ادب وفن

في الطريق الى المملكة 2 / مزهر بن مدلول

اغدقت وصيفة، وهي المرأة التي مازالت رغم شيخوختها تحتفظ بصحو ذهنها وبحرارة قلبها، اغدقت على شرّاد بكل ما تستطيع من شفقة وما تدخره من حنان، فهذا الطفل الذي لم يمهله القدر ان يرضع من ثدي امه ولا ان ينام على صدرها، استحق منها ان تنتزعه من الشعور المفرط باليتم، ونجحت نجاحا باهرا.
اما البيت الذي ولد فيه شرّاد، فلم يبق منه شيء يدلّ عليه، وكل ما فيه انطمر تحت التراب، ولم يعد لـه ما يدفعه للمرور فوق اطلاله، لكنه تعلق في (الصريفة) التي نشأ فيها منذ ولادته حتى اكمل سنته التاسعة، وهي ذات السنة التي اسلمت فيها وصيفة الروح!، ويبدو ان موتها خلف اسىً عميقا في نفسه، فبالرغم من تراكم الزمن، الاّ انّ صورة وصيفة مازالت صافية كالأثير في مخيلته، وما فتأت ذكراها بالنسبة له، علامة من علامات الأمان، وعندما يتكلم عنها، فأن لسانه يتعثر، ولا يعرف من اين يبدأ، وخاصة عندما يستعيد لحظة احتضارها!....
ففي تلك الليلة المعتمة، شعر شراد برائحة الموت تملأ فضاء (الصريفة)، وكانت جدته (كما يحلو له ان يسميها) تئنُّ، وجسدها يختض، بينما جلس حابسا انفاسه ولا يقوى على النظر في وجهها الذي تغير تغيرا مفجعا، وكانت ترمقه بنظرة تعبر عن استسلامها للموت، وهو يرتعد من الخوف ومشاعره مبهمة ورأسه محشوا بالضجيج والصراخ..
على هذا النحو امضى ساعات الليل الطويلة، وعندما لفظت جدته انفاسها، ساد صمت رهيب، كما تسود الظلمة وتتكاثف خارج البيت، فلبث مقرفصا حول موقد نار (المطّال) مذهولا، لا يلوي على شيء، وساقاه يرفضان ان يتحركا، وما ان انبلج ضوء الفجر، حتى هرول الى بيت جارتهم غزالة، وكان ذلك بالنسبة له مثل حلم خاطف، حتى انه لم يخبر غزالة بموت جدته، ويبدو انه كان لا يريد ان يسلم بهذه الحقيقة الغامرة بالقسوة والتي لا يقوى على تحملها.
رفض شرّاد الانتقال الى بيت غزالة، واصرّ بعناد طفل على البقاء في بيت جدته، ففي بيت المرأة الطيبة التي فتحت جميع نوافذ قلبها واحتضنته، تنفس بملئ صدره، وفيه نمت وتفتحت اغصان سنواته التسع، وتحت سقف (الصريفة) امتلأ وجدانه بالسلام، وفيها استلقى على ظهره من الضحك وهو يستمع الى نوادرها وعالمها الفكاهي، فكانت بالنسبة له امثولة في استعدادها الدائم للتنازلات من اجل ارضاء مزاجه الثقيل!..
اما في الليل، فكانت تحكي له قصصا من عوالم بعيدة ومتخيلة على طريقة قصص (الف ليلة وليلة)، كما انها لا تفوت فرصة الاّ واطرت على امه وابيه، وكان شرّاد يغتبط عندما يسمع بان امه لميعة كانت نقية الروح وتاخذ الحياة بيسر وسهولة، وان ابيه ناصر كان راجح العقل وروحه ممتلئة بالاحلام على عكس رجال القرية الذين يخيم على ارواحهم الكسل والضجر!.
وفي فصل الصيف، كانت وصيفة تستيقظ مع الديك، ترشّ باحة البيت بالماء البارد، تقوم بذلك، فيما روحها مرحة وميّالة لاختراع النكتة بطريقة تلقائية!، واذا هطلت على الارض رمال صفراء وملأت ارجاء الافق ريح عنيفة، تتمسك باطراف (دشداشته) لكي لا تحمله الريح وتطير به فتفقده الى الابد!.
وخلاصة القول، انّ من بيت وصيفة، استخلص شرّاد خياله، وهو لا يتردد عن الوقوف بين آن واخر متأملا فوق انقاضه!.
..........................
حين تخطى الرابعة عشر من عمره، انخرط كليا في الزراعة، وراح يعمل حتى شربت الارض من عرقه، وفاحت من التراب رائحة جسده، فقام باستصلاح مساحة واسعة من ارض اجداده التي اكلتها (السبخة)، واقتطع جزءا منها قريبا من بيته ليزرعه بالنخيل والرمان والعنب، وبعمله الدؤوب هذا، المملوء بالثقة والتفاؤل، اكتسب شرّاد مكانة مرموقة بين ابناء قريته، وبات الجميع يحسب له حسابا....
ولم تمر الاّ سنوات قليلة، حتى اصبحت لشرّاد ثروة جديرة بأن يفخر بها، فابتاع عددا من رؤوس الغنم، كما ابتاع فرسا يستخدمها في حراثة الارض، وقام ببناء غرفة من الطين، وهو اول رجل يبني الى جانب الصريفة غرفة من الطين!، وهكذا كان يسعى دائما لأن يجد علامة تميزه عن غيره، ولكن من دون مجازفات ومن دون سقوط في الاوهام.
اصبح شرّاد منظورا ومرهوب الجانب من الجميع، مظهره يعطي انطباعا بانه رجل مختلف، فهو بالاضافة الى قوته البدنية ووسامة طلعته واهتمامه باناقته، كان حلو المعشر، لذيذ الكلام، ويتمتع بنظرة ثابتة وعنيدة وشديدة الاتقاد، ولهجته حاسمة، ولا يتخلى عن هدف قبل ان يفوز به، واذا اتفق لي ان اقول، بأن شرّاد لا تعوزه الجسارة في ان يتخطى بعض الحواجز العرفية عندما يريد تنفيذ فكرته.
عندما ازدهرت الحياة في ارض شرّاد، وتكاثر قطيع الغنم حتى ناهز الثلاثين، بات يفكر جديا بتدريب مهاراته لان يتولى ادارة شؤون القرية بعد ان يذهب شيخها العجوز الى دار البقاء!، لكن الاخير كان يخشى نفوذ شرّاد المتزايد، ويتحين الفرص للاطاحة به....
خاطبه مرة بفظاظة امام الناس قائلا:
- شرّاد يا ابن (ابو ركَبة)!.. وتوقف!..
كان يجد مشقة في نطق الحروف كاملة، فتخرج من فمه متقطعة، بينما امتدت اصابع شرّاد بدافع الغريزة الطبيعي الى رقبته، تلفت فلم يرَ شيئا غريبا على الوجوه، وتساءل مع نفسه، هل يقصد اهانتي؟، وماذا يريد مني هذا الذي لم يبق منه غير كومة عظام هزيلة؟!..
ردد الشيخ مرة اخرى..
- يا ابن (ابو ركَبة).. وتوقف ايضا!.
كانت صورة الموت ظاهرة في عينيه الذابلتين،، وسيماء وجهه توحي بأنّ ايامه باتت قليلة، كان كثمرة متعفنة معلقة بغصن يابس وتنتظر العاصفة!...
عاد مرة ثالثة...
- يا ابن (ابو ركَبة).. صمت.. انت كبرت وعندك (خير من الله).. صمت.. وما ينقصك سوى العروس.. تزوج لكي تتخلص القرية من نزواتك الصبيانية!!...
كان لشرّاد القدرة ليدير له رأسه بسيل من الشتائم والتوبيخات، لكنه كان مدركا بان هذا العجوز المرتاب، الحذر، الذي لا يثق بغيره، ميت الجوارح وبليد الحواس، ولا يستحق ان يبرهن له بانه اجدر منه بالمشيخة، التي طالما فكر بها شرّاد وينتظر الوقت المناسب لتنفيذها!....
...........................................
كان عقل شرّاد ممتلئا بالتأمل، التأمل الخصب، الصافي والايجابي، الذي يؤدي الى الحيوية والابتكار!، فانهمك في التفكير بكل ما من شأنه ان يقضي على الوحشة الهائلة التي تعم القرية، وخاصة في فصل الشتاء حيث الارض في سبات.....
وفي صباح احد النهارات الصافية، تلفع بعباءته وامتطى ظهر فرسه وولى وجهه ناحية المدينة، لم يرها سابقا، لكنه سمع عن حمّاماتها الحارة التي يتمدد تحت بخارها الرجال!، فكانت المدينة تثير دهشته وفضوله....
عندما وصل اليها، وطاف ساعات مشدوها في شوارعها، ادركه التعب، فربط فرسه امام مقهى ضاجة بالحركة!، تهالك على احد مقاعدها، ارخى جسده، فكر في بستانه وقطيعه ونظام القرية القائم على السكون، تناهت الى مسامعه اصوات تخرج من جدار المقهى!، اصوات لبشر لا يشبهوننّا!، اعقبتها اصوات طبول كانت تقرع بطريقة محسوبة...
وبعد وقت وجيز، وشرّاد غاطس في حيرته، ورأسه يرفض اي تفسير!، واذا بصوت آخر سبق وان تعرف عليه، انه صوت المؤذن، بدأ يرفع آذان الظهر، هزّت قشعريرة جسد شرّاد، وردد مع نفسه:
- هذا حلم لو علم؟!!.. ولكم هذا صوت امحيسن مؤذن القرية.. اشلون وصل للولاية؟!.. شنهو قابل امحيسن لابد ورا الحايط؟!..
كان محيسن هو روزنامة القرية، وصلتها الروحية بالسماء، ودليلها الوحيد الى الصلاة، لكن ان يصل صوته الى هذه المقهى!، هذا ما لا يدركه عقل شرّاد!!...
لاحظ صاحب المقهى على وجه هذا الفلاح الغريب حيرة واسئلة تنطق بمختلف النبرات!، فاقترب منه وراح يحكي له عن سر ذلك الجدار الذي يتكلم ويغني ويرفع الآذان، روى له تفاصيل اللغز، مما جعل شرّاد يستميت من اجل الحصول على واحدة، ولما ارشده الى المكان، دفع شرّاد جميع ما في جيوبه من دراهم، ثم ركب فرسه وعاد ادراجه الى بيته!.
شاع في القرية الخبر، ( شرّاد جايب صندوكَ يحجي)!، ازدحم مضيف الشيخ بالرجال والاطفال الذين اتسعت عيونهم، وضع شرّاد (الراديون) على دكة، ووضع الى جانبه بطارية كبيرة الحجم (راديون ابو الباتري)، قام بربطهما بواسطة سلك معدني، وادار احد الازرار..........
قال اكثرهم ذكاءا: هذا وهمٌ يجب ان يتهشم!.. قال عاقلٌ آخر: هذا ضلال يجب ان يتضح!.. قال جاهل: هذا (طنطل) يجب ان نهرب منه!.. لكن عواطف شرّاد واركان روحه اهتزت، عندما تواردت الى ذهنه مقاطع من اغنية ريفية شديدة البوح!!....