ادب وفن

فيزياء النص / محمد حياوي

أحدث دخول العامل التقني في عالم الطباعة انقلاباً كبيراً في تقاليد الكتابة المتعارف عليها منذ قرون، وكما فعلت التكنولوجيا في مجالات الثقافة كلها، فعلت في الكتابة التي لم تعد مجرد ورقة وقلم، واصبحت تعابير مثل «بقلم فلان الفلاني» او «خُط بيراع فلان الفلاني» شئ من الماضي، على الرغم من مقاومة البعض وحنينه للعلاقة الحميمة مع الورقة والأحساس بالقلم بين الأصابع.
وعلى الرغم من دخول الكومبيوتر متأخراً نسبياً إلى العراق، قياساً بالبلدان الأخرى، إلا أن انتشار البريد الإلكتروني وامكانية الطباعة على الكومبيوتر أو «الحاسوب» كما يحلو للبعض تسميته ممن يُعربون كل شئ في طريقهم، جعل الكتّاب يطبعون مقالاتهم على الكومبيوتر ويرسلونها إلى الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وهي طريقة سهلة وسريعة ومناسبة لآلية عمل الصحف المعاصرة، لكن عملية الطباعة بالنسبة للكثيرين ماتزال تعاني الكثير من الأخطاء التي تؤثر على النص كوحدة متكاملة.
في الغرب يسمون ذلك «فيزياء النص» ويراد به البنية التركيبية للنص المطبوع الذي تحكمه جملة من القواعد والأسس، وهي في مجملها أصول مكملة للمعنى، شانها بذلك شأن التعبير والتشذيب اللغوي وعدم الوقوع بالأغلاط الإملائية والنحوية، وهي في مجملها قواعد حري بالكتّاب والمصححين اللغويين والطباعين «الصفافين» تعلمها واتباعها لتشذيب نصوصهم وتكثيفها وصونها من التفكك.
إن اكثر من يعاني من تلك الأخطاء هم رؤساء التحرير والمحررون والمصممون، لأن للنص المطبوع كومبيوترياً بنيتة المعمارية الموحدة، وهي غير بنية النص المكتوب بالقلم او بخط اليد. ويحلو للكثير من الكتّاب تزويق نصوصهم بمد الحروف او تلوينها أو استخدام الفراغات العشوائية بين العبارات والكلمات، من دون ان يعلموا ان نصهم سيمرر عبر مصفى «فلتر» لتنقيته من جميع هذه المؤثرا أثناء عملية التصميم، وبالتالي ضياع وقت الكاتب الذي انشغل بعملية التزويق تلك ووقت المصمم الذي انشغل بعملية التصفية.
إن أكثر الأخطاء انتشاراً على هذا الصعيد هو استخدام الفراغ Space قبل الفوارز والنقاط، وهي اخطاء مؤذية من شانها تفكيك النص وتداخل الجمل ببعضها، وعندما يرصف النص ضمن نسق الأعمدة في الصحف والمجلات والكتب، تقرأ برامج التصميم في الغالب الفارزة المنفصلة عن كلمتها كوحدة مستقلة، وقد يبدأ السطر بها بينما تبقى كلمتها في السطر السابق.
إن الفارزة او النقطة عناصر تابعة للكلمات التي قبلها، وهذه قاعدة نحوية أيضاً، ولا يجوز باي حال من الأحوال وضع فراغ ما بينهما.
من الأخطاء الشائعة الأخرى عدم استخدام الجمل القصيرة او استخدام مقطع استهلالي او مقدمة، وهو اسلوب لا ينم عن خبرة في الكتابة، لا سيما الكتابة الحديثة، لأن النص المطبوع هو المحتوى او الوعاء الذي يحمل الأفكار والمفاهيم، ولكي تكتمل تلك الأفكار والمفاهيم لا بد من وعاء محكم يحول دون تسربها او كتمها.
أيضاً يحرص الكثير من الكتّاب على تقويس العبارات اللاتينية التي ترد في نصوصهم، وهي عادة مضرّة فيزيائياً، لأن الكلمات اللاتينية تقوس نفسها تلقائياً وبنيتها المعمارية مختلفة بصرياً عن بنية الجملة العربية.
وهناك من يكثر في استخدام الأقواس والقويسات، من دون معرفة الفارق بينهما ووظيفة كل منهما، بل هناك من يضع اقواساً مضاعفة حول بعض الأسماء والعبارات، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى اختلاط المعنى. ولتعميم الفائدة أوجز ابرز هذه الأخطاء:
لا يجوز ضرب فراغ Space بين الفارزة والكلمة التي قبلها
لا يجوز ضرب فراغ Space بين النقطة والكلمة التي قبلها
لا يجوز ضرب فراغ Space بين نقطتي الحوار والكلمة التي قبلهما
لا يجوز ضرب فراغ Space بين علامة الإستفهام أو علامة التعجب والكلمة التي قبلهما
لا يجوز ضرب فراغ Space بين القوس الاستهلالي والكلمة التي بعده
لا يجوز ضرب فراغ Space بين القوس الختامي والكلمة التي قبله
لا يجوز ضرب فراغ Space بين واو العطف والكلمة التي بعدها
تستخدم القويسات للعبارات والاسماء الأجنبية المكتوبة باللغة العربية لتمييزها، وليس بالضرورة للاسماء العربية، اما الأقواس الكبيرة فتستخدم في الغالب للعبارات الداخلة على النص او الاستعارات او الشرح المكثف.
وفي المحصلة فان عملية بناء النص طباعياً عملية جمالية وإبداعية هي الأخرى، ولا تقل اهمية عن عملية الكتابة نفسها، كما ان اهمال بعض الكتاب لهذه القواعد بسبب السهو ليس عيباً، بل العيب هو عدم تعلمها والعناية بها، وتستخدم دور النشر العالمية محررين متخصصين بفيزياء النص، لمراجعة كتابة المؤلفين وتشذيبها من تلك الأخطاء التي كانت شائعة عندهم، لولا أنّهم بدأوا يطورون برامجاً كومبيوترية خاصّة بتشذيب النصوص المطبوعة، وقسم من هذه البرامج موجودة تحت برنامج القيادة الشهير Windows الذي نستخدمه جميعاً، واحدى هذه الخاصيات كفيلة بإظهار مثل هذه العيوب في الطباعة ليتمكن الكاتب من معالجتها، وهي سهلة وفي متناول الجميع.
اخيراً: حاولت جهدي تطبيق تلك القواعد في هذه المقالة قراءة إنتاجية في المقدمة