ادب وفن

كسر النمط في قصيدة الحب العربية / جبار الكوّاز

"لي كلُّ هذا" مجموعة نصوص شعرية للشاعر أحمد الحلي اعتمدت شعرية النثر، تقودك منذ عنوانها إلى إدراك جوهر الشعر وزوايا منطلقاته الذاتية التي تذوب في عوالم الذات الجمعية في إشعال جذوة الحب المتأصلة في الإنسان رغم كل ما يحيط به، والتنقيب في نصوص هذه المجموعة يوصلنا إلى فهم جدوى كتابة الشعر في راهننا الملتبس ، تلك الجدوى التي تنتصر فيها القيم الاجتماعية على القيم الفنية في شرقنا دائماً ، ذلك أن الشعر أمسى مطيّةً سهلة يمتطيها كلُّ من حاز على متّكئٍ قيمي لا فني لينال لقب جنرال برتبة شاعر .
يقف العنوان "لي كلّ هذا"، ليمتاح كل ما استغلق في نصوصها مشيراً إلى حيازة الجمال والدهشة ابتداءً من تأخير المبتدأ المعرّف "كلُّ هذا"، الواجب التقديم إلى جوازه الذي يحقق مبتغىً بلاغياً معروفاً ، ولكن نسق هذا ينتشر ليؤكد حمولات جمالية مدهشة تختصرها المرأة بوصفها أماً أو أختاً أو حبيبة أو زميلةً أو ....، وفي "هذا" يواجه الشاعر أحمد الحلي العالم بكل قبحه وجماله متسلّحاً بفيوضات ضوئية تعاضدية تؤازره لتأكيد حقيقة أن الجمال والحبّ هما اللذان سينتصران أخيراً رغم سرّانيته أو علنيته واقعاً أو مدركاً ، وبهذا فإن المهاد الثاني الذي شكلته المقدمة التي يقول الحلي فيها :
في ذات ليلةٍ/ اختلى عقلي بأعضاء بدني/ وقال؛ أحدكم سيشي بي!
يكون استكمالاً لبنية الجمال اللغوي بإدخاله عالم صراع ما هو عقلي بما هو حسي ، وهذا الصراع يتشكل عبر نصوص المجموعة ككناية كبرى عابرة لحدود الزمان والمكان ، تشكل نواتها "المرأة"، اختراقاً لحجب العقلي وحدود الحسي وصولاً إلى بلورة معانيه السامية المنبثقة من صراعهما معاً...
ولأن المجموعة تنطوي على آفاق هائلة من الدهشة والجمال لغوياً ومضمونياً فإنني كمتذوق أحاول الوصول إلى فهم خاص لصراع الضدين "العقلي والحسي"، وكيفية اختراقهما بلغة الحب كعامل موضوعي يضع حداً لحماس أيٍّ منهما.
تشتغل النصوص على وفق الاهتمام بالشيئية الجزئية المرئية وإعادة بلورة متشظياتها للوصول إلى كمالها الشكلي ، ويشكل النص الأول "طلّسم الحروف" والنص الثاني "كوثر" انموذجين لهذا الاشتغال حين تكون المرأة الحبيبة كلية جمالية متشكلة عبر أجزائها الجمالية أيضاً من خلال استثمار حروف اسم الحبيبة ، وإذا كان الاهتمام بـ "همزة" طلسم الحروف علامة جذب لبقية الحروف ، فإنه إنما كان يريد أن يقول إن تلك التشظية الجمالية لم تمتنع وفق تسلسلها إلا به ، لأنه يشكل علامة فارقة في كثيرٍ من اسماء النساء ، وأن هذه المقاطع القصيرة ما هي إلا تيّار تعاضدي يخترق بؤرة الأجزاء ليضع بجمال دهشة كناية الحب والمحبة والألفة والدنو والهيام والعشق، لكن بخطاب مغاير يخترق المتداول ليصب في بنائية النص الغزلي باقتراح بنية جديدة ليست مغايرة عنه إلا أنها تشكل جزءاً من ذاته الكبرى وعلامة دالة عليه أيضاً؛
فاض حنيني/ فانساح يرمم صدوعَ الأرضِ/ زاد أنيني / فكف الحمامُ عن النواحِ وراح يُصغي إلي .
في هذه الجملة تتشكل رؤية الشاعر عبر مغايرة الواقع المرئي ، فالفيضان ليس إلا من حنينه الخارق ، ونوح الحمائم الفطري كان بسبب زيادة أنين الشاعر ، هذا التلاقح بين ما هو عام مرئي وخاص متخيّل يشكل علامة بارزة في اشتغالات النصوص التعاقبية في المفاهيم ، ولو أردنا أن نستشهد لتأكيد مقولتنا هذه ، لوجدنا أن جل نصوص المجموعة تنهل من هذا الاشتغال ؛
* أدنى إيماءةٍ منكِ / تُعلن في مقابر خلاياي النشور.
* أن أنزف آخرَ قطرة دمٍ من أجلكِ ، غيرُ كافٍ لإيفاء نسائمكِ بقربي !
* أنفاسُكِ تكفي / لكي يسكر بها حتى الثمالةِ هواءُ المدينة !
* كافٍ لترويعي / عودُ الثقاب تُشهرينه بوجهي/ لا هراوة القطيعة !
ومثل هذه الانزياحات على مستوى النص الكلي رغم قصره تؤكد جدارة فنية كبيرة في استنهاض مفاهيم جديدة للحب تتناسب وحركية الحياة الجديدة ، وتقف بالضد من قبحها المنتشر في كل مساماتها ، وهذا الأمر ينعكس على نصوص المجموعة الطويلة نسبياً أيضاً ، في نص نثري بعنوان "بانتظار هطولها" يواصل الحلي اختراقاته الجمالية عبر لعبة لغوية ماهرة تؤكد قدرته الفائقة في إعادة بلورة العناصر الجمالية العتيقة، وهو ما اصطلحنا عليه هنا تسمية "كسر النمط"، فهو يقول في نصوص أخرى مجاورة ؛
* جمرتان فوق الماء / شفتاكِ !
* لن آوي إلى جبلٍ / عيناك تعصمانني !
* امرأةٌ من عسل / لو حازت النحلاتُ قطرةً من شهدها / لاعتزلت الحقول واكتفت بها / زاداً للأبد !
ويشكل نص "تحولات امرأة" رؤى متعاقبة تتجمع في ذاكرة المتلقي لتشكل رؤية ذاتية لصورة الحبيبة في كل العصور ، فتكون الحبيبة؛ مطراً ، عسلاً ، ضباباً ، رحيقاً ، رخاماً ، رياحاً ، ريشاً ، أغلالاً ، زبداً ، هديلاً .... إلخ ، فهذه التجزئة المقصودة للوصول إلى كلانية المعنى بكنايته الكبرى عبر النص المتشظي والمعبّأ معاً بالجمال والدهشة تؤكد لنا كما في كل النصوص أن حبيبة الشاعر الحلي مختصر مرآوي للكون ، لا يكتفي بعمومية القول أو تواصليته المعروف في قصائد الحب العربية ، بل يشكل لازمة كبرى للتعبير يتخذ من أجزائها البنائية المتناهية في الصغر مشكّلاً رؤية كبرى عبر كناية كبرى ، تقولها كل نصوص المجموعة بتآزرها وانصهارها واحتراقها في المفهوم الكوني لعلاقة الانسان بمن يحب ، وهذا ما يؤكد النص في الغلاف الأخير ؛
يتدحرجُ قلبي خلفَ خطوكِ/ أعدو خلفَه / لا أنا أصل إليه ولا هو يصل إليك !
تحية للشاعر أحمد الحلي الذي يؤكد جدارة وحيوية وشاعرية فذة ، ورؤيا مدهشة بلغة أنيقة وخيالٍ أخّاذ لا يتشكل إلى عبر تكوين ثقافي وجمال إنساني عُرفا فيه دائماً...