثل، فبمجرد أن يضع الممثل قناعهُ حتى يقترب من عالم الشخصية الداخلي. لقد تعامل مسرح الشمس مع عدد من المؤلفين وتبنى نصوصهم ومن هؤلاء المؤلفين شكسبير إذ قدم له ست مسرحيات حيث تعبر على أنه كيميائي ميتافيزيقي، وهي فكرة مرتبطة بفكرة (بيتربروك) عن المسرح المقدس، حيث ان العودة إلى شكسبير تعني عودة للنصوص ويعني ذلك ان مسرح الشمس أدرك ان الفرد لا يستطيع التمثيل على المسرح بدون نصوص، والتعامل مع النص الشكسبيري يجعلنا نتحدث عن الكيمياء الاستثنائية التي يحّول فيه الممثل النص إلى جسدٍ وإشارات كطريقة بديلة حيث ان المسرح استعارة إشارة واستعارة كلمة وان ما هو جميل في المسرح هو الموقف الذي يحّول فيه الممثل الشعور والذاكرة ولا يمكن ان يرى أحد عاطفة نقية ما لم يحولها الممثل إلى أداء وإلى إشارة أو رمز، حيث أن شكسبير لا يمثل العالم فقط ولكنهُ يضيف شيئاً للعالم. والمسرح لدى هذهِ الفرقة فرقة مسرح الشمس- هو مكان لأجراء التجارب على العديد من الأشياء، ولا يمكن ان تقتصر هذه التجارب على منطقةٍ واحدة، فهم لا يريدون أن يقتصر المسرح على السياسة فقط.