ادب وفن

في "الثقافة الجديدة": سعد محمد رحيم: المثقف ناقداً رؤيوياً

الحزب الشيوعي العراقي
( ماتع )
كلمة "أدب وفن":
بات بعضهم ـ وهم من المثقفين غالباً ـ يتحدثون، اليوم، عن المثقف وكأنه زائدة مزعجة، أو تورم مؤقت في الجسد المجتمعي، لا معنى ولا ضرورة لوجوده إن لم يكن ثمة ضرر حاصل من ذلك الوجود، وأنه بروز اعتباطي وتشكّل كاذب حدث في غفلة من الزمن، وأن العالم يمكن أن يمضي في طريقه من غير أن يتأثر بأية درجة، أو يأبه، إذا ما اختفى ذلك المثقف من المشهد العام لأي سبب، وباعتقادي يمكن عدّ مثل هذه التخريجات نوعاً من المازوكية أو جلد الذات، أو العدمية، وكلها أمراض نفسية ـ اجتماعية ناتجة عن الإحباط الشديد واليأس والشعور بالعجز أمام ما يجري من وقائع جسيمة على أرض الواقع العراقي والذي يخفق المثقف في فهمه تماماً وتمثّله، ناهيك عن المشاركة في مواجهته وتغييره.
ليس المثقف ساحراً، ولا صانع معجزات.. إنه فاعل اجتماعي، يمتلك وسيلة تعبير يُفترض أن تكون متقدمة بالقياس إلى الآخرين، وله عدّة لغوية ومعرفية وفنية.. هنا أستخدم مفهوم المثقف لأشير إلى منتج الثقافة بمستويين فكري وجمالي، يهتم بالشأن العام، ويبث خطاباً، ويسعى لتمثيل ذاته وجماعته وعصره، قارئاً ومستكشفاً لتناقضات الماضي والحاضر واختلالاتهما، ورؤيوياً يمثل صوت المستقبل.. أما من ينتظرون من المثقف أن يحوِّل واقع حال البلاد، بوساطة قصيدة، أو عمل روائي، أو لوحة فنية، أو عرض مسرحي، أو دراسة فكرية، الخ.. بين ليلة وضحاها، فهذا مما لا يُعقل، فالأفكار والقيم الجمالية لا تصبح جزءاً من وعي الأفراد، يؤثر في السلوك الاجتماعي، ولا محفِّزاً تاريخياً حقيقياً، إلا بعد مرور زمن طويل، وبتوافر شروط تاريخية، نفسية واجتماعية واقتصادية.
ولكن بالمقابل ليس ثمة توصيف قار يضع المثقفين كلهم في سلة واحدة.. المثقفون أنماط مختلفة، لكن ما يحدد طبيعتهم هو الموقع والوظيفة.. من هذا سأستبعد المثقف النطاط، الذي لا يُعرف له موقع واضح في خريطة الصراعات الاجتماعية.. ذلك الذي يتقلب على وفق ما تقتضيه مصالحه الشخصية.. وهو نمط لا تخلو منه أوساط ثقافات كثيرة، ومنها وسطنا الثقافي العراقي.
الشخص الذي يطرح خطاباً امتثالياً لإرضاء المؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية ويساير ما هو شائع لا يمكن عدّه مثقفاً كذلك، لأنه في هذه الحالة يخون وظيفته العضوية في أن يكون قارئاً ناقداً لما حوله، يثير غيظ حرّاس الدوغمائيات، ويعكِّر صفو المخدَّرين بالمعتقدات القدرية التي تمنح عزاءً كاذباً ولا تحقِّق الخلاص.
هناك أيضاً شريحة واسعة من المثقفين العراقيين، كشفوا في سنوات المحنة عن الموجِّهات التحتية اللاواعية لأفكارهم وقناعاتهم، وأحياناً من غير أن يفطنوا أو يريدوا، وهي للأسف ذات طابع طائفي أو عنصري أو عشيري ضيق الأفق، مجسِّد لهويات ما قبل دولتية نابذة للآخر، مشبعة بالكراهية، وفتاكة.. إن الطبقة السطحية الرقيقة من الحداثة والتنوير واليسارية وغيرها، عند هؤلاء الأخيرين، تكسّرت بفعل خضّات الواقع، ليطفو الغاطس العفن وتفوح روائحه الكريهة.
المثقف الذي نعوِّل عليه هو المثقف الذي يغادر منبر الخطابة ذات البعد الواحد موقعاً، إلى فضاء الحوار المفتوح، ولا يدّعي احتكار الحقيقة، أما وظيفته الفكرية والثقافية، ومشاركته في الشأن العام، فتتجلى بالحفاظ على زخم المعارضة داخل كيان المجتمع وحقله السياسي، وتعريض الثوابت إلى هزّات، وفكفكة اليقينيات بتعريضها للأسئلة، واجتراح الأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 381
آذار 2016