ادب وفن

قراءة في كتاب "الطريق الوعر إلى أور" / جاسم عاصي

قليلة هي الكتب التي من الممكن إعادة قراءتها، ولذلك أسباب قد تتعلق بالزمان والمكان، وبما يحتويه من حراك ثقافي يصب في تقديم أمثولة للجدل والحوار بغية الوقوف على مستجدات الواقع، لاسيّما ما يتعلق بالغزو الأمريكي على العراق وما أعقبه من متغيرات وتجاوزات، وانتهاكات للحقوق، وخاصة الثقافية منها، كالتجاوز على المتحف ودار المخطوطات، ثم المواقع الإثارية، وخاصة موقع أور والزقورة ولكش .
وكتاب "الطريق الوعر إلى أور" للباحث والمترجم أمير دوشي بطبعتيه الأولى والثانية يمثل ما عنيناه من الكتب ذات الأهمية، لأنها تحتوي دفاعات عن الذاكرة المخترقة، حيث حظت الطبعة الثانية على مجموعة إضافات لفصول تشتغل على نفس المستوى من المعالجة والمعنى، كما هي دراسة ما كتبه الباحث ناجح المعموري وكتابه "المسكوت عنه في ملحمة جلجامش" كذلك فصول تضمنت التضليل الإعلامي، وابتكار أساليب تتخذ لها أمثلة تستلها من القاع الشعبي . فالكتاب بما احتواه من محركات معرفية شاملة، وميدانية واسعة، وتأمل في ما هو مقروء في متون فكرية وسياسية واجتماعية ومعرفية عامة يشكـّل أهمية معرفية شاملة تميّزت بأساليب تجمع بين أساليب البحث الدقيقة، وبين توظيف ما هو بسيط واستثنائي في الظواهر الاجتماعية، لاسيّما الشعبية منها. فالكتاب يتوسل بكل أدوات الثقافة والمعرفة، لينتج رؤى. كذلك علاقته بقراءة التاريخ المعاصر من باب ملاحقة المستجد والمؤثر في الواقع، ابتداء من نيسان 2003 وما لحق هذا التاريخ من متغيرات سريعة ومثيرة، وصعبة وقاسية. بمعنى كان التاريخ الواسع قد التم في حقبة زمنية قصيرة نسبياً، قياساً إلى طول التاريخ السياسي الإنساني، بكل قسوته ومفارقاته. وكأن الجحيم قد انصّب على هذا البلد الذي لا يمتلك سوى ذاكرة حضارية. من هذا المنطلق، عالج الكتاب بالوقائع جملة أمور ووقائع حدثت أثناء دخول جيش الاحتلال الأمريكي إلى العراق. وما رافقها من أحداث كبرى كانتهاك متحف الآثار ودار المخطوطات، وتحطيم البنية التحتية للبلد. ثم ما تلا ذلك من أحداث كتحريك الخلايا السابتة للإرهاب والتنظيمات السلفية والأصولية الإسلامية. سواء كانت على الصعيد الفكري أو السياسي. ففي مجال الإعلام، يرى الباحث في فصل "حرب الأفكار" في كون الملمح الأساسي للاضطهاد الكولونيالي، هو السيطرة على وسائل الاتصال، وليس السيطرة على الحياة والممتلكات أو اللغة. وهذا ما رأيناه فعلاً من ترك الحياة تسير على هواها، من دون إحكام السيطرة عليها كما هي السيطرة العسكرية. فالمحتل لا تهمه سياقات الحياة، ومن ضمنها جميع المتعلقات والعلاقات بقدر ما تعنيه تلك التي توفر له الكيفية في التحكم والسيطرة من أجل تنفيذ البرنامج في البقعة التي يطأها جنوده وآلياته العسكرية. وهذا ما كان يحصل وما حصل للإدارة الأمريكية على طول تاريخها الكولونيالي. الذي حاول المتخصصون تضمين لغة السلاح لغة ثالثة، تدعو إلى المحبة والتحرير, وما إلى غير ذلك من الحيثيات التي تزيد من سلطة الاحتلال على حساب حاضر الشعوب ومستقبلها. وخير مثل على ذلك ما قام به المستعمر الاسباني من دفن الجياد التي قـُتلت في المعارك بغية الإبقاء على الانطباع؛ بأنها خارقة للطبيعة، أو إقامة دورات للجنود لتعريفهم بعادات الشعوب المحتلة بلدانهم ومعتقداتهم، لكي يتكيفوا مع تلك المعتقدات سلوكاً. وهذا ما يخالف الطبيعة أو السلوك الذي تطـّبع عليه الإنسان، لا سيّما الذي يغادر بلده بصفة غاز، أو الذي جُند لهذا الغرض. وهذه مفارقة سيسيولوجية خالصة. صاغ المحتل وسائل متعددة. فمثلاً وكما صاغ المؤلف مراحل التطور البشري وما مرت به هذه الوسائل بمراحل: الشفاهية وهي وسيلة التدوين المرحلة عبر الذاكرة. لكنه يخلق له مجساته التي هي عبارة عن أقانيم في جسد التاريخ. ثم جاءت مرحلة التدوين؛ وهي مسجلة من بدء اختراع الرموز الدالة على الأفكار والأحداث البسيطة، التي نقلت شفراتها ما أن تتعرف على دلالاتها الخاصة والعامة، التي أصبحت شفرات تنقلها الذاكرة الجمعية للأجيال اللاحقة، كما حدث للغة المسمارية والصورية. وثالث هذا التطور؛ هو مرحلة التدوين الذي اقترن باختراع الكتابة، حيث استبدلت ذاكرة الشعوب بذاكرة الكتب. ورابع هذه المراحل؛ هي مرحلة الصورة وسبل الاتصال الأخرى، التي ابتدأت منها وسائل التأثير المباشر من خلال الشاشة أو الإعلان أو جهاز الموبايل، وتطور تقنيته. فالصورة وسيلة مخادعة إعلاميا من الممكن خداع البصر بما توفره من تواؤم وتوليف بين مجموعة من الصور، بما يحقق البلبلة في القناعة.
هذه السياقات الإعلامية المتطورة هي بالتأكيد تخدم برنامج المحتل، أو صاحب السلطة في قلب الحقائق وصياغتها بالطريقة التي تتناسب مع النوايا المختلفة، مستخدمة بذلك الصياغة اللغوية التي هي من أخطر الوسائل في التضليل. فمثلاً ؛ بدلاً من ان يقول "طائرات التحالف تـُلقي القنابل على العراقيين" تستبدلها بـ "قامت بطلعة" وقتلها المدنيين بـ "خسائر جانبية". وهذا ينسحب على عمليات التخريب التي جرت على المتاحف والمواقع والآثارية الأخرى ودار المخطوطات المقصود منها محو الذاكرة الجمعية والفردية، بمحو المكان والوثائق. ولكن مثل هذا يعاكس تماماً مجرى التاريخ وعمل الشعوب في تدوين تاريخها والحفاظ على محتوى ذاكرتها. ففي محاورة قامت بين أرسطو والاسكندر المقدوني، بشأن هدفه من تحطيم حضارة بابل عبر تحطيم شواهد حضارتها وقتل الناس جميعاً. سأله أرسطو: ما الذي تفعله بالهواء والتربة؟! إذا انتهى هؤلاء فسيأتي غيرهم بالطريقة نفسها؟ ويقصد هنا الذاكرة الجمعية التي تستعيد جينياً ما خربه ومحا أثره المحتل والغازي، لأن فعله مخالف لمنطق الحياة وقوانينها. وقد ذكر المؤلف "دوشي" معلومات بشأن الذاكرة المتمثلة بالآثار وكيف أعدت خراط لها من الدقة التي تمثل قول وفعل الإسكندر في محو المكان، على اعتبار أن المكان بما يحمله من رموز حضارية؛ هو أخطر من سلاح التدمير الشامل كما ادعته أمريكا وهي تبحث عن مسوغ لغزو العراق. وهذا ما ذكره العقيد "ماثيو بوغدانوس" وهو محام وباحث في الحضارات القديمة، كذلك ما ذكره كل من "د. هنري رايت ود. ستون" اللذين زارا مدينة الناصرية لفحص الضرر الذي لحق بالآثار. وبعد عودتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية كتب رايت الحقيقة: إنني خلال "48" عاماً من تجربتي كآثاري، لم أشعر بالغضب والأسى، مثلما شعرت وأنا أشاهد الإساءة والضرر الكبير الذي لحق بالحضارة العراقية، وخاصة وأن ما فـُقد لا يشكـّل تراث أمة بعينها، وإنما تراث الإنسانية جمعاء.
وخصص الباحث فصولاً عن اللغة وتأثيرها في الإعلام. فبعد أن يستعرض ما آلت إليه اللغة عند المتخصصين والمدارس والجماعات أكد على اقتران ظهور النظريات النقدية مع رموز هيمنة اللغة على النظرية الاجتماعية المعاصرة، التي مرت بانعطافه لغوية .إذ أفرد مفكرون كبار مثل "ميشال فوكو وهابرماس" للغة موقعاً مركزياً في انتاج وإعادة إنتاج المجتمع وفي صياغات علاقات السلطة. فالسلطة في نظر فوكو تعمل ضمن شبكة سياقات ثقافية واجتماعية وسياسية ومؤسساتية، بما يوفر القناعة والإقناع. وهنا تعمل الإيديولوجيا في تنفيذ مشاريعها التي تعتمد حقيقة ذكرها فوكو في تشكـّل الفرد والمجتمع عن طريق الممارسة، وهي بدورها تشكـّل البنية الجديدة التي عليها الواقع بكل تشكلاته.
من كل ما تقدم وغيره مما ورد في الكتاب القيّم هذا نتوصل إلى مجموعة حقائق طرحها المؤلف عبر مجموعة من الأمثلة والعيّنات الميدانية، أو تلك ألتي استقاها من مصادرها التي لاحقها عبر الصحف والدوريات في اللغات الأجنبية، مما وضعه أمام حقائق وسّعت الصورة التي عليها مجمل حركة الإعلام، وما يرافقه من آليات عديدة ومتشعبة، تستهدف عقل الإنسان، سواء في البلدان التي تعاني من أنظمتها الشمولية، أو التي تعاني من الغزو والاحتلام بما يتركه من آثار مدمرة للبنى جميعها.