ادب وفن

اغتراب النص / عبد علي حسن

يشير الاصطلاح اللغوي لمفردة الاغتراب كما أكدته جميع المعاجم اللغوية الى انه "ترك الوطن والهجرة عنه"، ومنه اغترب ، غربة ، تغريبا ، وسنسعى الى ترحيل هذا المعنى الى المصطلح الإجرائي الذي ستحتكم إليه قراءتنا لما توفر من اطلاع على حركة الشعرية العربية منذ خمسينيات القرن الماضي ، ووفق ذلك فان مفهومنا لاغتراب النص هو انقطاع أو انفصال النص عن الحاضنة الاجتماعية التي أنتج فيها .
وسنتحدث عن النص بوصفه رسالة في ثلاثية الأركان المكونة له / المرسل / الرسالة / المرسل إليه ، فالمؤلف يزمع تقديم منظومات جمالية ومعرفية عبر النص/ الرسالة الى المتلقي لإثراء مرجعية المتلقي أولا ولتقديم وجهة نظر تتضمنها رسالته الشعورية عبر النص ، وبهذا المعنى فان النص وسيط معرفي بين المؤلف والمتلقي ، وفي حالة توقف النص عن تقديم هذه المنظومات الجمالية والمعرفية فانه سيقع في منطقة الاغتراب وسنتعرض الى الحالات التي يتعطل فيها النص عن أداء مهمة الوسيط المعرفي والجمالي بين المؤلف والمتلقي .
يتعرض النص الى حالات اغتراب أربع :-
1. تجاوزه المألوف والسائد .
2. أسبقية الوعي المعرفي للمرسل على وعي المتلقي.
3. عدم قدرة النص على التفاعل مع المتلقي حينما يكون مبهما .
4. حين يكون اشهاريا.
ففي الحالة الأولى يشهد النص الجديد المتجاوز للسائد والمألوف من المنجز الموضوعي حالة من عدم التفاعل والقبول بعدّه زحزحة للبنية التقليدية السائدة / الساكنة ، ويحصل ذلك في الكثير من حركات التجديد ولكافة الأنواع الأدبية إذ ان هذا النص الجديد يمثل خرقا وكسرا للذائقة السائدة وحينئذ يعاني النص من الاغتراب في الوسط الذي ينتج فيه ، إلا انه اغتراب مؤقت يعتمد على قوة مشروعية المنظومة المعرفية والجمالية المتجاوزة للمنجز السابق ، إذ ليس كل ما هو جديد قابل لان يكون بديلا موضوعيا أو إزاحة طبيعة للمنجز السابق ، فهنالك الكثير من الحركات التي عدت تجديدية في وقتها إلا انها لم تمتلك مقومات الاستمرار والظهور كاتجاه جديد يعبر عن مرحلة فكرية معينة بل اتسمت بالظهور المؤقت والتجريبي الذي يستجيب لوعي مرحلي مؤقت ، إلا انها عدت حلقات تطورية متراتبة ، إذ ظهرت هذه الحركات استجابة مرحلية لمعطيات اجتماعية لتحول بنيوي في المجتمعات التي ظهرت فيها على الرغم من الغطاء الفلسفي الذي وفر مشروعية هذه الحركات ، في حين شكّلت بعض الحركات اتجاهات راكزة في تطور النوع والجنس باتجاه الإزاحة والإضافة كحركة الشعر الحر في العراق وقصيدة النثر الفرنسية، إذ ان هاتين الحركتين قد مهدتا الطريق أمام اتجاهات جديدة كأشكال استجابت للتحول في المضامين الجديدة التي أفرزتها حركة الواقع الاجتماعي وعدت هذه الحركات من سنن التطور الذي تستدعيه حركة الحياة المتقدمة ، وفي الوقت الذي جوبهت به هذه الحركات بالرفض وعدم القبول بادئ الأمر إلا انها بعد ظهور النماذج المعبرة عن حركة الحياة الجديدة فانها قد امتلكت مشروعية وجودها كحركات بديلة عن السائد/ الساكن ، وهنا فان النص الجديد قد عانى من غربة مؤقتة لم تستمر بفعل قدرة النماذج الجديدة على الإحاطة بالتغيير من جانب والتقدم في وعي المتلقي المستوعب لهذا الجديد من جانب آخر ويلاحظ ان هذه الحركات قامت على أنقاض المنجز السابق الذي اعتبر عائقا أمام التفاعل مع ما استجد من مضامين أفرزتها حالات التحولات البنيوية للمجتمعات باعتبار ان الأشكال القديمة كانت تمثل مرحلة معينة ومستجيبة لها وحينما حصل التحول الجديد استوجب ظهور أشكال جديدة يتم التفاعل معها لاحقا، وبذا فان النص يكون مغتربا في بداية ولادته وفتوته حتى يستقيم على ساقه وهو يمد جسور التواصل مع المتلقي .
أما في الحالة الثانية فان النص يعاني اغترابا مصدره أسبقية وعي مؤلف النص وتقدمه على وعي المتلقي ، إذ ان وعي المؤلف يتكون عبر التشكل المعرفي والجمالي الذي يشي بامتلاك الخبرة المعرفية التي وفقها تتشكل الرؤيا الفكرية والجمالية التي تحدد وتكشف عن موقف المؤلف والنص من مجمل القضايا التي يواجهها عبر تجربته الشعورية ، وإذا كان هذا التشكل مقصودا ويسعى إليه المؤلف لرفد ونضج تجربته المعرفية لتمكين أدواته من التعبير عن تجاربه ، فان المتلقي لا يتمتع بالخبرة المعرفية التي يتمتع ويحرص على تقدمها وتطويرها المؤلف وتتمثل في النص ، لذا فان هذا التقاطع بين وعي المؤلف والنص ووعي المتلقي يؤدي الى انفصال النص واغترابه لعدم تمكن المتلقي من التفاعل معه- النص الحديث خاصة – الذي تتمثل فيه القدرات النصية الحديثة وآليات الكتابة الجديدة ونزوع النص الحديث الى استحداث آليات شعرية متجاوزة للسائد التقليدي ، ويعد خروج النص عن الساكن والثابت للذائقة الشعرية والمشهد الشعري أمر متعلق بإثراء رؤية الشاعر التي تتغذى دائما من خلال الاطلاع المعرفي المحفّز لتقديم رؤية جديدة متجاوزة وعي المتلقي المحتكم الى الساكن والثابت وتنتهي تجربة هذا النص حين لا يجد مستوى معرفيا وجماليا في وعي المتلقي لا يرقى الى مستوى النص ، وبمعنى آخر فان النص يمارس تصعيدا مستمراً لوعي المتلقي بغية الاستمرار في رفد الحلقات التطورية لحراك الشعر في المجتمع ، وبقدر تعلق الأمر بمنتج النص واثراء نصه باستمرار ، فان أي تطور في البنية الثقافية للمجتمع والمنعكس في الوعي المتقدم للمتلقي سيسهم في نقل النص من منطقة الاغتراب إذ ان هذه الحقيقية الابستمولوجية يتوقف تحقيقها على مدى سعي منتج النص الى محايثة المستجد من الآليات الجمالية الجديدة لإثراء نصه وبالتالي إثراء ذائقة المتلقي وجعلها متفاعلة مع النص .
وفي الحالة الثالثة يقع النص في الاغتراب والانفصال عن المتلقي من دون أن تكون هنالك فرصة أو مستوى لإنهاء حالة الاغتراب هذه ، إذ ان النص يقطع أية خيوط ممكنة للاتصال بالمتلقي الذي يسعى الى التفاعل معه لسبب من وقوع النص في منطقة الإبهام التي يتحول فيها النص الى مجموعة من الأحاجي والألغاز البعيدة عن جوهر الشعر الذي يفترض الغموض الذي يتمكن المتلقي من التوصل الى إدراكه حسيا حسب ادونيس ، وذلك عبر استدعاء المرجعيات المعرفية والجمالية للمتلقي وتعكس هذه الحالة مدى الارتباك والتشظي وعدم وضوح الرؤية لدى منتج النص الذي يجد نفسه غريبا عن نصه لأنه فاقد التفاعل معه رؤيويا ، فضلا عن غربة النص عن نفسه وعن المتلقي ، وبذا فان مكونات النص / منتج النص / المتلقي تعاني جميعها حالة الاغتراب ويمكن الإشارة هنا الى ان مثل هذا النص قد حايث الأزمات الاجتماعية الخطرة التي مرت بعد الحرب العالمية الثانية في أوربا ، ان هذا النص المبهم الذي لا يمكن إدراكه حسيا وحدسيا لا يشكل علامة فارقة أو حلقة تطورية في المنجز الشعري وإذا ما تم الاحتفاء به في فترة من الفترات فانه يعكس مدى الاهتمام بالشكل وعده مضمونا يقدم لعبة شكلية لغوية لذاتها لا تحمل في طياتها إمكانية البقاء والتأثير والتفاعل مع المتلقي ، وإذا كان الغموض صفة جوهرية للشعر وهو ما تم تأكيده في مجمل وجهات النظر الأدبية النقدية منذ أرسطو ومرورا بالجهد النقدي البلاغي العربي على يد الجرجاني حتى الآن ، باعتبار الشعر تجربة شعورية باطنية فان "الإبهام" صفة ابعد ما تكون عن جوهر الشعر لعدم توفر إمكانية المدرك الحسي والحدسي معا وبذا فان النص يعاني انفصالا حقيقيا عن المتلقي ، فضلا عن منتجه الذي يعاني عدم إمكانية التعبير عن التجربة الشعورية – ان وجدت – في نص يمكن إدراكه من خلال وضع المعادلات البلاغية والقرائن الاستعارية والمجازية موقع التحقيق والتفاعلية في تشكل النص.
ويشكل "الإشهار" والاستهلاكية في تلقي النص حالة رابعة من حالات اغتراب النص ، إذ ان ما تنهض به اللغة من دور استهلاكي على مستوى التعبير عن التجربة يعد من مظاهر عدم قدرة النص على التفاعل معرفيا وجماليا مع المتلقي ، وهذا يعني ابتعاد النص عن فاعلية التأثير المعرفي والجمالي بفعل الأداء البسيط التقليدي للغة غير قادرة على استخدام الفنون البلاغية من استعارة وتشبيه ومجاز وفنون بلاغية أخرى تحول النص من الاستهلاك الى الإيحاء الذي يعد روح الشعر ، إذ ان اللغة الشعرية تجعل النص مكتنزا بالثراء اللغوي الحامل للتجربة ومعبرا عنها تعبيرا غير مباشر وهذا ما يبتعد عنه النص الاشهاري الذي يكون معروفا ومكتشفا في وعي المتلقي ولا يعد تجاوزا واثراء لذائقته المعرفية والجمالية .
ومما تقدم يتضح لنا دور منتج النص في إبعاد نصه عن منطقة الانفصال والاغتراب عن ذائقة المتلقي التي تعد معيارا للتفاعل مع النص الذي يمارس حضورا تأثيريا في مجمل مرجعيات المتلقي.