ادب وفن

مقامات عبد الكريم كاصد / د. أحمد إبراهيم الفقيه

تقرأه كأنك تتجول في حلم، أو عالم فانتازي، لكنه الواقع مرسوما بريشة المبدع، بل ما اصدق كلماته نفسها يصف بها عمله قائلا: " وإذا شئت الواقع لا الحلم، فأنا ذلك الطفل، وما الجدار إلا الشعر، وما بكائي إلاّ لأضحك على واقعٍ كالحلم، وحلم كالواقع، ونوم كاليقظة، ويقظة كالنوم" الكتاب اسمه " أحوال ومقامات " كتبه الشاعر والكاتب العراقي المعروف عبد الكريم قاصد ليكون نصا مفتوحا على أفق السيرة، ولكنها سيرة شعرية، شذرات من ذكريات ، صور تنهال على الذاكرة من عالم الطفولة التي قضاها في مدينة البصرة ، يعززها بقصائد منتقاة من مختلف الدواوين التي أصدرها على مدى العقود الأربعة الماضية، فيها إحالات لفصول من حياته، لكنك لا تستطيع أن تقول متى ينتهي الشعر ويبدأ النثر ، أو متى ينتهي النثر ويبدأ الشعر، لأن النثر أيضا يتحول إلى شعر، ويكمل احدهما الآخر، كما لا تستطيع أن تقول متى ينتهي الخيال ويبدأ السرد الواقعي ، لأنهما أيضا يتداخلان ويكملان بعضهما، هل أقول أن فيه شيئا من أنفاس جبران في نبيه، لان نثار الحكمة يتوزع على كل صفحات الكتاب، الفرق أن نص جبران اعتمد البساطة والوضوح كانك في حضرة قداس ديني، النص هنا يختلف في انه اكثر تعقيدا، وغموضا ، وإرباكا، فمعانيه لا تمنح نفسها بسهولة لقارئها، كأنه ينتظر منه بعض المكابدة ليفوز بمتعة الفهم ، والدخول في لبه وجوهره ، نعم هناك بعض اقباس المتصوفة ، ولهذا فهو يستهله بقول للشبلي
"أنا أقول وأنا اسمع فهل في الدارين غيري"
وكما أعطى جبران لحكيمه اسم المصطفى أعطى عبد الكريم كاصد لصاحب السيرة اسم فردان ، ربما لأنه فرد، لا يريد ان يضيع في الجم ، وانما يحتمي بفرادته وفرديته ويحتفي بها ويرفع هذه الفردية راية ينصبها فوق ارضه ويمنحها الولاء ، ويعطي اغلب فصول الكتاب عنوانا هو ما رواه فردان، فكلها صور وأحوال ومقامات يسرد فيها جوانب من طفولة يستحضرها، او تجارب عاشها بعد الطفولة، او معاناة مر بها، أو حكمة استطاع ان يستخلصها من هذه المعاناة، وجاء يضعها أمامنا في كثافة وتركيز، ولكن احتفاءه بالفردية لا يلغي حاجته للقاء الجماعة، كما يقول في واحدة من خطراته "في كلّ كتابة رغبة، ربّما، في الخروج من عزلة الفرد إلى أفق الجماعة، ومن وحشة المنفى إلى ألفة الوطن، ومن المونولوغ الواحد إلى الحوار المتعدّد، ومن هامش الحياة إلى مركزها، وقد يكون العكس" وهذا العكس الذي يتكلم عنه هنا، حاضر بقوة في هذه السيرة، ولكنه لا يقف عند تخوم السيرة الذاتية ، ولا عند تخوم الشعر، ولا عند تخوم الحكمة، ولكنه يمضي أكثر من ذلك، وقد كتب أدباء كثيرون ما يمكن اعتباره خلاصة لأفكارهم، واقوالهم، وخبراتهم، وتجاربهم ، مثل الكاتب الشهير ارثر كويستلر في كتابه الجامعة الذي احتوى خلاصات من كل كتبه ، وهو ما فعله عبد الكريم كاصد في وضع مختارات من قصائده وقد عشقها بلوحات من ذكرياته، ليصنع لنا كتاب جامعة جديد وكان كويستلر قد أعطى كتابه اسم اله يوناني له وجهان"جانوس"، وجه ينظر للداخل ووجه ينظر للخارج، ويبني فكرته على ان كل ظاهر له باطن، وكل باطن له ظاهر، وكلاهما يكمل الاخر، ولعل شيئا من هذا المعنى، موجود في احوال ومقامات عبد الكريم كاصد، الذي يقدم للثقافة العربية نبيا جديدا مثل نبي جبران، ولكن بدون يقينيات جبران التي استقاها من يقينيات عالمه وزمانه، عندما كتب كتابه في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، بينما يكتب كاصد كتابه في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ، بكل ما فيه من تشابك الحياة وتعقيدها.
ــــــــــــــــــــ
*عن صحيفة "القاهرة" المصرية