ادب وفن

شمسُ المعذَّب لا تنير/ نجاح إبراهيم *

"قولي: بماذا تفكرين؟
أفكرُ في شمسكَ التي لا تنيرني يا عاشقي".
تذكرتُ هذا المقطع من قصيدة"حوار" للشاعر أنسي الحاج، وهو يجسّدصورة الانكسار الرّهيبة المتوالدة عن الشرخ بين الشاعر وأنثاه، وحين يسأل بماذا تفكرين؟ نشعر بأن ثمّة إحباطاً وفقداناً للأمل، والدّخول إلى عالم معتم لا تنيره شمس. فتحصل القطيعة، ويدخل الشاعر دائرة الاغتراب، ثم تتناسل حوله العذابات كذرات الغبار اللا ترحل ويبقى معذباً إلى ما لا نهاية.
ما لفت انتباهي في بعض النصوص الشعرية للشاعر والروائي عبد الكريم العبيدي، هو النظرة التشاؤمية، وحواره المقتضب على مفردات تشي باغترابٍ فاضح،فشدتني إليها، وحين تمعّنت فيها وجدتُ شمساً مواربة خلف حبره الأزرق، ولكن نوسانها لا يغيب، فمن يطّلع على قصائده يجدُ إنساناً مؤّرقاً حتى آخر مدى، وهذا ناتج عن وعيه لذاته، في ظروف موضوعية معينة، لعلّ أهمّها الظروف الاجتماعية والمكانية.
حاولتُ قدر الإمكان أن أتبع في قصائد نثرية ثلاث:" موتٌ بطيء"و"جواهر فادحة" و"مدوّنة متظاهر"، فأوصلتني إلى خيوط الاغتراب، واليأس والإحباط، وفتشتُ عن ضوءٍ، عن أمل، لم أعثر عنه، حاولت اقتفاء أثره، فما وجدت، والشاعر في مقطع من هذه القصائد يعترفُ بذلك، يقول:
"وحدة الإحساس بالأمل تتضاءلُ
مآسي الحروب
لن تترك له مكاناً".
أمسكتُ بالخيط الذي يدلني إلى منبع عذاباته، وسبب الحالة التي يعيشها، فتبين أنها الحرب اللعينة، التي تدور كرحى، فتطحنُ الأيامَ بالويلات، والشاعر يقفُ شاهد عصر عليها، تستعرُ أمام ناظريه من دون استئذان، وهذه العذابات لم تأت من فراغ، بل إنها قائمة، على صراع داخلي عميق يمزّقه، يحاولُ قدر المستطاع أن يعيد توازنه، يُعيده إلى ذاته المغتربة أمام ظروف وقف حيالها بالانبهار والانصعاق أمام الخراب الذي أتى من جرائها.
" في الحروب كلّ الشرور تتضخم
تتسع".
والحرب تبدأ برصاصة، والرّصاصة لا تحتاج إلى حرب كي تغدو بشعة، فأولى العتبات لاشتعال الحرب هي تلك التي تدوي في فضائها، ثمّ يتلوها بيان عسكري معلناً قدوم سموّها، ويعقب ذلك صفارات الانذار وسيل الدماء المتفجر.
كلّ هذا يأتي سريعاً بحجم غُصة عابرة، أو أسف صغير، ثمّ يتمدّد في الشوارع، يتناسل كما دوران الطواحين:
"لا شيء أرخص من وضع حجر أساسها
وتشغيل طواحينها".
الشاعر يقفُ مدهوشاً أمام تشكلها السّريع، وهذا الانصعاق جعل ذاته متألمة ومأزومة، والخدوش عليها واضحة، فتبدوالندوب، حتى جعلته هذه الظروف القاهرة عاجزاً عن التلاؤم مع الواقع المرير، فيشعر بالوحدة، لأنّ الحروب تفرق بين الناس، حيث يفتقدون الرابط الحميمي بينهم، فألم الفقد والتشرد والقيم أكبر بكثير مما يجعلهم يبحثون عن الروابط ليستعيدوها. وهذا ما جعل الشاعر عبد الكريم العبيدي يعيش اغترابات اجتماعية ومكانية وروحية، ويسوح في ذاته، القلق والألم، يرافقانه أينما حلّ، فيبقى إنساناً مُحبطاً ومُعذباً ومليئاً بالخراب الداخلي، فآنى لشمس أن تنير؟!
في محاولة لكسر هذا الاغتراب، ولعلّ شيئاً ما تحرّك في داخله، ليؤكد له أنه على قيد الحياة، يتظاهر ضد الحرب والفساد والفقر المستشري، أراد أن يزيح غباره من داخله لكنه:
"ألتفّ بصمت غير مريح
أسرّح بصري في جفاف النهار
دون اكتراث لمخاطر أي صدمة
بسبب فروغ صبري".
لكنه ينسحب، لا يملك القدرة على الاندماج في مشهد الشارع، حيث عالم القبح مستشر فيه، ولا شيء سوى الخواء في الأزقة، وبلد يشيخ أمام عينيه، يفقدُ ماضيه ولا مجال لعودته، بينما نهاراته تعزف سيمفونية الكلمات المريعة، والوجوه التي مرّ بها في الشارع، بدت له غريبة، فاقدة المعالم، قبيحة، تدعوه إلى أن يعزف عن التمعن فيها. وما هذه الوجوه إلا ما تناسله العراق من خراب بدا أنه لا يستحق حتى الرثاء.
حين خرج الشاعر للتظاهر وهو منهك من الخراب، أراد أن يتحوّل ما يراه وما يتطحلب في داخله إلى شيء جميل، رغب أن يكون هذا الجميل هو بالذات، ليغدو جميلاً، وبطولياً، وأن يشكلَ من نفسه المنكسرة والمحبطة شخصية ثورية، لكنه ترك كلّ شيء وعاد إلى عرزاله.
سؤالٌ يطرحُ نفسه، ويبدو كبيراً: ما الذي فقده الشاعر حتى بات على ما هو عليه؟
إنّ قارئ قصائده الثلاث، يُدرك الجواب مباشرة، فالغربة القسرية التي يعيشها داخل وطن فقد فيه كل شيء، ابتداء من الحرية التي لم يشعر قط أنه حرٌّ، حتى فقد عزلته السّرية الممجدة لديه، والتي كان بمقدوره أن يرسم آفاقاً لها، وينطلق بخياله إلى ما هو بعيد جداً، يقرّبه هذا الخيال، بيد أنه فقد أشياء كثيرة فرّت منه، هو الباحث من دون جدوى عن تغيير، والمولع بالرّيب، ومشتت بين شفتين انطفأت فيهما قبلة كان من الممكن أن تنتشي بها الروح. فالجمال الدّاخلي فيه على الرغم من حجمه، يُحسّ به يموت رويداً رويداً، وتمتدّ أصابعُ الدّمار في كلّ جارحة منه، لأن السلوك الذي أراد أن يسلك لا يؤمن به إيماناً كافياً، أو إنه بعيدٌ عنه، فيتأذى كثيراً، ويستشري الغضب فيه، وهذا لا بدّ له من أن يغادر القبح الذي يتصدّى له جمال داخله، والذي ينطفئ ببطء، فيروحُ في التعبير عن ذلك، تارةبالسخط، وتارةبالانزواء، ومن ثم الخضوع إلى العتمة، التي تشبه عتمة الأعمى، فالعذاب يجرّه لأن يتخوف من المستقبل أيضاً، يقول:
" كأنّ عراقاً قديماً ينزاح؟
مفسحاً لمعاول الخراب
رسم ثورة الخراب
وويلات بداية الألفية الثالثة".
بدا المستقبل قاتماً، مُهلكاً، وقد جسّده الشاعر من خلال صوره السّلبية، وهذه بالتأكيد نتيجة نظرته التشاؤمية التي ينطوي عليها " المعذب "، والرّيبة التي يتغذّى عليها فكره، وهذا يعود إلى فقدان الثقة بالعالم المحيط به، مما يؤدي إلى ضياعه وظلمة الآتي التي تلوح بوادرها.
الشاعرُ عبد الكريم العبيدي يشعر بمواته كلّ يوم، موت معنوي يزيد من ابتعاده، وهذا الموت قاسٍ ومرعبٍ، وأصعب بكثير من غيابات الجسد، عذابات متجددة، مؤلمة تصلّ به إلى حافة النهاية، وتعود لتمضغ كلّ وقته ضياعاً وبشاعة وحزناً.
ثلاثة نصوص مؤلمة للغاية، تنتمي إلى الشعر الحداثي، تهوّل الوجع، بل ترفعه إلى مقام التقديس، ليشكلَ مفهوماً جمالياً في القصيدة الحديثة.والشاعر استطاب له تحمّل العذاب والرّعب، فودّ حمله إلى مستقبل، هو نهاية الخط لحاضرأليم، يجسّد لنا مفهوم الإنسان المعذب، وذلك لأنه ابن عصره، عصر حروب متلاهبة ومكرورة،عصر الدّم المسفوح على الأرصفة والجدران، وآهات القهر المعلقة كمشانق في الحناجر. عصر خوف يجعل العيون مفتوحة، وكأنها ترى ملك الموت! فيمضي الإنسان المرهق بالعذاب في داخل الشاعر الرّهيف، يمدّه بنسغ أوجاع لا تنتهي. يُسرف في قهر ذاته، ويتفنن في حصارها حتى يكاد يخنقها إن اقتربت من ذرة فرح، أو بصيص أمل.
يتألم الشاعربأضعاف ما به من ألم، يبكي اغترابات لا تحصى، ويضيف إلى قسوة الحياة حنظلاً، لأنه لم يستطع أن يواكب تصاعده، وقف حائراً مما يجري، مدهوشاً، مصعوقاً، وبالمقابل يرغب في أن يجد خلاصاً مما هو فيه، لكنه لا يساعد نفسه على فعل ذلك، بسبب ما فيه من تأزم يشرئب بقلق وفجوات أسهم المجتمع في خلقها، فنسجت حصاراً من قطيعة بينه وبين المحيط، فولد تمزقاً وتشاؤماً، ورعباً من آتٍ لا حدود له.
الشاعر "العبيدي"، المعذّب حتى العظم، والذي استمرأ هذا الأمر، فاستطاب له، حتى مارسه واقعاً وتخييلاً، لا يعدّ الوحيد الذي كتب شعراً يمثلُ النموذج المعذب في شعرنا العربي، وإنما سبقه إلى ذلك العديد من الشعراء، ابتداءً من النصف الأوّل من القرن العشرين، منهم شفيق جبري، وإيليا أبو ماضي وآخرون.
واحتفت قصائدهم بالاغتراب، وعزلة النفس والتشاؤم والضياع، والتغني بالألم، تماما كما قصائد "العبيدي" التي تفيض على الكون بما فيها.
وتتميز قصائد "المعذب" في الشعر بأنها انفعالية دائماً، لأنها وليدة تجربة إنسانية انفعالية، تناسب الحالة التي تخلقت منها.
نصّ "المعذب"، نصٌّ قهري، فالشاعر مرغم على أن يكون محاصراً بلحظته الشعرية، لهذا تأتي الصورة الفنية ذهنية تصل إلى حالة التوهم، التي تفتقد إلى العاطفة، فتكون انعكاساً لجهد عقلي، يقول:
"أواه أنا في ريب دائمي حقاً
تردّدي يسلبني اليقين"
نجدُ مبالغته في التخييل إلى حدّ التجريد:"وبسبب فروغ صبري، بتّ كشارد مسحوق".
إنّ الملاحظ في النصوص، هي صورة الإنسان المقهور، وتلك العدمية التي يشعر بها.واللافت جداً في نصّ "المعذب" أنه يبالغ في تكثيف صورةالعذاب، والقهر والانسحاق والتشاؤم، فالشاعر يميلُ إلى استخدام مفردات قصيدته بما يعزّز داخله من عذابات، وما يراه في الخارج، وفي الناس والشارع والوطن، فيغلفها بصفات مؤلمة، فتاكة، قاسية: كـ "المعاول، والخراب، طواحين، حجر، أعمى، ظلام".
إنّ معجم الشاعر اللغوي يخدم دائرة العذاب التي يعيش ضمن خطها المنحني، والتي تنطوي في القصائد على القيمة الجمالية، وليست هذه المفردات سوى سلال لدلالة المعنى العميق، والمستمدة من قبح العالم المحيط به، ومن تلاشي الأحلام وتبددها.
ونجد العبارة قصيرة، تؤرثها الصورة الشعرية لتؤدي وظيفتها التكثيفية، وإن جاءت واضحة، بيد أنها مبطنة باختزال تجربة حياتية يبديها الشاعر في لحظة تخلقها في داخله. فتنحا به إلى الرّمزية بطبيعتها لما تحملُ من إيحاء، ولما فيها من رمز، بيد أن الشاعر مال صوب الوضوح في بعضها، فجاءت لا تحتمل التأويل، وإنما يكفي مدلولها المعطى:
"آه... بأيّ عين سنبصر بداية الحرب
مع تلاشي الإحساس بنهايتها؟!
ظلت هذه القصائد في إطار النثرية، تختال بصورها التي تشي بوضوح في معظم الجمل، لأنّ الشاعر يلتمس بها واقعاً مريراً شديد اللصوق به.
بيد أنّ طعم العذابات لا تفارقها، و"المعذب" داخل أبداً في غيبوبتها.
فمتى يعود الشاعر من رحلة اغترابه؟
متى تنقشعُ عن عينيه صورُ الخراب؟
وهل يرفّ الجفنُ لقطرة هناءة؟
إنّ كان يتألم، فليبق كذلك، لا عيب في الألم، إنه محرض، وليكن هذا الألم دافقاً، وليس سكيناً توجه إلى الخاصرة.
ــــــــــــــــــــــ
* أديبة سورية