ادب وفن

الناقدة أماني أبو رحمة: بعد «مابعد الحداثة» سياق غربي بحت .. القسم الثاني .. / حاورها: مازن المعموري

ما زلنا نعاني من ضمور ثقافة الحوار المكثف للثقافة العربية بل أن الواقع السياسي والاجتماعي أكد عزلة المثقف وعدم فهم المرحلة التاريخية الخطيرة التي نعيشها اليوم, وهذا الحوار عتبة في مجال حوارات مختلفة بدأتها مع الباحثة والمترجمة أماني أبو رحمة بداية الشهر الحالي من عام 2013:
هل تعتقدين أن بعد ما بعد الحداثة ستعيد مفهوم الدولة القومية إلى الظهور من جديد في الشرق الأوسط العربي تحديدا أم أن هناك سيناريوهات جديدة غير معلنة؟
بعد ما بعد الحداثة هي سياق غربي بحت لا علاقة لنا به إلا من باب التلاقح الفكري واهتمام الآخر بنا لأغراضه هو واهتمامنا به لا سيما وانه لم يتورع عن العودة إلى منطقتنا مستعمرا وقحا بلا قناع أو محاولات تجميل.. الفكر الغربي في حداثاته المتتالية زمنيا "الحداثة وما بعد الحداثة ثم ما بعدها" ينطلق من أسس تتعارض تماما مع الأسس الفكرية التي تقوم عليها الثقافة العربية.. فمنظور الحداثات هناك عن اللغة يعد كفرا صريحا هنا، وكذا التاريخ والإنسان وخلافه.
أنا لا أذهب الى أن من الحكمة إسقاط تلك السياقات قسرا على الواقع العربي وإنما من الأفضل دراسة تأثيراتها التي أراها أيضا تندرج في خانة الترقيع والتلفيق والتوفيق دون ملامسة الجذور، بعد ما بعد الحداثة الغربية لن تعيد مفهوم الدولة القومية على صورتها السابقة ولكنها ستعاني من طاعون ما بعد الحداثة الذي انضج التعصب والتطرف والنزعات العرقية والقومية ..أما في عالمنا فلا أراها محركا فاعلا إلا بقدر ما يراد لنا أن نكون إذا ما تركنا زمام أمورنا لها ولغيرها.
الحقيقة التي نلمسها في ضوء تحولات الفكر الغربي, ان تلك التحولات ما زالت تخص الغرب, اما نحن فنتمثل أزماتها فقط, أي اننا خارج التاريخ, فهل يساهم التواصل الالكتروني في تجاوز الهوة الكبيرة بين المجتمع العربي والمثقف, أم أن مفهوم المثقف والمجتمع قد تغيرا في ظل الحاجة المتنامية لفهم الواقع؟.
في سياقات بعد ما بعد الحداثة.. لا زلت الهيمنة الغربية الفكرية واضحة جدا. فهناك نظريات تتجاهل وجود آخر عدا الأوروبي الأبيض وهناك نظريات تدعي الرغبة في مشاركته في صنع المستقبل ولكن الأمر لا يعدو كونه شكليا لأسباب اختلاف السياقات كما أوضحت من جهة وعدم جدية الطرح من جهة أخرى.. بالنتيجة.. أرى أن التطور التكنولوجي الذي ننعم به ونوظفه لن يمس الأسس العقلية التي يقوم عليها الفكر العربي والتي أرى أنها بحاجة لمراجعة جادة لن تقوم بها مواقع التواصل الاجتماعي مثلا ولا بد أن ينتج عن هذه المراجعة فكر يستشرف المستقبل انطلاقا من المنطقة ذاتها وليس استيراداً ثم تلفيقا وترقيعا وتوفيقا. لا مفر من الحسم إذا ما أردت الانطلاق.. حتى لو كانت النتيجة هي التذبذب بين الماضي والحاضر لخلق مستقبل يستند عليهما ولا يشبه أيا منهما.
مازال الفرد العربي يشعر بالضياع, لسبب جوهري هو ان المجتمع العربي لا يؤمن بالفرد , وهناك شك دائم من قدرة المثقف العربي على تلبية حاجات الإنسان العادي على ترجمة نوازعه للخروج من الأسطورة مرة والتمسك بها مرة أخرى, بما هي مكون أساس لصناعة قناعات راسخة جمعية قننتها اللغة العربية وساهمت في انجازها الخسارات العسكرية والسياسية اليسارية تحديدا, وربما كان ذلك احد معيقات تواصلنا مع الحداثة الفائقة او الانعكاسية وغيرها من المسميات, فهل يعني ذلك إذا ما اتفقنا حوله, ان الزمن سيعيد نفسه في المستقبل؟.
ابدأ أولا على هامش السؤال وانتهز الفرصة لأصحح ترجمة الحداثة الانعكاسية وهو خطأ في كتابي الفضاءات. هي الحداثة المنعكسة والفرق بينهما، وبالرغم من اجتهادي في توضيح الفرق بين المفردتين وان المقصود هو المنعكسة بمعنى الارتدادية إلا ان المفردات خانتني وقتها وقد تداركت الأمر لاحقا في مقالات عدة ..
نعود إلى الفرد العربي .. لا استطيع الزعم بان الفرد العربي هو استثناء التاريخ أو الجغرافيا .. فما مر به من انكسارات وأوجاع وهزائم مر بها غيره من أفراد الشعوب في العالم .. ولكن ما يحدث هنا غريب.. هناك اتكالية مطلقة وجهود ضائعة وصراعات دفينة تجعل المنطقة وأفرادها معطلين تماما فكريا وحضاريا وعمليا أيضا.. منطقة لا تنتج أبدا.. هل لأنها منيت بخسارات مثلا.. لا اعتقد أن المشكلة هنا ..الأمور متشابكة ومعقدة وتستعصي على التبسيط.
أنا لا أريد أن يتماهى العربي أو ساكن هذه المنطقة من العالم مع سياقات ثقافة أخرى، ولكني أريد ثقافة مبتكرة منه تناسبه وتعزز حالة النهضة والتقدم لديه وتكون قادرة على التلاقح والبناء مع غيرها من الحضارات. أريد سياقا فكريا لا ينحي الفرد وخصوصيته ولا يتجاوزه ليصبح فكرا نخبويا لا يشبه الناس هنا ، فكرا ينبع من المنطقة وليس فكرا يصب فيها من عل. تيارات تتحرك إلى الأمام وتحرك طاقات الشعوب.. الأمر الذي لم يحدث حتى الآن. ولا ادري ما ستتمخض عنه ما باتت تعرف بثورات الربيع العربي، على الرغم من أن موقفي منها ليس ايجابيا بحال حتى اللحظة.
هل انتهت نظرية الأدب.. مقابل نظرية السرد؟
نظرية السرد أشمل وأعم، هذا كل شيء.. شخصيا لا اعتقد بموت أو نهاية أي فكرة.. على العكس أنا على يقين تام بسرمدية الأفكار منذ بدء الخليقة والى الأبد. وما يحدث هو تحولات وتطورات أو انتكاسات أحيانا ولكن الفكرة لا تموت ..
هناك خلل كبير في فهم (الاخر) انتجه الغرب وصدره لنا على شكل صراع طائفي .. هل تتفقين معي أم هناك رأي آخر؟
نعم هناك خلل كبير وكبير جدا، اتفق تماما .. أما من أنتجه فلا أميل أبدا لاتهام الغرب وحده .. الآخر موجود في ثقافة كل الأمم والملل قبل التقائنا بالغرب والتقائه بنا.. الأخر هو أما عرق أو دين أو شكل او طائفة مختلفة ولكنه أصبح في حقبة الاستعمار (أو لنقل منذ الحروب الصليبية ان شئت)، هو الغرب بمجمله مقابل الشرق بمجمله أيضا.. وعليه فليس هو من صدر لنا الصراع الطائفي.. عشناه بكل تفاصيله ومراراته قبل أن ينقسم العالم إلى صورته الحالية شرق وغرب وبينهما ما بينهما.. أما أن الغرب استغل بخبث قضية الطائفية والتنوع الكبير على كافة الصعد في هذه المنطقة لتحقيق مآربه فهذه قضية أخرى قد لا يلام هو عليها بقدر ما يلام الوعي والإدراك في هذه المنطقة التي لم تجد طريقة بعد للتعامل مع( آخرها ) هي إن جاز التعبير قبل التعامل مع الآخر الأشم.
لكنك تعلمين سيدتي .. ان الصراع خبا أواره مع حضور الدولة القومية وهيمنة العلمانية مع بدايات القرن الماضي .. وتعلمين من وراء التيارات الدينية الشوفينية بدءاً بحسن البنا وانتهاء بالعلاقات المشبوهة لابن لادن وغيره, وبالتالي فإننا في الحقيقة أمام حرب عالمية لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية من جديد .. بالطبع هناك وحش قابع في الذاكرة الجمعية, لكنهم أعادوه إلى الحياة.. أليس كذلك؟
عززت ما بعد الحداثة بإنكارها لكل مقدس وبتغييبها التام للميتافيزيقيات وبما ادعت انه تقبل للتعددية والاختلاف بصورة مبالغ فيها ظهور الأصوليات كلها وصعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.. ليس ابن لادن هو الاصولي الوحيد.. اليمين المحافظ، المحافظون الجدد، التدبيريون، وأحزاب أخرى مخيفة ومرعبة.. يقر أساطين الفكر الغربي وهو موضوع تناولته في كتابي الفضاءات القادمة بأن دور ما بعد الحداثة ( بسياقها الغربي) هي من أفرزت هذا التطرف والتعصب العرقي والديني والطائفي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باحثة ومترجمة فلسطينية صدر لها:
1ـ علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد. تأليف يان مانفريد وترجمة : أماني أبو رحمة : دار نينوى للنشر والتوزيع .دمشق . 2011
2ـ ما وراء القص : دراسات في رواية ما بعد الحداثة : مجموعة مؤلفين . ترجمة : أماني أبو رحمة . دار نينوى للنشر والتوزيع . دمشق 2010
3ـ الفضاءات القادمة :الطريق الى بعد ما بعد الحداثة : أماني أبو رحمة ومعن الطائي. مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر . القاهرة 2012
4ـ نهاية ما بعد الحداثة : الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن . راؤول ايشلمان . ترجمة أماني أبو رحمة . مؤسسة اروقة للدراسات والترجمة والنشر .القاهرة 2013
5ـ فصل في موسوعة : الفلسفة الغربية المعاصرة : صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة الى التشفير المزدوج. الجزء الثاني . اشراف وتحرير د. علي عبود المحمداوي وتاليف مجموعة من الاكاديميين العرب . منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف 2013
6ـ فصل في موسوعة الفلسفة والنسوية . اشراف د. علي عبود المحمداوي وتأليف مجموعة من الاكاديميين العرب صادر عن دار الاختلاف ومنشورات ضفاف .2013
7ـ نهايات ما بعد الحداثة : ارهاصات عهد جديد .. أماني ابو رحمة .مكتبة ودار عدنان للنشر وعلى نفقة وزارة الثقافة العراقية بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية ..2013