ادب وفن

حكاية وردة!.... / مزهر بن مدلول

1
في الساعة التي تتشابك فيها اولى خيوط الفجر بآخر خيوط الظلام، ينهض خالد من فراشه مغمورا بالنشاط، يرتدي ملابسه ويعتني بهندامه، ثم يربط حزام الرصاص ويحمل بندقيته ويتسلق السفح حتى يغيب عن العين، هكذا، دائما وفي كل يوم، كأنه مرتبط بموعد!.
سلوكه هذا لا يثير اهتمام احد سواي، فأنا الوحيد الذي صدّقت تعاسته من اعماقي، ويمكن القول اني صدّقت انّ افكاره هي افكاري!، لذلك عندما تشاجر مع الآمر العسكري حول موعد الحراسة، قررت ان اعرف نواياه، ولكن من دون تطفل مزعج ومن دون تخف وراء الاشجار!.
قبل العشاء، اعلن آمر الفصيل قائمة الحراسات الليلية، وكانت نوبة حراسة خالد بين الخامسة والسادسة فجرا، وهذا هو موعد سفره اليومي الى قلب الحياة النابض!، فأمتعض امتعاضا شديدا وطلب تغيير الموعد، الاّ انّ المسؤول رفض طلبه، فتدخلت في اللحظة الاخيرة قبل ان ينفلت غضبه لأنوب عنه في حراسته!.
كانت لذلك الفجر رائحة لم آلفها من قبل، شعرت وكأني كائن جديد، كأني امشي في تلك الازقة الضيقة التي يختلط فيها الريش و(الفوح) والقشور بمياه الغسيل.. اولئك الشباب الذين لا ينزلون من السطوح، يقدمون افضل ما يمكن من عروض الحمام المسرحية!.. خالتي تجلس على دكة الباب وتقابلها ام محمود يندبن حظهن ويذرفن الدموع من دون سبب!، (الدموع تجلي العيون وتزيل الندوب من القلوب)!، كل ذلك خطر ببالي الان، حتى اني نسيت خالدا ولم اعرف هل خرج كعادته هذا الصباح ام لا، لكني رأيته جالسا اثناء وجبة الفطور....
على وجهه ارتسمت معالم قوية تنطق بفصاحة بأنه مشغول البال اكثر مما هو حزين، فاستدرجت مشاعره بأن نخرج في رحلة استكشاف حول الجبل الذي نقيم فيه، خاصة ان الطبيعة ارتدت الوان الربيع وجسد الشمس الدافئة يملأ السماء، فغمزني في اشارة لقبول دعوتي..
وهكذا رحنا نهبط الوديان ونقفز الصخور ومرات نتشقلب فوق الاحراش، كنّا نتحدث باقتضاب شديد، فانا اخاف من مزاجه المندفع وهو يخشى واقعيتي وطبعي الهادئ، ولكن رغم ذلك، ففي كثير من الاحيان تسقط الرسميات بيننا كما يسقط الجدار بين الواقع والوهم!،
بعد ان درنا حول الجبل لمدة تجاوزت الساعة، عدنا من الجهة الاخرى، ولكي اكون اكثر دقة، انا الذي حاولت متعمدا ان اعود به من الجهة الخلفية للتلة التي يتسلقها في كل فجر، وقبل ان نصل الى المقر بدقائق قليلة وقرب شجرة محاطة بالنباتات العشبية، جلس خالد، كان مبتسما كأنه عاد الى اهله!، وكانت نظراته مركزة على وردة حمراء نبتت اسفل الشجرة!، ولفت انتباهي انّ في المكان تناثرت اعقاب سكائر حديثة العهد!، لكنه لم يتركني تائها بتخميناتي، فقال:
- نعم.. هذا هو المكان الذي تنفتح فيه نوافذ قلبي.. وهذه هي النسمات التي استنشق منها ذكرى ايامي السعيدة التي لن تعود!..
وراح خالد يفرج عن عواطفه بفيض من التنهدات، يحكي عن لقاءه الاخير مع حبيبته لمياء.. عن اصابعه التي كانت ترتجف عندما قدّم لها الوردة الحمراء!....
......................
2
- كان ايضا جواز السفر يرتعش بين اصابعي............... من ايّ بلد انتَ؟.. انا من العراق.. لا، من البحرين.. لا، من بلد الغربان!.. من اين انا!؟، نسيت، وظلّ جواز السفر يرتعش بين اصابعي!..
اعرفُ انيّ طفلٌ غر.. لا، صبيٌ ساذج.. تأتأة لساني تفضحني.............. ما اسمك؟.. خالد.. لا، حسين.. لا، حركي.. وهمي.. من انا!؟، نسيت، وظلّت تأتأتي تفضحني..
قلت لأمي سأعود غدا، فأنهمرت دموع ثقيلة على عظام وجهها.............. كان قلبي متعبا ومضطربا، والوردة الحمراء تطوف حولها الفراشات، ووجه لمياء يسيل فوقه النور والندى!......
كانت تعبيرات خالد صادقة، طبيعية، عميقة الحس، خالية من الاسرار، وكنتُ في حالة من أفتتانٍ تأملي، تعتريني هزّة من آنٍ لآخر، فهذه الشخصية لم تكن باهتة مملة، وانما تشبه مغارة مليئة بالكهوف القديمة!، كلما وصلت الى واحدة، تقودك الدهشة لتبحث عن الاخرى!.....
- انا مدين لك يا سمير، فأنت الوحيد الذي يستطيع ان يسمع نداءات روحي ويجاري هذياناتي، انها رحلتي التي يتسع فيها الفراغ ويتيه فيها النظر، وهذه الوردة التي تتجلى فيها صورة لمياء هي ستاري الذي يحميني من هجمات الجبل الطائشة!..
- لك الحق في عشقها يا خالد، انها تجلب الاحاسيس النشيطة الى داخل الروح، ومنظرها في هذا المكان السحري يدعو الانسان الى فحص وجوده والترجل من اوهامه!، لكنها ستذبل من العطش قريبا وحتما!.. فقل لي يا خالد.. اما حان الوقت لكي تنسى، الا يحق للمياء ان تتحرر من قيود قلبك لتجد سبيلها الى الحياة، لا سيما ونحن في نظر اهلنا، اصبحنا في عداد الاموات!؟............
وفي ما يشبه الغفوة، اصاب خالد قلق غامض.. ضيق في الصدر.. سعال ودخان.. ثم التفت نحوي وقال: في ذلك الصباح، وشعاع الشمس يسقط على خدها الجميل، بكت لمياء، رمقتني بنظرة كما لو اني مريض ومشرف على الموت!، حدّقتْ ملياً في وجهي قبل ان تغادرني متعثرة بخطواتها، فأيقنت، بأني جزء من العالم الاسفل الذي لا قيمة له!...........