ادب وفن

الثلث الثاني / اسماعيل ابراهيم عبد

المهندس النحيف اشتهر بحلمه الكبير أن يشيد عمراناً في أرضه يكون قبلة تتجه إليها عمائر الأرض من خط الصفر الى خط (360)ْ!. وبذات الوقت بولعه بسيجارة لا تنطفئ.. واشتهر بقلقه المتوقد مثل سيجارته!.
ويوماً بعد آخر كان يختبر كفاءته. مرة في نصب طرقٍ مقوسة.. ومرة في تعمير منصة للطاقة.. ومرة في بناء مدرج لما يعتبر طبقة جسور معلقة!، ومرة في اختلاق ركن لأثر يشبه "قصر العاشق"، بل أراد بناء جسر يضاهي الجسر العباسي في زاخو!. كان دائب الحركة مثل قلقه، كلما مَدَّ يده الى المرقاب، وركزه على إمتداد المشروع الجديد يجدها مشلولة.. وظل يناور لأجل تأخير العمل، صحيح أن الطريق يربط جانبي البلدة ويحييها من سبات الركود السوقي، - يعتقد بذلك ويظن ان المشروع يختصر الدوران حول دروب طويلة للوصول الى عمق المدينة، وانه سيساهم في إيصال الثمر والدواب الى آكليها قبل فسادها.
كان القلق يجمّد يديه، ويصلّد ملامحه، و… لجأ الى السيجارة ليداري بعض تردده.. ليس هناك أية مشكلة حقيقية، فالأرض للدولة، والمشاتل كلها متجاوزة، والبساتين بأكملها لم تسجل بأسماء فلاحيها.. ألطف ما في البساتين يظن أنها متلاحقة ومتلاحمة فالنخيل في الثلث الأول من المشروع، والبرتقال في الثلث الثاني، والموز في الثلث الثالث…
وفي منتصف الثلث الثاني، بمركزه تماماً "جنة برتقال يحتمي بنخيل يطل على شاطىء يستظل بالموز"، ومن هذه الجنة عليه أن يبدأ.
يحس بالشلل يسرى في كامل جسده.. جلس دنو الشاطئ.. شرب ماءاً من النهر، قطع ورقة برتقال، دعكها… شمها مدّ يده الأخرى إلى تربة خليطة من الرمل والغرين.. رشقَهُ آذار بنثيث مطر رخي ولم يغادره القلق بعد!.
.. .. .. لا يريد سوى ان يبدأ ليقول للمهندس الاعلى أنه هضم التعليمات ! لا يريد سوى ان يبدأ بلا قسوة ..
نظر إلى الأعلى، كانت السماء بهيجة، بغيومها ونداوة هوائها، كأنها تأمره ان يدخن سيجارة وان يقرر أنه "سيقرر" هكذا "ظن" نفسه.. وكان ورق الموز والبرتقال يلتف حول إبطيه مما يبطئ حركته حد السكون!.
.. .. .. كانت هناك فرصة للتأخير، ان يفحص التربة مرة اخرى ويقارن بين المعلومات المباشرة وتلك التي تضمنتها مسودة المشروع !! جرّب مع الجيولوجي فكانت الحصيلة واحدة ((لاخطأ)) !! "لا فرق"!.
نظر إلى الأعلى ثانية.. أنهى سيجارة، وثانية، وعاد ثالثة يدخن وينظر إلى الأعلى.. طارت حمامتان، فرَّ أرنبان، بقرة وثور أسرعا بالهَرَبِ من كارثة أحسا بها قريبة!.
كان ثمة معلومة تقول "في مقدمة تلال الفحّامة يوجد موقع آثاري "أكدي" وعبثاً حاول تنبيه المهندس الأعلى، الذي توغل مع مكائنه إلى تلك التلال"..
كانت مهمة المهندس النحيف تشييد الركائز التي تبدأ من طريق الموز حتى الضفة الثانية بين الكاظمية والاعظمية!.
في فورة العمل، الهدم والبناء، الحفر والردم، القطع والاعلاء، نسي وضعه الشخصي، وكانت تتقزم أمامه إمتدادات الأعالي، وتطاولات الزواحف، وزحوف المتسلقات.
كان البرتقال أكثر أنواع الجذور تشبثاً بالأرض وأقوى غوراً في التربة، وكانت الجذور هذه تمتد مثل أمعاء صديقه التي بعثرتها قذيفة طائرة تحت ركام مركز الاستشارات الهندسية في مجمع "السيدية".. كانت الجذور تمتد وتمتد مسافات أخرى بذاكرته حتى تصل اليوم الذي جندّوه في شهربان، حيث اختلطت سيقان الاشجار بجذور النخيل، بقلوب الخضروات بأجساد العسكريين الملتحقين تواً من الأجازة!.
كان يوم دمار آخى بين الجثث المدفونة "للأكديين" وهياكل الأجساد المسحونة "يوم الطيّارات" … هكذا سموّه .. ذلك اليوم .. ذلك اليوم حصد واجهة المدينة والجند المرابط خلفها.. المشكلة في ذلك اليوم أن الجذور متصلة بأسلاك الطاقة المرتبطة بمخازن العتاد,كان عليه أن يساعد دفعته الهندسية في ترميم مخازن العتاد.
وقف مبهوتاً مثل اليوم، اشلاء وأعضاء وأنقاض يجب ان يعيدها كمشروع لمهمة غير قابلة للتأجيل .. وقف يتصور بناءاً من أشلاء ورميم… كان يوماً واحداً وانتدبوه للدراسات العليا ثم لوزارة الصناعة ثم لرئاسة مركز الاستشارات الهندسية.
والآن ! لا رئاسة لمن لا رأس له!.
والآن يقف، ينتظر الفرار من أمام نظرات المهندس الاعلى ومن خشخشات الأعشاب والجريد، وتكسر بيوض الحمام وانحناء رقاب الشتلات، وانهضام حدقات الفلاحين الموكوسين، والدجانين المهووسين ، والنحالين المتعوسين، وعمال المساقف البائرين.. يفرُّ من ماشية لن تجد ما تأكل وعذوق لن يسمح لها بالإخصاب، ومياه لن تحبو عبر النهر نحو عروق الموز والبرتقال وهياكل عظام الاجداد ..
تذكر أن أخاه الصغير غادر البيت منذ أيام.. وكالمجذوب دخل حومة العمل، مفتشاً عن لا شيء ، هائماً بشبه انتشاء.
تذكر أيضاً أن عليه ان يصمم موقعاً لحركة القطار النازل من "المحطة العالمية" إلى المعقل0
كانت له خبرة جيدة في تخطيط مسوح محطات الانتظار والارتحال ، فمرة أرسل أخاه في القطار الصاعد الى الجنوب لكنه خالف السير فصعد في القطار النازل إلى الشمال ولم تحن له فرصة أن يسأله لماذا؟
وفي تبريره للغياب الأول لأخيه تمنى لو تصدق النبؤة ( إنه سيسيح مع الماء حتى آخر أعناق السرو، وسيتدفأ بزفير خورة الجزائر، ويزدهر مع زهور دجلة الدورة ، ورقرقة الخابور ، وهودجة حمرين، وزُرّاقة بنجوين، ومخصنوضرة كميت ، ومقصوصبة مجنون ، ومَفْتَنة جمجمال ، ومسودة بابائيل ، ومحومزة جلولاء، ويكلله بالجلال رنين الغثاء، وصهيل النافقين، وأنين المستوحدين، وانثرام الغائبين، وغياب المهجّرين، وانسلاخ الآفلين ، وغفوُ الآيلين)
ولربما اعتقد بأن أخاه ستأخذه النبوءة لتقصي خطى المحطات حيث سيشد القرط بالإذن، والضياع بالهوية، والبطاقة بالمصير، والقطار بالخطف السريع ، وسيضمد العظام بالأجساد، والأضداد بالأبعاد، والبزول بالكلاب، والقلاع بالأحداق، والجسور بالبثور.
وقد يمتد عِرق يده اليمنى الى عصبة السلجوقيين في جبلة ابراهيم ، وعقدة النيليين في صباغية الامام، وسبعية الجنائن في توأمية كورش ، وادريسية المصاطفة في جزرة العلويين.
… وكأنه تراجع أو استكثر أن يكون لأخيه مثل هذا الحضور فقد تمنى نبوءة اخرى، أن يعود .. ولربما سيرسله ثانية الى بئر يتوسط أرض "السادة" التي باركها يشع، ويسوع، وسواع ،… خلف المحطة العالمية بل أقرب الى مقدمة "الشيخ الشهير"، أعجبه ان يرى أخاه مثل الاطفال بين عضود الامهات يُرشُّ على وجوههم الماء من براثا العظيم لترتد الوجوه المكفهرّة الى قدود ناعمة منعّمة تطفح بالبُشر والسلام …
ولربما، إذا عاد، سيرسله ثالثة الى … ولكنه لم يَعُدْ.
كان يمنّي نفسه أن يفي ويوافي صرخات المَحَلْ ويل في الليل، في حلة بوب الشمائل، وأن يملّح وجهه بسبخة الفوّار ويملي أنفه من عنبر الكوفيات.
كان يظن أنه باستطاعة أخيه أن يسهل المرور من نقرة السلمان الى حاضرة النعمان، ومنها الى شقائق الحجاز.
… هاهو اليوم في مشروعه يحث الظنون نحو اليقين، وبين الظن والنبوءة شاهد كلاباً تهرُّ بعداءٍ وتحدٍ !!
نظر الى الأعلى.. توقفت أطرافه عن الحركة بلا سكون، قَلَقُ دمِهِ حرّكها باهتزاز قميء … كان يكره الكلاب واولادها .. يكره العظ وقيامات السحل والجر 00
يكره00 يكره، لم يتعلم فن الكره جيداً، فراح يتلقاه بصدر مفتوح على كفاف الايدي، ومدامع العيون،كان جنبها هيكل عظمي يغطي نخاعه بعض لحم مغر.. فجأة نهرته الكلاب.. خافها .. اصفر لونه، رجفت عيناه، تماسك قليلاً قبل أن يغمى عليه… ولما أفاق صرخ:
آخ .. آه قلبي .. آه وغشى ثانية!.
بعد ثلاثة أيام جاء الى المشروع … قبله كان الأمر صدر بإلغاء المشروع.. لكنه ظل واقفاً ينظر إلى الأعلى… ينتظر مَنْ سيهديه إلى مَنْ أكل أخاه يوسف ( الكلاب أم الذئاب ) !!
كان يكره الكلاب ويخافها وما يزال.