ادب وفن

آرثر رامبو.. دعاه الشيطان فدخل الجحيم بإرادته / جاسم محمد حسن

تقول اخت الشاعر، في مذكراتها عن رامبو:" كنت أسمع صراخه في غرفته الى حد العويل والبكاء كأنه يخاطب اشباحا من حوله، كان صراعه رهيبا وهو يكتب قصائده كأنه يحادث الشيطان، وكان الشيطان يملي قصائده عليه عند ما يكتب الشعر، وحين تأخذ يده الرحمة ترى قصائده مفعمة بالانسانية، يقول في احدى قصائده:
ان غناء الملائكة الحكيم - يوقع في سفينه الإنقاذ
ان الحب الالهي.. صورتان للحب - صوت من حب الأرض وصوت من التضحية
ولدت الحكمة في نفسي.. سوف أبارك الحياة - سوف أحب اخوتي..
لم يكن ذلك في عهد الطفولة
ان الله يهبني القوة .. فله الحمد".
أما في قصائده فصل الجحيم يقول:-
ايها الكهنة - ايها المعلمون.. ان تخطئوا تسليمي للعدالة
لم أكن قط من هذا الشعب...
منذ ان كان يافعا كانت تأخذه والدته واخوته الى الكنيسة لأجراء القداس، كانت تحرص وهم يسيرون الى الكنيسة وهم يرتدون زيا خاص بهم أن يسيروا بشكل رتيب كأنهم يسيرون في جنازة، وكان على هؤلاء ان يظهروا الولاء والطاعة للكاهن والام تتقدمهم.
منذ ذلك الحين نشأت في اعماقه جذوة التمرد على كل شيء، والسبب الاكبر تشدد والدته في جعلهم متدينين، مما دفعه إلى الهرب الى باريس وترك مدينته لزمن طويل.
حقق بهربه من مدينته جزءا من حلمه محلقا بجناح الحرية، راسيا على ضفاف عالمه الساحر، رافضا كل ما يثقل كاهله من تقاليد علمتها له امه وبيئته الريفية، ومحققا لذاته كل ما تريد، تشرد في الطرقات، معاقرة الخمرة، التجوال طول النهار في الحانات الرخيصة في باريس، وهو يتوسد الارصفة، وكان يقضي الليل من دون غطاء او مدفأة، يقذف كل طاقته في كتابة الشعر الحديث، وكان شعره ينزف تحررا وتمردا وثورة وعبثا.
الفتي الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، حالما يبحر نحو شطأن ذاته حاملا حلمه ورؤاه بأن يكون مثاليا، تحكمه قوانينه الخاصة ورغباته الشاذة التي تقاطعت كليا مع بيئته ونشأته وافكار والدته المتدينة وابناء قريته، كارها القساوسة وتعاليم الكنيسة وعدهم من الطبقات البرجوازية التي تنعم بالحياة وتستعبد الشعب، شأنهم شأن اصحاب المصانع والاقطاعيين، كان شيطانه يتبعه اينما حل او استقر، يملي عليه ما يكتبه بعيدا عن عالم المدينة، كانت والدته تقول عنه "رامبو كان ولدا ضالا متمردا".
بينما يقول رامبو "انه شيطاني الذي تلبس بي ارثر رامبو".
حين ارسل صديقه الحميم "فريل" رسائله الى رامبو بعد خروجه من السجن، وبعد ان اصبح هذا الصديق متدينا ويؤمن بالكنيسة وكان اعتقاده ان تعاليم الدين تمنحه الراحة، كان يدعو رامبو إلى العودة الى الرب وعبادته، وقال في احدى رسائله وهو يدعو رامبو بقوله"لقد وجدت الطمأنينة والراحة وأنا أعبد الرب واسجد امام السيدة العذراء مبتهلا.. لم يجب رامبو على رسائله بل هز كتفيه.
يقول رامبو "لن اكون مستعبدا لأحد حذار ان تدفن نفسك في مكتب الوظيفة او منزل العائلة".
في احدى الليالي وجدته امرأه ثرية في حال رثة وهو ذلك الشاب اليا فع، رق قلبها له وكانت أرملة، أخذته إلى قصرها في باريس، وقد أحاطته بعنايتها ورعايتها، قصر مليء بالأثاث الفخم، لكن هذا المتشرد لم يشعر بالراحة قط وكان يشعر انه في سجن فخم حتى استجاب لنداء روحه تاركا القصر وهذه السيدة الجميلة معتقدا انه يمارس الرذيلة معها..
هرب يهرول في الحقول البعيدة وكتب قصيدة رائعة عن هذه التجربة.. ان الهرب يعني لرامبو هو التحرر من الافكار الشريرة التي تصارع عقلانيته، معتقدا ان التشرد والعبث يغسل كل خطاياه ورذائله، فاتحا ذراعيه ليعانق سعادته بنشوة ورغبة عارمة هذا الهرب من مواجهة واقع تعيس كليا لا يمت اليه بصلة وهو الذي لا يمكنه العيش في تناقضاته الانسانية والروحية ان السكينة والهدوء وانسيابية الاشياء تثير الاشمئزاز لديه، والملل والرتابة، وحين يخطئ يسامح نفسه ويتصالح مع ذاته للقيام بمغامرة اخرى، انه يبحث عن لحظات سعيدة لذاته حتى يقتنصها.
عندما ينظر الى الغيوم يعتقد انها ستمطر مؤذنة بتحقيق امنيات الشعوب المقهورة والبائسة ويمتلئ كيانه بالامل وتشده هذه الاحاسيس الى الحياة، زلزال يحطم كل الاعراف والقوانين، وترى مره اخرى في احدى قصائده "ديمقراطية" من الاشراقات، يندد بالمشاعر الوطنية أذ يقول:" ان الحماس القومي يغذي النزعة العسكرية العدوانية الاجرامية، ويعتقد ان السياسة الديمقراطية الاستعمارية التي تفشت في اوربا وفرنسا اوائل القرن التاسع عشر هي ارذل انواع الحقارة والانحطاط والقهر، لأنها تقوم على الاستعباد واستغلال وظلم الشعوب التي تقودها في الأخير الى الثورات والتمرد، وتقمع هذه الدول الثورات بالوحشية والقوة والبطش، وهم يسرقون ثروات هذه الدول المستعمرة في بلدان اوربا وفرنسا"، ويقول عنهم:"هولاء الغزاة الغاصبون مستعدون للمغامرة والرحيل الى اقصى الابعاد سعيا وراء الكسب والنهب.. انهم يتكالبون على الرفاهية والترف وهم لا يعبؤون بشيء ويسيرون فوق جثث الاخرين للوصول الى غاياتهم.
عندما ابحر الى الشرق، ذهب الى مجاهل افريقيا باحثا عن المال والإتجار، وعرفت هذه المرحلة من حياته بالعقلانية والاستقرار في حياه رامبو، انه بدأ يحقق حلمه في الاكتشاف ومعانقة الطبيعة واكتشاف ثرواتها وجمالها، ذهب الى أفريقيا تاجرا ومكتشفا لا مبشرا دينيا بالمسيحية كما انه التقى مئات المبشرين هناك لكنه لم يعبأ بهم، وقد اهملهم كليا وكان يتضايق حين يلتقي بهم.
في أيامه الاخيرة وحين المّ المرض به وقد ادمى قدميه واقعده مشلول الحركة ظل يدعو الله أن يدنو اجله ويريحه وهو يضع رأسه على صخرة "عجل موتي اريد الراحة من هذا الألم".
وتقول اخته ايزابيل التي رافقته حتى فارقت روحه جسده، لكن كتب البعض ان هذا الكلام مشكوك فيه تقول اخته "ان رامبو في ايامه الاخيرة عاد الى رشده ودخلت الرحمة من الله الى قلبه، تقول انها قالت لرامبو وهو على فراش الموت: هل أدعو الكاهن لتعلن التوبة؟، هز راسه موافقا، الا ان الباحثين في حياة رامبو وشعره يقولون ان اخته ادعت هذا القول حفاظا على ماء وجه العائلة المتدينة، ومثل هذه العائلة تخجل ان يكون لها ولد متمرد على تعاليم المسيحية، والباحثين يقولون انه مات ملحدا، اختار الجحيم بنفسه