ادب وفن

اضاءات لــ «شخابيط» الشاعر عبدالحسين الدعمي / سفاح عبدالكريم

مقدمة واستعراض
في بداية السبعينيات من القرن الماضي عرفته انساناً وشاعراً مثقفاً من خلال اطلاعي على نتاجه ومتابعتي له أسوة ببقية الواعدين والمهتمين الناشطين في الوسط الأدبي الثقافي والاعلامي وحينها تيقنت ان لديه افكاراً تغلي داخله يريد الافصاح عنها بالمخاطبة والكلام الشعري المعقول والمقبول وبتصرف يمكن أن يلفت النظر اليه واستطاع أن يقدم مشروعه الابداعي "نوارس عراقية"
وهي نموذج متقدم ومتطور حيث إمتزجت فيها الموسيقى والشعر والمسرح إذ تمكن الشاعر وبمرافقة الفنان مهدي هندو أن يعرضا هذا الانجاز بثقة تامة وقد لاقى في حينها حضوراً وانتشاراً واسعاً ومن ثم توالت اصداراته الاخرى (بالفصيح والشعبي) حيث يدرك لغتهما جيداً ومنها "مجموعة من الأبوذيات العراقية" و"في انتظار الصهيل" و"هوامش الأمس القريب" و"ترانيم على وتر مفقود" ومجموعة من النصوص الغنائية والاناشيد وآخرها كان "شخابيط" وكما أعتقد إنه الاصدار الاخير المتحدث عنه وهو توجه جديد حيث لملم أوراقه فيه وبعضاً من نتاجاته التي لم نقرأها وقد عرفنا قدرها من خلال تمركزه في الكتابة الواقعية وطرحها باسلوب معاصر أرتآه أن يكون متمساكاً، كان المهم منه المشاركة في الحضور الشعري المتواصل مترنماً بأغاني جروحه التي لم تفارقه والتي هي قضيتنا.
ان هذا السلوك الشعري اجتاز به حاجز الخوف والشكوك وتأمل كثيراً في معطيات الحزن الموجع مع مغادرته احيانا صوب مرافئ الفرح المؤجل تقريباً وبصراحته المتناهية كحالته من وراء المذياع في اذاعة كربلاء صارخاً باعلى صوته مؤمناً بقول الامام الحسين"ع" "هيهات منا الذلة".. فلن يقف مكتوف الايدي وهو الشامخ كنخلة عراقية لا ينحني امام المغريات والمنغصات. ولم يبق في بطنه شيئ لم نشاهده وكأني ارى قول الشاعر فيه حين قال "رأسي تتخله الثقوب كيف يحتزن الهموم الى غدِ".. هذه لمحة عنه لابد منها ولكي لا تأخذني الانهيالات عنه أدخل بقناعة في صلب مواضيع "شخابيط" المطبوع الشعري ذي التوجه المرتقب من الشاعر عبدالحسين خلف الدعمي.
ففي أوجاعه غُصة بتنا جميعاً لا نفارقها بل احتوتنا وهي في تأصيلها لاغاني ذات دلالة شطبت منا احتمالات أردنا الغور فيها.
ان اغلب قصائد هذه المجموعة الشعرية "شخابيط" تميل الى الوعي المدرك وبلغة كاد ان يمتزج فيها (الفصيح بالشعبي) وعلى شاكلتها ظهر منها ما اراد الشاعر ان يؤرشفها خوفاً من الضياع والسكوت والمشاركة في محنة وطن استلبت خيراته وبقي الوشم المأثور في تجاعيد وجه الشاعر المبتلى بخسارته وربحه وفي قوله الشعري واراه قد وضع النقاط على الحروف.
"ابوجهي تضاريس الهموم...
اعتاب قاسي إمن السنين الرايحه
ابوجهي علامات التعجب والنفي..!
- ابوجهي عتب زعلان بس بيه النوايب سارحه
وجهي بقايا من حطام أمه اصبحت لعابه بيد الاجنبي..
إو تلطم إو ظلت نايحه"
ان شخابيط الشاعر هي ردود افعال وتطلعات ومشاهدات فرضت عليه كتبها في صحوته التماساً لعذره منا حيث قدم لنا مواعين دسمة ما يشبع جوع خواطرنا من دون تخمة وكما اظن أن هظمها كان ميسوراً من دون الانشغال في التفكير والبحث عن الجوانب الفنية فيها. ان مفاتيح لعبة الشاعر وجدها وأطلق عنان أبجدياته باطمئنان لا أرى فيها ما يؤشر الى انتمائه الى وجه او قلم شعري آخر وهناك جزء من تصوراته في الكتابة اولاً.
"شخبط على الحيطان يا چف الندم..
إكتب سوالف عن زمن بيه "النغوله" إتربعوا فوگ القمم
إكتب بعد لا إتگول ما عندي قلم
شخبط ترى الزنجار ياكل بالگلب وجروح أمس چفها همك يا علم
شخبط بعد لا تستحي.. كلشي تخلبص بعد ميفيد الندم"
هذه تشكيلات لغوية نفهم عدم شخبطتها وهي تحمل تغييراً واقعياً لمأساة حلت بكل جوانب الحياة.. حتى بات الشاعر ليس لوحده يتغنى بألم المعاناة التي ترجمتها جروحه المعافاة بوهج حلاوة اشعاعها.
"يا جرحي يا أعذب جرح..
واشما يمر.. واشماعتك تنزف او چنك ذاك ابن البارحه
ليمته نظل نشري بطاقات النصيب او نحلم ابورقه الرابحه؟"
المعادلة واحدة عند الشاعر ولا تعني انتكاسته بل همته في الاستشراق والدعوة الى محاورة النفس التي ينبعث منها الطوفان فيما بعد فقوله لا يفارق فعله فالترجي والمداخلة والحوار المنلوجي يجد فيها الشاعر أفقاً آخر للخلاص من محنته.
"إنسه نفسك منهو إنته... إو خلي أنسه منهو آني
إنسه.. خليني إبمكانك... صير أرجوك إبمكاني
راح تتغير الدنيه... إو تختزل كلها ابثواني"
ان مسؤولية الشاعر لن تقف عند حدود الغثيان بل وظف قدرته الشعرية بالرؤيا المتوازنة ليكن مرآة صادقة وواضحة ليؤكد لنا وعيه وادراكه في اقتناص المثل والحكاية الشعبية والمصطلح الحكائي المتعامل به في التحدث والحديث لايصال المعنى بالتذكرة والايماء في دغدغة المشاعر وتهيئتها لاستقبال الفعل الشعري وهذا اجده جلياً في قوله:
"إلعب ابكيفك أو طگ إصبع يغار
بعد ميدنفش ولا يلعب القط..
والحرامي ايبوگ ابوضح النهار... خله قانون السما حدر الابط..
ان هذا الامتعاض الذي استفحل في هذا الزمن نتيجة الخراب. وكثر الزور وعدم الاستيحاء وتكاثر "الهبيط واللبيط" اتخذ منه الشاعر دفاعاً عن ابناء لحمته في الأيضاح والتواصل وهو ما زال يحسب لخطواته مساراً صحيحاً يستمد مشروعه الأدبي والابداعي منه فاحياناً تتجدد فيه الرغبة في التوقف ولأنه رجل عصامي لم يسمح بالتراجع ولكن المراجعة لابد منها فقوله يدل على ذلك.
"وين رايح والدرب عمي طويل
وين رايح والحمل بعده ثجيل
والفرس تمشي ابرسنها تعثر ابدم الچتيل"
إن اجتماع اللغة وترجمتها ولأنها حبلى اعطتنا ما كنا نطمح اليه في انعاش ذاكرتنا من دون الرضوخ حتى الى من يحب من أجل سعادتنا وبيان موقفه من القضية وحيث يقول:
"ما مستعد آني أبيع الناس كلها واشتريك
ما مستعد أحرگ بقايا الروح وابنص حيل اجيك.."
ان الشعور الذي ينتاب الشاعر هو الخوف من المجهول وهو على يقين تام من حتمية المصير والفناء والانبعاث... ان هذا التناقض والجدلية هي التي تخلق من الشاعر ابداعاً... من دون ان يراه الا فيما بعد فمثلاً:
"كلنا إنموت... كلنا انموت.. كلنا انموت
واتظل الدنيه إبلا وادم صحراء اتدور الها ابيوت
كلنه انموت...
وايظل صوت الناعي إمتيه دربه، او مامش باب...
مامش باب المنه انفوت
هنياله إلي ايموت اليوم... واتشيعه الوادم مبخوت
ما ظل حوت، او ميظل حوت. "يونس".. راح او ميظل حوت
والشاعر على يقين ان الحيتان تأكل بعضها اخراً وتنتصر حتمية الانسان والتاريخ ولا قلق عليك أيها المبدع، وانت تصهل في زمن ينبأك مستقبله بخير وأنت تستمع الى اغاني الناي الحزين.
إسمع صهيل الزمن... متربع على الماي
والعطش چاتل هلي... او مذبوح صوت الناي
بكتاري ميّة جرح... يصوابي صير إفياي
يا شمس كحلي الجفن... زعلانه الفناجين
"طلگت الحرّه إبعبد"... ما بيّه حيل ايعين
إمشينه عتنه الدرب،
مدري الجدم تيهت... مدري الحراثي طين..!؟
الشعر هو مجموعة من اسئلة يمتلك اجوبتها الشاعر اولاً لكن على المتلقي أن يدرك ما هو عليه...
هكذا أفنيت عمرك شاعراً يا رفيقي.. مبدعاً.. مخلصاً وأنت تعاني حزنك السومري السرمدي ولأنك أدركته قبلنا أصبحت متألقاً ولأن حداثتك في مصداقيتك وعدم اخشاءك المسؤول.. كنت مقاتلاً في الصف الاول وانت تعلم ان طريق الحق يسلكه المبدعون دائماً... عشت بينا صريحاً ومعطاءً... وكم من مثلك صفق له المنصفون... دمت شاعراً وانساناً يستحق الاصغاء والمحبة والتقدير.