ادب وفن

تـــوأم البيئـة : بين أهـوار الجنوب وممــرات فينيسيا المائيــة / جاسم عاصي


حضارتان على وجه المرآة
ربما هي صدفة أن يرى "نرسيس" شكل وجهه على سطح ماء البحيرة، فاستغرب، لأنه لم يشاهده من قبل. هكذا تقول الأسطورة، وتقول الصورة التي هي مرآة نرى وجودنا فيها، فيتولد الآخر من ذاتنا. ولكن ليس صدفة أن يلتقي الفنان الايطالي "أنطونيوا سانتورو" والفنان إحسان الجيزاني في معرض مشترك يقام في مدينة "شتوتغارت" الألمانية، وفي واحدة من أهم صالاتها وهي صالة "بيشهورف" إن هذا الفعالية المشتركة متوافقة مع عمق الحضارتين الايطالية والرافدينية من جهة، ولأن كليهما شـُيـّدتا على سطح الماء. فما يحرثه "أنطونيوا" في عمق الماء وسطحه مقتنصاً ما يبهر الرائي في مدينة فينيسيا، فإن الفنان الجيزاني خضع لخزينه الفني الذي رصدت له عين الكاميرا أبهى المشاهد من أهوار جنوب العراق. لقد كرّس الفنان فعالياته الفنية إلى ما يهمه من أفكار وخصائص معرفية، استطاع من خلالها المساهمة في تصعيد المعرفي من حضارتنا، مادياً وثقافياً.
الساكن فوق الماء
لذا فالمبدأ الذي أُقيم على أساسه المعرض، هو رصد صورة الإنسان الذي يعيش فوق الماء. وهذا الرصد يعطي نتائج مفارقة، بين صورة مدينة "فينيسيا" المائية التي عمل الإنسان على تشييدها وإدامتها، بينما نقف على البؤس الذي خصت به الحكومات المتعاقبة على العراق في إهمال البيئة المائية هذه. وعلى حد قول الجيزاني وهو يتحدث عن هذا المعرض ما معناه.. إني أسأل الحكومة العراقية والمسؤولين السياسيين في البلد، لِمَ لا يعيروا اهتماماً لمثل هذا المرفق السياحي والحضاري.. وقد ذكر "أنطونيوا" أيضاً مثل هذا الرأي والتساؤل. لكننا نجيب الاثنين، بأن الاهمال مستمر، وأهل الاهوار يشكون قلة أبسط مستلزمات الحياة، بل نقول ؛ لقد جُففت الأهوار عمداً ولنفس السبب الذي جُففت فيه في عهد سومر، لكن في المرة الأولى أعيدت اليها الحياة. أما في المرة الثانية فما زالت تبحث عمن يعيد إليها الحياة مجدداً، وحسب "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ". ولكي نزين تعليقنا على ما ذكراه ، مستعينين بما كتبه العالم الآثاري صموئيل نوح كَريمر في كتابه "السومريون" ما مفاده.. لوشاء القدر وانزاحت المياه عن المسطحات المائية في جنوب العراق، لظهرت كنوز الكون تحتها.
لذا فيمكننا القول إنها مسألة حضارية بحتة أولاً، وفكرية ثانياً، ولها توأم القصد في ما يخص زقورة أور وتزوير التاريخ وافتعال بيت النبي إبراهيم منذ حين من الدهر.
ساكن الأهوار
إن الساكن في الأهوار يُدرك هذه الحقيقة، حين تنحسر المياه بتأثير المد والجزر، إذ تظهر آثار لأبنية هي أطلال لمدن وحضارة سومرية اندرست، أو كانت قائمة على سطح الماء تماثلاً مع فينيسيا، هذه الحضارة أنتجت نصوصا فخمة، وبنى أساسية لإدارة الحياة وانتاج المعرفة. وحسبنا أن نتخذ من رؤية المصوّر وهو يختار اللقطة التي يجدها الأفضل، فإن ذلك مرتبط بهاجس خفي، تـُظهره قراءة الصورة من خلال العلامات التي تلتقطها عين الكاميرا، لابد من فك شفراتها. فلوحات "انطونيوا" رصدت مشاهد واسعة وفريدة في مدينته. كانت تتوازن مع رؤية الجيزاني. ونفترض هنا أن الفنان "انطونيوا" كان قد تشبّع كمشاهد من لوحات الأهوار، وازداد معرفة بطبيعتها وطبيعة الحياة فيها. لذا فقد جاءت بعض لوحاته متناظرة مع ما هو متحقق في لوحات الجيزاني. وعلى سبيل المثال الصور التي رصدت الإنسان وهو يقل زورقاً في مياه فينيسيا، مقابل الإنسان وهو يجدف بالمردي في أهوار الجنوب. كذلك بين الطفولة في المدينة المائية تلك، وما يعانيه الأطفال في الأهوار، بأزيائهم المختلفة الألوان، صبية وصبيات، شباب وشابات، صيادوا سمك وباحثون عن الرزق الحلال. والمرأة في الأهوار قد حملت صفات المرأة السومرية في حبها ومشاركتها في العمل الذي يقوم به الرجل، فهي تدفع بالمردي الماء، فينساب الزورق المليء بـ "البوه" أو حزم البردي، قاطعة الطرق الملتوية والمساحات الممتدة من الماء. تعمل في حقل العمل، وتدير أعمال البيت، وتحظى باحترام الرجل، كل هذا من إرث الأجداد ومن تشييدهم البنى الأخلاقية والاجتماعية، فالحضارة السومرية ليست حضارة أصنام وأوثان، بل أنها حضارة إنسانية.
هذه الثيمات وغيرها كانت المادة المقارنة من خلال خصائص المكان ووجود الإنسان. وحسبنا أن ما يُظهره انحسار الماء من آثار لعمارة كانت قائمة، تتطلب البحث عن عالمها الأسفل، فهو بالتأكيد زاخر باللقى والكنوز الإثارية التي أثبتت التنقيبات صحة ما نقول، حيث كشفت عن حضارة عظيمة أفادت البشرية ونظمت الحياة في الزمان والمكان آنذاك.
أسطورة كوت حفيظ الأزلية
وما أسطورة "كوت حفيظ" إلا دليل على حراك عقل الإنسان الجنوبي في عمق الأهوار، الذي يخلق ويبني على علامات يراها بأم عينيه في مجموعة الأساطير المروية بجلسات الليالي المقمرة. فسكان الأهوار ما زالوا يشيدون رؤاهم حول "كوت حفيظ" فمنهم من قال أنه كنز الجنوب القصّي عند كل من قصده. والآخرون عدّوه سحراً شيدوا عليه حكاياتهم الخرافية ذات المعنى العام، لكن أنستاس الكرملي في مجلة "لغة العرب" قال: إنه وعلى وفق العقل الجمعي حيوان ذو أذرع متعددة، وقيل كنز ليس له مثيل. وفعلاً هذا، وعلى رواية الدكتور عبد الأمير الحمداني الذي وصل، ولم يفتك به كوت حفيظ، وبعد أن رأى روى: وقفت على أرضه، إنه موقع آثاري وجدت على سطح أرضه قطعا من الخزف واللقى وكِسَر من المزججات، وفيه مادة الفسفور اللامع في الظلمة والمعتم في الضوء. هذا جزء من أسطورة الجنوب وإيشاناتها يا سيد أنطونيوا وصديقي الجيزاني فكيف إذا اكتشفتما ورأيتما المضمر أو المسكوت عنه تحت غمر الماء!؟
سؤال المعرض المشترك
يبقى أن نقول إن إقامة معرض كهذا، ما هو إلا الوجه والكتاب المقارن وحسب "انطونيوا" بين حضارتين متقاربتين مهما بدا الاختلاف في خصائصهما الذاتية. فكلاهما مشيّد فوق الماء، وهي فكرة أقل ما نقول عنها؛ إنها أسطورة متحققة في الواقع، فكلاهما يؤكد فعالية الإنسان وخلقه وابتكاره أسس الحياة على الماء. لكن الفارق هو ما يفعله الإنسان ببيئته. ولعل ما نراه وما رأيناه في المعرض صورة كبيرة الرقي لـ "فينيسيا" البندقية التي كنا نقرأ عنها في بطون الكتب المدرسية وكتب الرحّالة. وبمثلها تناسينا نحن العراقيون مدينتنا التي فوق الماء والممتدة مئات الكيلومترات من الوسط إلى أقصى الجنوب. كلنا عشنا يا انطونيوا في الجنوب القصيّ طلباً للرزق أو النفي الوظيفي، فما كان إلا أن استقبلنا ما كان ينتظرنا هناك من سحر سومر وطيبة أهلها. سحر عيون نساء سومر، وقوة رجالها الأشداء الأوفياء. قرأنا سحر الماء والأشنات والعكّيد ونباتات الهور من قصب وبردي، وشباك صيدها المنتشرة في عمق المياه الشاسعة، ثروة مشاعة. أدركنا حركة الخنازير، وكيف نحتاط منها كي لا تباغتنا صدفة. ألفنا انغمار أجساد الجواميس الضخمة ذات الجلود السود القاتمة، وهي تنغمر في الماء، بينما تبدو أجسادها كالمرايا الصقيلة، فلحظة خروجها من الماء إلى اليابسة، ينهمر من جسدها الماء، وتبقى تقطر وهي تسير بإباء وشمم. شاهدنا عن قرب كيف يهم الصياد بفالته بعد أن يرصد حركة السمكة الكبيرة بين عيدان البردي متخذة طريقها المفتوح، مبعدة عيدان البردي النابتة في طريقها، إذ يرفع الصياد فالته عن عمق الماء بعد أن يرميها بقوة مصوبا ضربته المركزة إلى السمكة التي تلوذ بالزوايا المائية، فنشاهد بعد ذلك السمكة الكبيرة لامعة الجسد، بصدَفِها الأصفر وعينيها الكبيرتين كعيون نسائهم، ترفرف برأسها وذنبها، محاول التخلص من "فالة" الصياد التي انغرست في ظهرها أو بطنها. منظر لم يشاهده الفنان أنطونيوا، وإلا لشحذ خياله أكثر، ولأقام عمارة كلامه، وطرح بلاغة صورته أكثر مما طرحها في المعرض.
أنطونيو و الجيزاني
هو رئيس نادي 66 في مدينة "باك بانشات" الألمانية. حاصل على جوائز عالمية في التصوير ومثله الفنان الجيزاني. فقد بدا أنطونيو متحمساً لمشروعه، حيث ذكر: لوشاء القدر وعادت المياه إلى مساحات الجنوب لقمت بزيارة الأهوار كي أنتج صوراً حية عن تلك البيئة، وأقيم معارض في مدن العراق، أؤكد من خلالها عمق تلك الحضارة وتأثيراتها على البشرية. وأقول بمودة: لرأيت بأم عينك مديات الحرية التي عليها قاطني الأهوار والكيفية التي يتعاملون بها مع الحياة، فحريتهم من حرية الكائنات المائية، نقية لم تلوثها شوائب الزمن. وإن إقامة معرض مشترك بين بيئتين ــ وكما ذكرت ــ هو أمر صعب ومعقد.. هذا صحيح، ولكن الفنان والماسك بالمعرفة المُغيّرة لا يأخذه المستحيل، فمشروعكما على صعوبته وتعقيده، لكنه حقق حواراً أدركه كل من زار المعرض، حيث كانت لهم آراء متباينة وليست متضاربة، وكما ذكر الجيزاني فمنهم من صدمته الصور بحقائقها، والقسم الآخر اتخذها وثائق لمعرفة خصائص تلك البيئة التي تخيلها الراؤون جنة أقامها الإنسان على الماء، كما هي فينيسيا، والفرق واضح في تدخل التقنية على ما شـُيّد من عمارة، وما بُذل وما زالت تبذله الحكومات المتعاقبة على ترميمها وإدامتها، وتشييد المشاريع التي تسبب بقاءها. وبذلك أسقطت النظرية القائلة؛ إن فينيسيا ستنهار بعد خمسين سنة لاحقة. فكيف بأهوار الجنوب التي لم تر بصيص نور لإصلاحها، أو بادرة للبدء بوضعها موضع الحضارات العالمية، لتكون مرفقاً سياحياً وانتاجياً، بما تمتلكه من ثروات طبيعية. يقول أنطونيوا عن فينسيا.. لو أهملت المدينة، لشكل اهمالها خسارة كبير لا تعوض، فهي تشكل الجزء الأكبر في حضارة إيطاليا. والسؤال ماذا تشكل أرض سومر ومياهها في تاريخ البشرية؟ ألا يجوز لها البقاء والاحياء، وهي الحضارة الأولى التي ابتكرت أبجدية الكتابة، وفتحت للإنسان صفحات يدوّن عليها تاريخه، بعد أن كان يستعين بجدران الكهوف. فهو القائل غير الرائي سوى بالوسيط ــ الصورة ــ ؛ إعادة الحياة إلى الأهوار، يعني إعادة الحضارة. ونضيف.. الحضارة السومرية وطرق ابتكارها أساليب العيش بأمان واستقرار ووداعة كوداعة الطيور حين تهاجر أو تعود قاطعة آلاف الكيلومترات، بحراً وبرا، حتى تستقر على سطح مياه سومر، لائذة بين ثنايا برديه المتعامد. لقد تبنت الفنانة "هييت" مديرة قاعة "بشهورف" الألمانية هذا المعرض، والسابق له للوحات الجيزاني خاصة معرضه المقارن تحت عنوان "صور عن المدينة" لعقد صلة بين مدينة بغداد وفينيسبا. حيث ذكر أنطونيوا وهو بصدد عكس انطباعاته عن لوحات الجيزاني؛ إنها تعكس الألم الذي يعانيه الإنسان في الأهوار.