ادب وفن

الحاج كويلو.. اعترافات وتداعيات / جاسم عاصي

حين قابل الصحفي هوشنر الكاتب إرنست همنغواي طالباً منه إجراء لقاء معه: رفض وقتها همنغواي هذا الطلب. وهذا أمر معروف عن الكاتب، كونه لا يستسيغ مثل تلك اللقاءات الصحفية التي تشوش ذهنه وتربك مشروعه الأدبي.
لكن هوشنر ألح عليه مبينا أن هذا اللقاء سوف يُحدد مستقبله الصحفي، وهو صحفي مبتدئ. لحظتها تحرك الحس الإنساني عند همنغواي وقبل العرض. وهي لحظة كانت البداية لعلاقة طويلة، بل رفقة دائمة بين الصحفي والكاتب المشهور، مما أنتج بالتالي كتاب "بابا همنغواي" الشهير الذي أثار حراكا طويلا بين مثقفي العالم، لما يحتويه من دقة أنتجتها الرفقة الجميلة.
سقت هذا المثل لأدخل إلى فعاليات ثقافية تنتجها اللقاءات المبرمجة، ذات الهدف الثقافي الإبداعي. وقد قلّت مثل هذه الكتب التي هي بمثابة سيرة ذاتية للكاتب. ولعل قبل هوشنر، أقدم أحدهم على مثل هذه الفعالية الثقافية. غير أن حدود معرفتنا كانت مع هوشنر بالذات. فقد قرانا كتابا حرره الروائي روبرت ليتل مع شمعون بيريز وقدم له الباحث ناجح المعموري وهو يحتوي معلومات تاريخية عميقة، وفيه سيرة سياسية واجتماعية وقومية ودينية من وجهة نظر بيريز، تُفيد في البحث والدراسة. كما وقرأنا كتابا مثل هذا للكاتب زياد أبو لبن. احتوى على مجموعة لقاءات مع مجموعة من أدباء عرب، لا يقل أهمية عن سابقه على الرغم من كونه اعتمد تعدد مَنْ التقى بهم أبو لبن. ولعل القائمة غير قصيرة المدى في مثل هذه الفعاليات، كان آخر ما اطلعنا عليه كتاب خوان أرياس والمترجم من قبل الأستاذ خضير اللامي. ويحتوي على لقاءات متواصلة مع الكاتب البرازيلي باولو كويلو وهو صاحب الرواية الشهيرة ( الخيميائي )مترجمة ترجمة أخرى في فرنسا تحت عنوان مغامرات شاب.
احتوى الكتاب على أحد عشر فصلا ، تناول فيها المحرر أهم الأفكار والبني التي أسست لمشروع الحاج كويلو، ابتداء من الجانب الأخلاقي للكاتب، إلى القيّم التي ترشحها حياته مع الأدب والحياة، لا سيّما ـ وكما بدا من سياق الكتاب ـ أو السيرة الصحفية، أن الكاتب قد حفلت حياته بمفارقات ومطبات عمد الدخول إلى عالمها عنوة. فإذا كان همنغواي قد دخل الحرب وركب مركب البحر، إنما ليُغني نتاجه الإبداعي، الذي ارتبط بالمعاش وليس بالمتصور، فهو القائل.. الحقيقي هو نتاج المعرفة والتجربة.. لذا فحياة كويلو الحافلة بالتقلبات ـ خاصة الدينية منها ـ قد أثرت حياته الأدبية، ونعني بها كتاباته. وفي مداخلتنا هذا سنقف على أهم الموضوعات التي شغلت الكاتب في حياته الأدبية، وكم يراها إرياس حصرا . لعل الجانب الأخلاقي كان أهم ما يشغل الكاتب، ويعني به جانب أن تكون لك فلسفة في الحياة، وهي فلسفة متشعبة لا يحده رواق ثابت ومُحدِد، وإنما أن يتحلى الكاتب والمثقف بقيّم تُحدد مسار حياته، لا أن يكون نهبا للمتغيّر. أن تكون عنصرا فاعلا يعني أن تكون لك فلسفتك الخاصة التي تُحدد رؤاك للعالم، وبدونها ستكون نهباً للمتغير الذي يُسيئ إلى نتاجك الإبداعي القيّم، هذا، يشكّل الصيرورة التي عليها الكاتب. وهذا يتحدد بمقولة له.. أرني أعمالك، أريك إيمانك. . ففي سؤال للمحرر حول كيف يرى كويلو نفسه، يذكر.. أصفه مثل حاج يُسافر إلى منعطف لا نهاية له، مثل حاج يعرف أين يوجد الكنز الذي تقوده نذر الشؤم، مثل شخصية الراعي في رواية الخيميائي ويعني به سانتياغو. ويستطرد في ذلك بقوله.. إنني أحافظ على البحث دائما .. وبهذا يقتعر من كبار الكتاب الذين كان ديدنهم البحث أمثال "دستويفسكي، همنغواي، جوجول، فرنسوا مورياك، سارتر، نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، عبد الخالق الركابي" وغيرهم. وفي علاقتهم معرفيا بالسحر الأسود كما عبّر عنه، فإنه جانب مهم وخطير في حياته، لا سيّما انضمامه إلى منظمة تُشتهر بهذه الرؤى والمفاهيم والتصورات. وقد قادته إلى مثل هذه الممارسات، قوة إيمانه بالتجريب في الحياة التي ربما تؤدي كحاصل التحصيل إلى انهيار ذاتي، غير أن الحاج كويلو كان متمكنا من السيطرة على الخروج بنتائج جيدة وهو الكاثوليكي والرافض للدين والمتعلق بالرب الذي يعتبره صيرورة الوجود. هذه التجربة التي حفلت بالممارسة طقسا ومعرفة وممارسة ومخاضا، قادته إلى أن يقول.. السحر هو أداة، والساحر هو منتج لها. السحر حيّز مادي، مثل المطرقة والمجرفة وأية وسيلة أخرى.
أما كيف يستخدم هذه الأشياء فهذه مهمة الساحر. وفي مجال الكتابة التي تنطوي عوالم الكتّاب فيها على تباين ما بين فوضى المكان ونسقه. ولكل من هؤلاء الكتّاب تبريره الذي يُشكّل قناعاته، فكويلو له نمطه الذي حفل بقدرته على تنظيم الأشياء من حوله على الرغم من عدم استقراره في مكان معين، وكثرة تنقله، غير أنه يؤثث مكانه , يسيطر على زمنه من هذا الباب. فهو يحب الفوضى في الأشياء، لكن في الكتابة يكون النظام يُشكّل ضرورة. أو كما يقول.. النظام هو شيء ايجابي تعلمته من دراستي في المدرسة اليسوعية، وكان جانباً سلبياً في اعتبارات أخر. ومن وجهة نظري عموماً، حينما أجلس أمام الحاسوب استعداداً للكتابة فأن ثمة كسلاً مزعجاً ينتابني، عندما أحادث نفسي قائلاً : بيد أنني أنجزت كتباً أخر، وأنا كاتب مؤسس ما حاجتي للكتابة الآن. .؟ لأنه في نهاية المطاف يتخلص من هواجسه وينتصر للإبداع والعطاء. وهو قلق مشروع ينتاب الكتّاب دائما . وباولو لا تُشكّل لديه الهوية شيئاً إذا ما أخذت بمبدأ الإبداع، فالهوية هنا تنتمي إلى الإنسانية. لذلك لا يفرّق بين كونه برازيليا يكتب عن اسبانيا. ولو حدث العكس فهذا لا يُغيّر من الأمر شيئاً. فهوية الكاتب، أن يضع في تصوره انه بإزاء العالم الكبير الذي هو جزء منه، فعطاؤه هو هويته الحقيقية التي بموجبها يمكن تقييم أعماله. فكويلو لا يمتلك عقدة النشأة وموطن الكتابة ولا النشأة بقدر ما ينظر عبر منظور واسع. وقد ساقته التجربة إلى أن ينزع عن كاهله ما ثَقُلَ جرّاء المناطقية والقومية البغيضة، متحلياً بالحس الإنساني فقط، الذي قاده إلى الانجاز والشهرة. وهذا ما تُشير إليه مبيعات كتبه الروائية.
وفي هذا المجال وصف للمحرر رؤيته وهو يراقب عيد رأأس السنة على ساحل كوباكابانا في ريودي جانيرو من مشهد مليون كاثوليكي يهبطون إلى شاطئ البحر، يرتدون الملابس البيض، ويرمون الزهور في الماء. وهو نوع من طقوس افريقية. توجد هنا كل المعتقدات والمؤمنون لا يعرفون كيف يتوافقون من تلك الأديان والأطياف من دون المساس بمشاعرهم، ويدرك الكهنة كل هذا جيدا . ويلخص رؤيته من خلال ذلك في كونه.. برازيلياً يندفع إلى التفاعل مع التأثيرات الكبيرة على أعماله الإبداعية، لأن الناس حساسون جداً، ولا يخشون التجارب مع الأشياء الروحية والسحرية، إنهم إنسانيون بشكل لا يصدق، ومفتونون بكل ما هو غامض.
ولعل أفكار الحاج كويلو كثيرة في هذا الكتاب الحواري، وتصوراته بلا ضفاف، ولابد من اختيار ما يقفل كتابتنا عنه، وهو تصوره مسيرة الكتابة التي يعتبرها كالقافلة التي تسير إلى الأمام، معبرا في ذلك جوابا على سؤال الفن هل هو رحلة أصلا ؟ يُجيب: إنك تضفي استعارة فن وأنا أضفي استعارة قافلة عليه. وأنا لا أدري من أين جاءت وإلى أين تذهب هذه القافلة؟ وأثناء السفر يولد أطفال في القافلة، ويصغون إلى حكايات جدّاتهم، ويكبر الأطفال ويمسون أجدادا ويحكون جزءاً من رحلتهم ثم يغادرون الحياة. وهذا الوصف إنما عني الديالكتيك الذي عليه الحياة والوجود برمته، فليس الأزل هو المتحقق، بل البقاء للأثر. ولعل نظرتنا إلى ما تركه المبدعون يُحقق مثل هذه الرؤية الحقيقة لديالكتيك الوجود الذي نحن ككتّاب جزء منه ومعنيون بتحقيق صيرورته، وقد سبقنا الحاج باولو كويلو كما سبقنا المبدعون من قله. فعلا أيها الحاج كنت مخلصاً لإرسال تصوراتك عن العالم الذي نحن جزء منه