ادب وفن

" سلاماً... الى اطياف الشهداء الخالدين" / رواء الجصاني

ها هو نثر حريص يتسابق، وتلك هي محطات تأريخ واستذكار، وخلاصات عن رواهن سياسية وغيرها، احتفاء بالعيد الثاني والثمانين للشيوعيين العراقيين واصدقائهم ومحبيهم، ومن حولهم وهم كثار كثار... وبرفقة كل هذا وتلك، يأتي موسم الشعر، ليوجز ويجمل، ويجمّل، في المناسبة المتميزة ذاتها..
ولكي لا تأخذك الحيرة - ايها الثوري المتقاعد !!- بأن تختار ما بين هذه الموضوعة الجواهرية او تلك، عن المناسبة الجليلة، رحْ وأخترْ تلك السميفونية الباهرة، ومنها وحولها، ففيها الكثير مما يغني، بحسب ظنكَ، وما كل الظن اثم، في عالم اليوم، كما تكرر دائما..
والسيمفونية المبتغاة، المقصودة عمداً، تلك القصيدة التي كتبها الشاعر الخالد بعد انقلاب الثامن من شباط الاسود عام 1963 في العراق.. وكانت بعنوان" سلاماً... الى اطياف الشهداء الخالدين"... وفيها ما فيها من توثيق وفلسفة ورؤى، كما وتبجيل وتمجيد، لكل المناضلين من اجل الغد المشرق، وان خصت الميامين البواسل "من اقطاب الحزب الشيوعي العراقي، الذين صمدوا ببسالة تجاه التعذيب، ثم الموت الرهيب" آبان الحكم البعثي الاول في العراق كما جاء في مقدمة القصيدة، التي ضمها كاملة ديوان " بريد الغربة" الذي صدر في براغ عام 1965 عن اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي، والتي كان الشاعر العظيم قد انتخب رئيسا لها بالاجماع .
• ومن البدء يهدر الجواهري، ومن القلب، كما نحسب، فيقول: "سلاماً: وفـي يقظتي والمنامِ، وفـي كلّ ساعٍ وفـي كلّ عامِ" لينتقل بعدها مذكرا ببعض حقائق التاريخ:
سلاماً: ومنذ العُصور الخوالي، مُذِ اخضرّ حقلٌ بسُمرِ الغِلالِ
ومُذ حُكّمَتْ سادةٌ فـي الموالي، تنسّمَتِ الأرضُ ريحَ النضالِ
زَهَتْ بالشريد رؤوسُ الجِـبالِ، وتاهَ الثَرى بالدماء الغَوالي ...
سلاماً: وراحت تثور العظامُ، ويعصِفُ بالعاصفات الرّكامُ
ويشمَخُ في كلّ جيل إمامٌ،
يُمِدّ البطولاتِ هاماً فهاما، وينفَخُ في كل رُوح ضِراما..
• ثم يروح الشاعر الخالد، موثقا اكثر فأكثر، وليلخص بيّنات عن مفاهيم الصراع الطبقي، وبصور شعرية، تلامس القلوب و العقول، وتخترقها، من دون وسيط، او سرد وحواشٍ، وما اليهما:
سلاماً: ودوّى صِراعٌ عنيـدُ، به السادةُ استَبْسَلَتْ والعبيدُ
سلاماً: وراحتْ تُصَبّ القيودُ، ويحمرّ ـ فَرطَ الحياءِ ـ الحديدُ
وتُفْرى لتَغدو سِياطاً جلودُ، ويُطرِقُ في الغاب خَزيانَ عودُ
تحُثّ المشانقَ منها اعتِسافا، تَدَلّى عليهنّ هِيفاً لِطافا...
• وبعد ذلك "الانساني العام" يصل الجواهري الى "العراقي الخاص" ليوثق، ويهتف برؤاه عن نضالات شعب العراق، وحركته الوطنية، وحزبه الشيوعي، فيقول:
سلاماً: وألقى النضالُ الرّحالا، بأرضٍ بها الدّمُ يسقي الرّمالا
بحَيث تجِدّ الرياح انتقالا، تهُزّ الجَنوبَ وتُزكي الشّمالا..
سلاماً: وفـي دجلةٍ والفراتِ، مخاضُ الصعاليكِ، مهوى الشّراةِ
أناخَ النضالُ يجُرّ النضالا، ويُبدلُ ما اسطاعَ بالحال حالا ..
سلاماً: مصابيحَ تلك الفلاةِ، و جمـرةَ رملتِها المُصطلاةِ
سلاماً: على الفكرة المُجتلاةِ، على صَفوةِ الزمَرِ المُبتَلاةِ
وُلاةِ النضال، حتوف الوُلاةِ، سلاماً: على المؤمنين الغُلاةِ
سلاماً: على صامدٍ لا يُطالُ، تعلّمَ كيف تمـوتُ الرجالُ...
* ومن القصيد "الخاص" يروح الجواهري للخصوصية الاكثر، مخاطباً قادة الحزب الشيوعي النجب، من ضحايا انقلاب شباط الاسود، وبالاسماء هذه المرة: سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد حسين ابو العيس، ورحيم شريف- ابو رائد، وعبد الجبار وهبي- ابو سعيد، ويهدر:
سلاماً: وما أنا راعٍ ذماما، إذا لم أسلّمْ عليكمْ لِـماما
سلاماً: ضريحٌ يُشيعُ السلاما، يعانقُ فيهِ (جمالٌ) (سلاما) (1)
سلاماً: أحبةَ شعبٍ نيامى، إلى يوم يُؤذنُ شعبٌ قياما..
سلاماً: حماةَ الغدِ الهادرِ، مفـاتيـــحَ مســتقبلٍ زاهرِ
سلاماً: على المعدنِ النادرِ، تأبّى على عَصْرِةِ العاصرِ ..
سلاماً: على جاعلين الحتوفْ، ممرّ المواكبِ، جسرَ الزحوفْ
سلاماً على حاقدٍ ثائرِ، على لاحبٍ من دمٍ سائرِ ...
سلاماً: حماةَ النضالِ العنيدِ، أمنْ جَلْمَدٍ أنتمُ، أم حديدِ..
أجنتكم أن تصالوا سعيرا، وأن لاتبيعوا لوغدٍ ضميرا
ومن دونِ ذلك حزّ الوريدِ، سلاماً: شُراةَ الردى بالخلودِ ..
• ولأن الجواهري، كما كل الفلاسفة والمناضلين الاحرار، متفائلون بنهجهم، ورؤاهم، واثقون بخطاهم على درب التنوير والارتقاء، ها هو الشاعر الشاعر يشيع علنا، مع سبق الاصرار، بعضاً من ذلك النهج وتلكم الرؤى:
حماةَ الحمى: والليالي تعودُ، وخلفَ الشتاءِ ربيعٌ جديدُ
سيورِقُ غصنٌ، ويخضرّ عودُ، ويستنهِضُ الجيلَ منكمْ عميدُ
سيَقْدُمُهُ (رائدٌ) إذ يَـرودُ(1)، ويخلِفُ فيهِ أباهُ (سعيدُ) (2)
و (سافرةٌ) ستربّ النسورا، تُوفّي (أبا العيس) فيهم نذورا (3)
حماةَ الحمى: ربّ وعدٍ وعيدُ، سيردى الردى، وسيبقى الشهيدُ..
حُماةَ الحمى إنّ جيلاً يفورُ، على مِحوَرٍ من شُموسٍ يَدورُ
يسيرُ ويعرِفُ أينَ المَصيرُ، له ألفُ نجمٍ بنجمٍ يَغورُ..
• وعشية ختام القصيدة ذات الاكثر من بيت قصيد وقصيد، يعود الجواهري ليلخص، ويوثق، ويوصي، ويذكر، وعسى ان تنفع الذكرى!!، وكل ذلك بصراحة من عركته التجاريب بقسوة، وعركها ببسالة واقتدار، وامتحانات جمة عديدة:
حماةَ الديارِ وصاحَ الدمُ، أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ؟
وجاوبهُ الأنكدُ الأشأمُ، أجلْ: أنا ذا، إنني أعلمُ
بأنّ جِراحَ الضحايا فمُ...
حماةَ الحمى: وبكمْ أقسمُ
بأن سوفَ تعصفُ تلكَ الجروحُ، بجيلٍ يجيءُ، وجيلٍ يروحُ
و نار إزاءهما تُضرمُ، َتنَوّرُ إذ تختفي الأنجمُ ..
سلاماً: وما ظلّ نجمٌ يلوحُ، وما ساقَطَتْ وَرَقَ الدّوحِ ريحُ
ستبقى رُؤوسٌ ضِخامٌ تَطيحُ، ويبقى يَجُرّ الجريحَ الجَريحُ
وسوف يَظَلّ يُدوّي طُموحُ، لفجرٍ يلوحُ وديكٍ يَصيحُ
ان كل ما تقدم ليس سوى مقتطفات وحسب، من تلك السيمفونية المطولة العصماء، ولعلها حقا - كما نزعم من جديد - وثقت وأرخت واعلنت، ولو بعض وقائع وحقائق تشي، بل تشيع لمحات ومحطات من سفر تليد ستتوارثه الاجيال، فهكذا علمنا التاريخ، وتعلمنا منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• القيت في امسية ثقافية مميزة اقامتها السبت الماضي في براغ، منظمة الحزب الشيوعي العراقي.
1- «جمال»- «سلاما»: الشهيدان: جمال الحيدري وسلام عادل
2- «رائد»- «سعيد»: نجلا الشهيدين: عبد الرحيم شريف وعبد الجبار وهبي
3- «سافرة»- «ابو العيس»: سافرة جميل حافظ، زوجة الشهيد محمد حسين ابو العيس