ادب وفن

رؤى وابتكارات للشكل العام والخاص / جاسم عاصي

لما كانت العمارة مكوّن عام، فهي خاضعة للمكوّن الاجتماعي، مثلما يخضع السكن للمكوّن الأسري. من هذا يكون ملبيا للحاجة النفسية والذوقية. فهي مجال يضم ويحتوي الحيوية الإنسانية، بسبب احتوائه للتاريخ العام.
فالعمارة بهذا سكن ومجال راحة وسياحة وأثر يلعب فيه الفن دورا ً أساسيا ً، لأنه أيضا ً يخضع للمتخيّل والمتصوّر الخاضع للحاجة والتكيّف.. والخيال وحدة أساسية في تشكيل هيأتها. وهذا التشكيل كان مرافقا ً للمبنى كمكان للإيواء، لأنه يخضع للحاجة والتكيّف، فالمكان كذلك ينسجم كالشعر مع الخيال، لأنه مرتبط بالتحوّلات الجارية والحس الإبداعي. إن العمارة من هذا التصوّر لها علاقة بالمكان، لأنها الحيّز الذي يشحذ المخيلة. من هذا نرى أننا بصدد مكان يُثير الذائقة والخيال. ولنا في معظم المرافق المشيّدة على وفق تصوّرات المعماريين درسا ً في هذا كما هو واضح بما شيّده كل من المعماريين "رفعة الجادرجي، فتاح الترك، جعفر علاوي، محمد مكية، خالد السلطاني" وغيرهم. وهذا يقودنا إلى طبيعة العلاقة بين العمارة وعلم الرياضيات الذي يبتكر الأسس العلمية والنظريات، فالعمارة نتاج هذا العلم، لأنها أساسا ً تخضع لفن التأسيس الرياضي ، والابتكار العلمي المبني على تصورات معرفية ــ علمية، وذوقية بنائية خضعت إلى المعرفة وعلم الجمال وطرائق النقد والتلقي . تلك المجالات التي اعتمدت على مرجعيات فلسفية جديدة ، وعلى تقدم غير مسبوق في العلوم الأنثروبولوجية والسوسيولوجية لذا خضعت العمارة في تاريخها إلى متغيرات مفهوميه، مجارية لمتغيرات علم الجمال والهندسة ونظريات بناء العمارة.
لعل ما ذكره أستاذ المعمارية زهاء حديد/ "كولهاس" من أنها كوكب يدور في مداره الخاص، فهذا يعني الكثير مما تتصف به المعمارية، على صعيدي تطور بنية العقل المتخصص والتطبيق الفعلي لرؤيتها لمثل هذا الفن الراقي الذي يتعلق ببنية المكان وتطوره وتكيّفه على وفق المتغيّر في الوجود. بمعنى أكثر بلاغة؛ إنها تمتلك الخاصية الديالكتيكية، التي من شأنها مواكبة مستجدات الحياة، منطلقة من حقيقة جدلية مفادها ؛ لا ثبات في الوجود ، إذا ً لا استقرار في الأشكال، إنها ــ أي الأشكال ــ تتكيّف وفقا ً للمغيّر والحاجة. هذا المنطلق هو الذي واكب "حديد" كما واكب غيرها من المعماريين الذين سبقوها و الذين واكبوها أو الذين جاءوا من بعدها ولقد لخص الدكتور "خالد السلطاني" وجهة نظره في أعمالها ، بما هو تأكيد على منهج معماري في كونها "في جميع مشاريعها تتكئ في مقارباتها التصميمية على إستراتيجية التفكيك، تلك الإستراتيجية التي تدرك الفضاء المصمم و"غطاءه" معا ً كقيمة تصميمية مميّزة، تـُفضي إلى تشكيل هيئات معمارية غير عادية: تتلبسها " حركة موّارة ، تـُحيل خصوصيتها ، الهيئات إلى محض كتل، تندمج فيها وظائف مفردات الأشياء فيما بينها، وتتلاشى خصوصيتها للمنشأ المصمم ، مع الاهتمام بخصوصية المكان، ومن ثم ترجمة كل ذلك إلى رسومات تخطيطية تقود لاحقا ً إلى تشكيل نماذج تصميمية عديدة . ومن خلال الاشتغال على هذا الأسلوب ، فأنها نجحت في دمج متطلبات برنامج "التوسعة" المتشعب نوعا ً ما ، للخروج بهيئة معمارية نادرة ، حافلة بحضور أسلوب "انسياب" الفضاءات بصورة معبرة وجريئة . وفي النتيجة فنحن أمام بلاغة متقنة لصياغة معمارية لامعة" ولنأخذ بالعبارة الأخيرة وهي البلاغة، وهي مفردة تتسع وتنفتح على آفاق واسعة في حقول الإنتاج الإبداعي وعلى كل أصعدة إنتاج الأجناس . ولعل العمارة أدقها ، لأنها الحقل الذي يتعامل مع الكوّن والوجود العام، الذي يحتوي الكائنات . فبين الوجود ككينونة وبين الحيّز ــ المكان ــ الذي يشغله تتأكد ضرورة الوجود. فلا الإنسان باستطاعته التخلي عن المكان، ولا المكان يستغني عن وجود الإنسان. بمعنى لا توقف لجدلية وجود الاثنين. من هذا المنطلق نرى أن النظر إلى العمارة باعتبارها تمتلك وظيفة، وهذه الوظيفة لا يتم وجودها إلا بوعي الضرورة لوجودها ، وإذا ما وعت ضرورتها أخذت بمبدأ التكيّف لوجود الإنسان، حيث تأخذ بنظر الاعتبار حركة الوجود. بمعنى عدم تموضعه، أي استقراره على حال. من هنا تنبثق البلاغة في العمارة، باعتبارها جنسا ً إبداعيا ً.
زها حديد تعمل على وفق رؤيتها أولا ً، وتأثرها بالتوجهات التي تتخاطر وتتجاوب مع استاتيك عقلها. بمعنى هي بمثابة مركز للجذب والطرد. ومن هذا كان ميلها إلى مدرسة التفكيك كبيرا ً. وهو منهج يتعامل مع المكوّنات من اعتبار اللا استقرار في الأشياء ، لذا توجب الوقوف على الخصائص الذاتية للمكوّن ، قصد معرفة الأسس . وبهذا يمكن للمبدع أن يُقصي ما لا يتناسب مع توجهه ورؤيته . فمدرسة التفكيك أو اللا انتظامية ، أخذت به من باب الوقوف على المنهج الذاتي. صحيح أنها اطلعت على جهود من سبقوها في أوربا من المعماريين خلال ستينيات القرن الماضي والذين كانوا معنيين بالتبعثر والتكسر. وقد تأثر هؤلاء بالحرف العربي والصيني ،وأخذوا منها التجريد الهندسي وبدءا ً من شكل الانحناء في الحرف ورشاقة القوس المتولد من الانحناء هذا . وهو فن فيه مجاز كثير، استفاد منه الفنان المعماري "فنكاندينسكي" لاسيّما اهتمامه بالخطوط مسايرا ً لما اكتشفه "كولهاس" من العلاقة بين الحرف العربي والصيني ، خاصة في أعمال طلبة المعمار العرب والإيرانيين . من هذا كانت رؤية "زها" تتوسع نظرتها مستندة إلى ما هو كامن في الحرف هذا ، مستفيدة من الفضاءات التي يخلقها، ومن التداعيات التي تدفع إلى الابتكار والتجدد. فجدلية الحرف الذي كان منارا ً للتشكيليين، غدا يمد نسغه إلى فن العمارة. وبهذا تم من خلال شكله إلغاء الخطوط المستقيمة التي تقود إلى المربعات والمكعبات في خلق المكان، في عدم تحديده بأفق ثابت وتقليدي لا يوحي للجماعة بالحركة بقدر ما يوحي بالتقولب والسكون والنمطية. إن مثل هذا التوجه في جعل المكان أكثر حركة، بل في حركة دائمة كما هو الحرف العربي والصيني على يد مجموعة من الخطاطين، غدا أكثر مرونة في تصميم شكل العمارة، مستفيدة من امتداداته وخلقه فضاءات متواصلة في انسيابيتها واستمرارها، فضاءات متخيّلة في ذهن الإنسان الرائي الخارج ، أو الرائي الداخل . فللعمارة على وفق هذا التصور دراميتها المتأتية من انسيابيتها ، ومن إلغائها الزوايا والحدود والانكسارات. إن إلغاء التوازي والتقابل في الخطوط والأشكال ، بل الابتعاد كاملا ً عن الشكل التقليدي للعمارة أو تصميم المكان، يعني فتح الآفاق أمام ذهن الرائي ، وبالتالي يعني هذا التجاوب مع الرؤى الجديدة للإنسان، والمتأتية من تعقيدات الحياة وتشابك الوجود ، الأمر الذي يتطلب العمل على فتح الأفق بمثل هذه الانسيابية للمكان . بمعنى كان هذا استجابة جدلية من لدن العماري . فـ "زها حديد" بدراستها علم الرياضيات أثار في ذاتها مسألة مهمة تتعلق في اختصاصها أولا ً، وبمستقبل هذا الاختصاص ثانيا ً، ألا وهو اكتشاف العلاقة بين المنطق الرياضي والمعماري والفكر التجريدي. أي أنها حاولت منذ الشروع في خلق فرادة لنموذجها في الارتكاز على هذا المنطق المستخلص من تخصصها الرياضي الذي يفتح آفاقا واسعة للعقل . ولأن ميلها للتصميم والعمارة ، كان التوظيف أكثر جدارة في إنتاج نموذجها في هذا الحقل . فهي القائلة بأن ؛ علينا أن نغيّر أسلوبنا ليتناسب مع اللحظة التي نعيشها. كما وأنها في الكثير من تصريحاتها، أكدت على نقد الذات، بمعنى تقصّي ودراسة التجربة الشخصية من مبدأ نقد الذات، لخلق القيمة منها، ومن ثم يكون رصد القيمة الفنية هذه لخلق دافع لتجاوز التجربة من خلال خلق وابتكار حقول ومجالات أخرى تتصل بالتجربة ، بقدر ما تخلق مجالاتها الحيوية الجديدة أيضا ً. وهذا يصب في مركز ما خلقه المعماريون المجددون ومنهم المعمارية "زها" في العالم. لذا نجدها تواكب مثل هذه التحولات في منهجها المعماري . ففكرة المرونة والتمدد بدأت في مشروع "متحف غوغنهايم" بتايوان ، ثم تحولت إلى مرونة أكثر في نصب "ايلاستيكا" في ميامي وصولا ً إلى طاولة "فيتزا". وفي كل هذا تكون قد تعدت فكرة أن يكون الشكل المصمم يخضع لشكل ثابت . كما وأنها تعدت فكرة أن تكون الطاولة مثلا ً مجردة أو كونها منظر طبيعي. وهذا يعني أيضا ً أنها تخضع التصميم إلى جدلية وجوده وتكوينه الفعلي، مستندة إلى كونه لا يقوم على التشكل العضوي فقط، وإنما على المتغيرات الذاتية المحركة لهذه العضوية. وبهذا نلاحظ تجدد ومغايرة الأشكال المصَممة في عمارتها. أي أنها سائرة في تدرجات متواصلة في المتغيّر والمتميّز، دالة بذلك على رفعة الذوق الفني ورقيه . فهي مشغولة دائما، ومنذ بواكير حياتها ، لاسيّما زيارتها برفقة والديها أهوار جنوب العراق ، ورؤيتها انسيابية المياه والسطوح المائية الواسعة وتلألؤ هذه السطوح ، وتعامد أعواد القصب والبردي وتراقصه ، وحركة الحيوات داخل عمق المياه ، مما ولـّد لديها رؤى استنهضت في ما بعد ولع و رؤى الطفولة والصبا أخذت بجوانبها الفنية وقادتها لمطاوعة تلك الأشكال المتحركة التي كثيرا ً ما أكدت عليها وهي تستعرض تجربتها الفنية المعمارية وجماليتها. إنها وهي تتعرض للأشكال التقليدية للعمارة والأثاث، إنما تتقصّى ما هو قادر على تجاوز ذاته ، والتجاوب مع محاولات من يُسهم بالأخذ به. وهنا تكمن رؤيتها المورث، في كونه يمتلك خاصية التجديد من خلال التجاوب مع المعاصر . لكن هذا يتطلب من يمتلك القدرة على المزاوجة بين هذا وهذاك ، معتمدا ً على القدرة في الكشف عن مثل هذه الإمكانات والمواطن القادرة على التجاوب . في هذا سعت المعمارية إلى كشف ما هو كامن في التقليدي وتوظيفه في العمارة الجديدة.