ادب وفن

لقمان محمود .. أيقونة المكان في الشعر / جاسم عاصي

الشاعر لقمان محمود يُقيم علاقته بالأشياء من خلال تاريخه الشخصي، المنتمي إلى الجماعة بطبيعة الحال. كما ونرى أن تفرّده ضمن التجربة الشعرية، يعني وقوفه وسط ظاهرة المنفى، التي تقودنا إلى المكان وتأسيساته الشخصية. فهو ضمن المجموعة المنفية عن مكانها، أو بتعبير أدق المطرودة من مجالها قسراً.
أوقد تكون اصطلاحاً ــ المنفى داخل الذات ــ لأسباب حسية، محرّكها البعد الوجداني المنتمي إلى الجماعة، من دون الذوبان في ملكوتها بالكامل إذ تؤكد الذات على مؤشرات متمكنة من الاختيار والكشف واتخاذ الموقف، الذي هو بطبيعة الحال محفوف بالحس الإبداعي الشعري ــ وهنا تبدأ تأسيسات أسطورة الشاعر لذاتها ووجودها البنيوي في النص. فهو ــ حسب جاستونباشلارــ يبدأ من المكان الذي هو البؤرة الأولى التي أسس عليها الإنسان أسطورته، والشاعر "لقمان" يحاول أن يؤثثه بالشعر ، معتمداً حقيقة شعرية تقول أن الشعر نوع من ظاهراتية الروح، أكثر من كونه ظاهراتية العقل. لذا استلزم أن يكون تعامل الشاعر مع مكوّنات الظواهر وظاهرة المنفى، يعمد إلى تأسيس رؤى للأمكنة "كوباني، شنكَال" ورؤى رديفة للحس الإنساني "دلشا" كما ذكر الشاعر "شيركو بيكاس" من أنها "رماد الوطن، الليل، الموت، الوحدة، الآم الاشتعال في العشق الأبدي..." وهي توصيفات شعريةخالصة.
العتبــــات
عتبة الديوان "وسيلة لفهم المنافي" ترتكز على الاختيار في استيعاب ظاهرة المنفى في "وسيلة" ولعل هذه المفردة لا تُعطي نفسها ضمن مكوّنها العام، بل الخاص، لأنها الطريقة أو المسرى الذي يمكن اتباعه لكشف المضمر المسَبب. غير أن الوسيلة هنا تتذرع بما هو خارج مكوّنها البنيوي، لأنها مفردة من مكوّن لغوي، لها فعلها وخاصياتها. إلا أن الشاعر يستعملها هنا من باب الشعر. فالوسيلة هنا تتم عبر منحى الشعر. وكأنه يقول أن وسيلة الشعر هي الضمان الأكيد لفهم ظاهرة المنفى.إذاً خرج الشاعر عن النمط اللغوي للمفردة، عبر اختيار وظيفة جديدة لها. وهي "الشعر" بمعنى ارتقى بها إلى مصاف ما سوف يعمد لممارسته شعرياً في قصائد ورؤى المتن الشعري. أما مفردة "الفهم"فهي ليست كاشفة أو مؤشرة للظاهرة. ذلك لأن إنسان الشاعر في النصوص قد اكتوى باشتعال المنفى مكاناً وحساً ووجداناً. الفهم هنا يعني التبصر بما يجري، والذي كان غائباً عن الحس الإنساني لإنسان الشاعر. الفهم هنا يعني خلق التراكم في الزمان والمكان بسبب حقيقة هيمنة المنفى وجوداً متحققاً. كذلك حركته عبر الزمان والمكان ضمن التراكم العام في الوجود. ولعل الألفة في المكان، والارتباط بالحيويات يفكك جزءاً من سلطة وغطاء المنفى، لكنها في بعض تفاصيلها تُثير الحس العام والحس الصوفي. لأن المتصوّف ينطلق من غربة المكان نحو مطلق السماء باتجاه روح الله في الفضاء المطلق. إن الفهم في جملة العتبة ناتج عن قوة الوجدان لدى الشاعر من جهة، ورهافة حسه الشعري ــ كما كشفت القصائد ــ من جهة أخرى لذا نجده ينحو بهذه المفردة ليضعها ضم دائرة قارّة لوجودها الدلالي. وقد تمكّن من ذلك، وفق مجرى الشعر . ففهم المنفى وحقيقته الجارية في الزمان والمكان تجسّد في متن الشعر . فالشاعر لم يكن باكياً ولا متألماً ومتوجعاً جرّاء المنفى ، بقدر ما كان يعمل على خلق خطاب تسري عبره الروح الصوفية التي تتداخل في حسه الوجودي . فهو يتعامل مع مفردات المنفى بتراجيدية متعادلة الأطراف .وتكون مفردة "المنافي" قادرة على أن تُعطي المبرر لوجود مفردة "وسيلة" لأن إنسان الشاعر مُواجه بمجموعة من المنافي وليس منفى واحد . أي ثمة تعدد في المكان ، يرافقه تعدد في الزمان. وهذا بطبيعة الحال يخلق مناخاً متنوعاً، سواء على صعيد التجربة أو الانثيال الشعري، لأنه المادة الموصلة إلى خفايا النفس البشرية، ونعني بها "المنافي" لما تؤشره من صور تحتوي تلوينات متعددة ومختلفة عن بعضها. بمعنى أنها تخلق صراعاً وجدلاً. وهذا ما استثمره المتن الشعري في معالجاته الحس الوجداني لإنسان الشعر في المتن. من هذا أجد أن عتبة العنوان ذات خاصية شاملة، لما لمفردات جملته من تأثير على بعض ، لخلق صورة ولو إيهاميه عما سيجري داخل المتن . وهي حيوية استقبال لفعل التلقي .
أما العتبة الثانية، وهي لوحة الغلاف ، فأجدها تمتلك صور الفضاء الصوفي الخالص. فالفنان يخلق حراكا على الفضاء الذي يحتوي الكينونة المتمثلة في أجزاء اللوّحة في الوسط . هذا المكوّن التشكيلي يوحي بالحس الذاتي الذي يرقى إلى الصوفية، ضمن تقسيمات جدار اللوّحة . ثمة حيوات تتحرك، وهي تتخذ لها أشكالا لولبية منتظمة . حاول الفنان أن يربطها بـ "الفيكَر" من أجل تمركزه . بمعنى ليس هنالك تبدد وتذويب للوسط أو المركز، فقد بقي محتفظاً بقوته وحيويته. بل خلق له مؤشرات أخرى كالدائرة باللوّن الأحمر المتدرج كالقمر ، وضوء أصفر يبدو صغيراً ، لكنه وفق منظور اللوّحة بدا أكثر اشراقاً . أي حققا معادلاً موضوعياً مع تقسيمات مركز اللوّحة وما تحتويه من حيوات. إنه مؤشر لها بقوة وصلابة الوجود . عموماً نجد أن اللوّحة ــ سواء كانت باختيار الشاعر "قصديته" أو تجاوب الفنان مع قصائد الديوان ــ قد امتلكت ذاتها التي لا تنفصل عن الحس الصوفي للشاعر، وهو يتعامل مع الزمان والمكان، مما أنتج حالة فريدة من التعامل مع المنفى.
المكان ومكوّناته
المكان ووفق معظم المنظورات، سواء كانت أفكار عامّة، أو فلسفية، أخذت بنظر الاعتبار وحدة المكان صيرورة خالصة لتشكّل صيرورة الإنسان . وكان التأكيد على العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان، تتماثل مع العلاقة الرحمية بين الجنين ومكانه الأول. لذا كان الاجماع على أن مكان الطفولة خير ما يتمثل للإنسان في غربته ومنفاه. ذلك لأن وجود المقارنة بين ما هو كائن وما كان ؛ تنشط الذهن وتُزيد من حراكه . والمنفى واحد من ظواهر إيقاظ الذاكرة. والشاعر "لقمان" يستحضر مثل هذه الصوّر وهو يواجه حالات المنفى . لذا فجدلية العلاقة مع المكان الحالي، ينتابها اللا استقرار . أي تكون حالة القلق هي المتسيّدة. وذلك انطلاقاً من مبدأ الحوار الفلسفي مع المكان ، الذي ربما لا يختلف عن الأمكنة الأخرى في ألفته وجماليته، لكنه يبقى مكاناً مقارناً مع مكان آخر أكثر قوة في علاقته من الذات فالعبارة الشعرية القائلة:
"هكذا أراني متشبثاً باللا مكان ، وبالقبر الذي يتناثر
في المنافي"
هي الأكثر تأشيراً للمبرر الموضوعي الذي أسسته العلاقة نفسها، وأقصد العلاقة المنشطة للمقارنة في قوله:
"مثخناً بالذكريات كغبار مفجوع بالتراب"
ولنلاحظ كيف تكون العلاقة بمثل هذه الحالة ، سوى علاقة المكان الأول . إنه الضالة التي تتجسّد حين يكون بعيداً ، ولحظة يتفاعل الحنين مع الصورة المستدعية . مما يُشكّل نمطاً من تجسيد حقيقة الشعور . لذا نجده يلجأ إلى العش الأول كما أكد "جاستونباشلار" ليحقق توازناً نفسياً ضمن ايقاع شعري مشحون بالصوفية الخالصة :
"أمضي إلى بيتي الأول ، أمضي إلى طفولتي
أتنفسُ البيت الطيني ، كأنني رئة التُراب"
ولنفحص بعض المفردات التي كانت فاعلة ودالّة في السياق. مثل "أمضي" وهي مفردة ليست دالّة على الحس فقط، بل محاولة لاقترانها بالفعل. فالمضي يعني بدء التحرك للوصول. وقد كرر هذه المفردة للتحقيق وليس الجمالية الشعرية. لأن المضي هنا اقترن بتكرار آخر مع تغيير الكيفية في "بيتي الأول" في البدء ، والتكرار في "طفولتي" المفردة التي جمعت مفردتين "بيت أول" في "طفولة" جامعة ففي الأولى تعيين المكان. أما في الثانية فهي تخصيص مطلق بكل وحداته . الطفولة تعبير ذي محمولات واسعة كما هو معروف لذوي الشأن في التربية والتعليم . وفي فلسفة المكان، هو "العش، القوقعة، الكهف ...الخ" وهي كشوفات تطرق إليها علماء الاجتماع، وركّز عليها كل من "جاستونباشلار، ياسين النصير"مبكراً. وهذا ما أكد لنا أننا ماضون إلى طفولة أيضاً وليس إلى شيخوخة. إنه الحنين المفرط إلى البدايات. وقد اشتل عليه السرد والشعر معاً . وهذه الصورة تقترب من تصوّرات "مرسيا إلياد" في ما اصطلح عليه بالعود الأبدي . إنها عودة إلى الجذور ، أي إلى الأسطورة الأولى لتشكّل الوعي عند الإنسان. و"لقمان" ينحو مثل هذا المنحى للتعبير عن وجدانه وحسه المكبل بشروط المنفى.
إن الشاعر يحاول إقامة صلة بين الأمكنة، عبر حسه المفرط ، ومن خلال ادراكه الحسي بغربة المنفى . وإن كان المكان فردوساً . لكن لاعتبارات ذاتية يستحضر هذا الحس لتداول العلاقة مع المكان .ففي قصيدة "لترتب" التي نوهنا عن قسم منها ، هي نَفَس شعري يلهج بحس صوفي إلى المكان من خلال الميل إلى مكوّنه الأول "التراب" وهو عود أبدي إلى المكوّن الأول للوجود حسب نظريات الخلق . ضمن معادلة "التراب ــ الطين ــ البيت" إذ يقول وهو بصدد المضي إلى بيت الطفولة :
"أتنفسُ البيت الطيني ،كأنني رئة التراب"
ولنرى أي علاقة حسية بين المكوِّن والمكوَّن. وهو ما نؤكده في شعر "لقمان" لأنه مليء بالحنين إلى المكان الأول .وكما مؤشر أسفل مفردتي "الطين، التراب" وهما من خلق واحد حسب قصة الخليقة البابلية.
إن السردية في الشعر ساهمت في صياغة نوع من المدوّنة من خلال توظيف أفعال دالّة على السرد منها "سأروي، التحق، عاد،بعدها" وهذا قاد بطبيعة الحال إلى الكشف عن حالات كثيرة ، تجمعها صفة الهزيمة. وكون تصعيد وتيرة الشعرية في السرد ، أو العكس، عِبّر تكرار يصوّر الزحمة التي عليها صورة التدهور في المشهد العام في "ضجيج، جهة، حروب"وهذا التكرار جاء لتعميق المعنى. والعبور به من "التحق بثورة لم تصمد طويلاً" و"عاد أبي مهزوماً وجريحاً، ومات قبل أن يعرف/ أن شقيقه قد استشهد" واستبدل كل هذا بـ "ضجيج في الغُرف/ ضجيج في باحة المنزل/ ضجيج في الشارع / وهدوء على جثة أبي" كذلك "بعدها بأعوام تدحرجت حروب أخرى إلى/ جهة أخرى" ثم "حروب معجلة /حروب مؤجلة/ حروب وقحة/ حروب خاملة/ حروب حاقدة/ حروب غادرة/ وحرب الأخوّة" حيث ابتدأ المكان المُهدد من خلال ظهور إشاراته "من "كوباني" إلى "شنكال" وهي أمكنة يتكرر وجودها كما سوف نرى في قصائد الديوان. وبما يُتيح لنا القول أن الشاعر "لقمان"معني في شعره بالمكان. ذلك لأنه منتم اليه بقوة وجدانية عالية.