ادب وفن

حالما يغدو الجمال ضرورة / عبد الله عبد الكريم

ما الذي يمكن أن يقدمه المشتغلون في الحقول الجمالية إلى الإنسان والعالم؟ وما الفائدة من كل ذلك؟ وهل ان عملية انتاج الجمال حاجة أساسية بالنسبة لمُنتجه؟ وهل يمكن أن يكون تلقي الجمال، والاغتنام منه، حاجة إنسانية غير شرطية تتطلب إشباعا؟
تساؤلات لطالما يطرحها البعض. قسم منه يطرحها ساخرا ضمن حدود مفهومات ضيقة، مجدوِّلا حاجات الإنسان في إطارمحدود يرتكز على الجسد من جانبه المادي المحض، وقسم يطرحها ناظرا إلى النتاج الجمالي كلهوٍ سخيف خاوٍ غير ذي فائدة. فيما يطرح قسم آخر أمثال تلك التساؤلات جادا، محاولا الوصول إلى إجابات ترضي فضولا معرفيا لديه.
يخضع الجمال لسلسة متشعبة من العلاقات، تدخل فيها محاور ذاتية وموضوعية، حسية وعقلية وخيالية، حاضرة ومجردة. ويتوقف على وجود الإحساس والشعور والتصور والإدراك، "الذات المنتجة والمتلقية". والحكم عليه في كل الأحوال نسبي، يستند إلى خبرات مُصْدِر الحكم المعرفية، وكل أمزجته السيكولوجية، السوسيولوجية، الفسيولوجية، والبيولوجية.
ان حاجة الإنسان إلى التعبير عن مكنوناته، وكل ما يعتلج في دواخله، عبر أنماط جمالية، بدت كأمر شبه بديهي، كوننا نكتشف يوما تلو آخر أن منتج الجمال ليس بطرا في معظم تجلياته، وإنما هناك ما يضطرم في داخله، ويلح عليه لكي يفصح عنه من خلال التعبير الجمالي. بذا فالاشتغال في حقول إنتاج الجمال، وكونه يستند إلى مشاعر وأحاسيس ومخيالات الإنسان "المبدع"، غدا واعزا داخليا مضطربا ملحا، لا يستكين من دون التعبير الخارجي. فيما هناك مثيرات خارجية تنشط الواعز الداخلي لدى المبدع، وتدفعه إلى الاشتغال الجمالي، ومن ثم طرح نتاج ذلك الاشتغال خارجا. فعملية إنتاج الجمال تشبه حلقة تدور باستمرار بين قطبي الذات والآخر. إذ يبدو أحيانا ان العالم الخارجي – الاجتماعي للمبدع ، والذي يكون المتلقي محورا أساسيا فيه، يساهم مساهمة فاعلة في دفعه نحو الإنتاج. فضلا عن ذلك، فهناك قيود اجتماعية لا تبيح الإفصاح عن شعور وإحساس ورأي .. وما إلى ذلك، بصورة مباشرة، لذا نجد أن المبدع يلجأ إلى الاشتغال الإبداعي ليعبر عن تلك المُقيَدات وفق نسق مرمز، احتيالا على القيود. وهنا يستبين الدور الذي يمكن أن يؤديه القيد الإجتماعي في الدفع نحو الإبداع.
إن ما جرى ذكره، يشير إلى ان الإبداع الجمالي يمثل ركنا إنسانيا جوهريا من أركان التفاعل الإجتماعي، ولا يقل في ضرورته عن اللغة. إذ إن لكل مُنتَجٍ جمالي متنا حكائيا يضم رسالة صادرة من ذات إنسانية، تأثيراتها تختلف تبعا لاختلاف الانطباعات التي تتركها على مفسريها. وفي الوقت ذاته، إن لغة الجمال عالمية وليست محلية، لأنها تتعامل مع الإنسان بعامة، وليس مع مجتمع محدد.
عموما، ما قيمة اللوحة الفنية من دون متلقٍ؟ وما مدى تأثير التلقي بلا ثناء أو إطراء أو حتى نقد؟ أحيانا تكون هناك قيمة ذاتية انطولوجية تقسم ذات المبدع الانعزالي، سيكولوجيا، إلى قسمين، الأول ينتج، والآخر يثني. فالثناء الذاتي يحقق كفاية ذاتية أحيانا، رغم انه مدعم بخبرات حياتية امبريقية – سوسيولوجية.
ما أود تأشيره هنا، ليس الحاجة إلى التعبير الجمالي، وإنما الحاجة إلى تلقيه. فبأهمية الثانية، سيكون للأول أهمية أيضا. إذ إن الحاجة إلى تلقي الجمال، تدعم الحاجة إلى التعبير عنه، وتبررها، وتمنحها شرعية.
تساؤل: هل ان وجود الجمال يمثل شرطا من شروط الحياة الإنسانية؟
لست هنا بصدد استعراض ما قيل عن الجمال، تنظيرا وتحليلا، وعن صوره، واشكاله، وتأثيراته في النفس البشرية. فمعلوم لدى الاختصاصيين في المجالات المعرفية والفلسفية، والعلوم الإنسانية، إن قضايا مثل هذه، مستوفاة بآراء ونظريات كثيرة. وان مراجعة سريعة لما كتب في إطار علم الجمال "الاستطيقا"، وتلقي المنتج الجمالي، وتحسسه، والتفاعل معه، ومن ثم الحكم عليه، لها أن تسند أهمية الجمال وضرورته في الحياة الإنسانية، إنتاجا وتلقيا؛ سيما ان تجارب الشعوب في حقول الجمال تؤكد ذلك، وان تركات الإنسان الموغل في القدم، أبرزت جانبا كبيرا من اشتغاله في منحى الجمال، وقدمت دليلا ماديا أركيولوجيا على انه كائن لا يعيش عاقلا بلا جمال.
ليس عبثا أن نجد العالم منشغلا في لوحة فنية، أو منحوتة.. قطعة موسيقية، رواية، قصيدة، وغير ذلك. أقول انه ليس عبثا أن يُقدم أناسٌ على هدر أموال طائلة في سبيل حضور حفل موسيقي، أو عرض مسرحي، أو مشاهدة فيلم في صالة سينما، أو شراء كتاب أدبي. لا بل ان هناك من يتجشم عناء السفر إلى بلد بعيد، في سبيل الاطلاع على مقتنيات متحف! أيعقل أن يكون ذلك عبثا!؟
نعم، إن ذلك عبث بالنسبة لمن يفتقر للوعي الجمالي - الفني، أو الذي"أحيانا" لم تشبع حاجاته الأساسية بصورة كافية، قد تكون فسيولوجية أو سيكولوجية، أو حتى سوسيولوجية. فكيف بجائع يحلم بكسرة خبز، أن يسد رمقه بالاستماع إلى قطعة موسيقية، لا بل كيف يتحسسها؟
هناك من يرفض التواصل مع الجمال من الأساس، ويعده ترفا غير ذي نفع إطلاقا. وهو في هذا المنحى قد يكون متقولبا في قوالب ايديو - ميثولوجية، ترى في الجمال لهوا ولغوا فارغا، وبلا فائدة، في حال عدم انصبابه فيها. وهناك من يناقض نفسه - وهؤلاء كثيرون فيرى في بعض الجمال، الذي لا يهمه، بطرا، وفي بعضه الآخر، الذي يستهويه، حاجة أساسية لا يطولها غبار! وفي هذا النحو انه لا يرفض الجمال بصورة قطعية، وإنما يهزأ بقسم منه، ويمجّد آخر. وهذا يتبع حاجته من الجمال. يجذبه، مثلا، جسد امرأة، ولا تحرك فيه ألوان وخطوط لوحة فنية أدنى شعور.
في الواقع أن الإنسان بعامة، كائن لا يمكنه رفض الجمال بإطلاق، في الوقت الذي يستطيع أن يتحسس القبح ويرفضه"على الرغم من نسبية المصطلحين. فلربما جمال لدى البعض، قبح لدى الآخر. إذ إن الحكم على الجمال والقبح، نسبي". فمن أبسط السلوكيات البشرية في الحياة، يمكننا أن نستشف الحاجة إلى الجمال. إذ ان نوعا من الطعام، أو شكلا من أشكاله، قد يثير شهية شخص ما. وبأيسر التفسيرات، ان الشهية أثيرت بعد أن سقطت حواس ذلك الشخص على الطعام، وهي مشحونة بتجارب سابقة. لذا ان هذه الاثارة لا تختلف كثيرا عن الإثارة الحسية التي يعتملها شيء جميل في النفس. وعلى ضوء ما يتشابه بين الإثارتين، وكل ما تقدم، يحق لنا أن نرى في الجمال أهمية، ولكن حجم هذه الأهمية يختلف بين إنسان وآخر.
ان البحث عن الجمال، والاستجابة إليه وتذوقه وتحسسه، تمثل حالة متطورة من حالات الوعي، وتكاملا "نسبيا" في سلم الحاجات "الذي تختلف درجاته بين فرد وآخر". ففي معظم الأحوال نجد أن الإنسان يميل إلى البحث عن الجمال، والوصول إليه، وذلك بعد أن يحقق حاجاته الأساسية، سواء المتعلقة بجوانبه الجسدية أم النفسية. بذا فالبحث عن الجمال، يشير في الغالب، إلى صورة من صور الكمال، وإلى تنامٍ في الوعي المغذى والمشبع، وهذا بدوره يؤشر الرقاء الذي يتمتع به الجمال في جوهره.
لو أمعنا النظر في واقع المجتمعات التي يطلق عليها تسمية "حضارية".. تلك المتواصلة مع التطور التكنولوجي والمعرفي، والباحثة باستمرار عن التغذية الذهنية؛ لوجدنا أن الجمال يمثل حاجة أساسية لديها. فإن مستوى الوعي لدى المجتمعات هو الذي يحدد نوعيات حاجاتها، وكمياتها، ويشير إلى حضاريتها.
حاجات الإنسان لا تتوقف عند حد معين، بل تسير بخطىً لا نهائية نحو التألق، ومن ثم الذواء، فالتألق من جديد، وهكذا تستمر دورة الحاجات.. وكلما اجتازت تلك الحاجات مرحلة وأوصدت أبوابها، بادرت إلى فتح أبواب جديدة، وهذا ما نجده في العلم الحديث، الذي يرفض تقديم إجابات نهائية تدعي الاطلاق ولا تقبل التخطئة، لكون التجربة التاريخية برهنت له على ان الحقيقي في هذه الأيام، لا غرابة أن يغدو وهما في أيام مقبلة. إذ ان العلم في اكتشاف مستمر. وقد امتدت هذه الرؤى لتشمل معظم مناحي المعرفة وفروعها.
إذن، فالاشتغال في الجمال، وتلقيه، صارا يشكلان حاجات ملحة لدى المجتمعات الحضارية.. تلك المجتمعات التي تأسس قسم كبير من وعيها على تأثيرات النتاجات الجمالية، حتى أدركت فوائدها. فبالفن والأدب، ترتقي الشعوب، وتفصح عن حضارتها بفخر واعتزاز، وتعرّف بنفسها، وتتواصل مع غيرها، وتجتذبها إليها لتطلع على نتاجاتها..
الفن والأدب ينقيان الذهن من الشوائب، ويحفزان فيه واعز البحث عن المشتركات بين البشرية، ويمنحانه شعورا ممتعا لا سبيل إليه بسواهما، ويسقيان أفكاره بمعين المرونة والتقبل والقناعة.. يؤلفان فيه حب الحياة، فيقتنع بأنه وغيره من الأذهان سواءٌ. الفن والأدب يحضّان الإنسان على المضي في سبل السلام أبدا، يرفعان مستوى ذائقته، حتى يغادر فردانيته ويصير جزءا من كل لا يختلف عنه.
الجمال بعامة، سبيل إلى السمو.. هناك شعوب تفخر بنصبها البرونزية التي تتزاحم في شوارعها وساحاتها العامة، وأخرى تفخر بموسيقاها، أو قصصها، أو أساطيرها، أو لوحاتها الفنية، أو مسارحها.. وإزاء من هذا الفخر؟ إنه إزاء من يقبل عليها ليشبع حواسه بذلك الجمال الذي غدا تلقيه ضرورة.
لا أود الخوض في الإنتاج الجمالي كأداة للتنمية الاقتصادية، أو كوسيلة لجعل اسم بلد معين معتليا الذروات، درءا للتشعب في الموضوع، بيد إني سأخلص إلى ان الجمال ليس أمرا فائضا عن الحاجة، أو محورا حياتيا زائدا يمكن الاستغناء عنه بسهولة، أو ترفا خاويا، أو نزهة وقتية بين المرج يخفت لهيب لذتها سريعا، ويتحول إلى رماد من الذكريات، تذروه رياح القادم من الأيام، بل إن الجمال أكسير يضفي على الحياة ألقا، ويجعل الإنسان يفخر بكونه إنسانا متحسسا لشيء لا يتحسسه غيره من الكائنات.. الجمال يشمل معظم ما يعتاش عليه الإحساس والشعور والوجدان الحي، وهو النافذة التي يمكننا أن نطل من خلالها على أسرار النفس البشرية، والحياة بعامة، وهو الملاذ الآمن للهاربين من واقع رتيب، والباحثين عن إثارات حسية وعقلية.