ادب وفن

الهويـــة.. بين الوجود المتنوع والطرد / جاسم عاصي

الهويــة والتاريخ
التنوع واضح من التعدد. غير أن الطرد نعني به المحو. فالهوية للفرد والجماعات تتعرض للمحو عبر الأزمنة، لاسيّما حين تتسيّد هوية كبرى على حساب الهويات الأخرى. ولعلنا نستمد درسنا هذا من خلال البنية التاريخية. وهي حاملة لوجهة النظر الذاتية في تحليل بنية التاريخ. فمنذ قصة الخلق الأولى، حاولت "حوّاء" الممثلة للسلطة الأنثوية أن تفرض هويتها على وجود هوية أخرى "آدم" لكنها كانت تتخذ من سبيلها السلمي مجالاً لتغيير البنية الأخرى، عبر المعرفة، التي تكشف الذات الذكورية، مقابل وجود جسد الأنثى. فهي شجرة المعرفة متمثلة في الجنس، باعتباره حقل معرفة "نسائكم حرث لكم" من هذا كان فعلها يتميّز بإدامة النوع وتوسعه من بعد الهبوط إلى الأرض. ثم توالي أحداث التاريخ البشري، ابتداء من فعالية تحقيق الهوية الذاتية عند "قابيل وهابيل" وهي هويات تمثل النمط "الزراعي ــ الأنثوي" الذي يدعو إلى الكثرة والانتشار، مقابل "الرعوي" الذي يتميّز بنمط حياة غير ثابتة، لا تؤسس من خلال ترحالها بناء حياة ثابتة ثم حضارة. استمر هذا في التاريخ كما هو معروف، سواء من خلال الأفراد ممثلين لهوياتهم، أو الجماعات ذوي الهويات المتجانسة. حتى ملحمة "جلجامش" التي استندت إلى مجموعة ركائز تمثل هويات متصارعة، بالرغم من أنها تبدو ساكنة مستسلمة لمجرى الحياة المدنية في حاضر "اوروك" ففي الجانب الأول ثمة هوية للملك "جلجامش" كما هو معروف، سواء في تشكّله الألوهي والبشري، أو سلطته المطلقة والنافذة على رعايا أوروك. ثم سلطة المعبد المتمثلة بآلهة المعبد جميعهم. وهؤلاء أيضاً تميّزوا بالاختلاف. ثم عشتار باعتبارها تمثل سلطة الألوهة المؤنثة، وسيدة المعبد وطقس الزواج المقدس. و"سيدوري" التي تمتلك معرفة صافية خارج الحاضرة، يلجأ إليها كل من خرج من أوروك أو عاد إليها. فهي في مفترق طُرق، لها هويتها المتمثلة في حكمتها وقوة فعالية عقلها. فقد خاطبت جلجامش بلغة حققت سيادتها، وليست لغة مخاطبة العبد للسيّد.
ولعل "انكيدو" واحد من الهويات المعرفية الوافدة الى الحاضرة والتي تركزت في قوله "إني الأقوى، سأغير المصائر في أوروك" كما لو نه يقول "إني الأعلم" ايضاً. كل هذه الهويات أحدثت صراعاً متفاوتاً منذ دخول "انكيدو" إلى الحاضرة، مغيّراً وحتى قرار اغتياله من قبل رجال المعبد. أسفر هذا الصراع باعتدال هوية الملك، محوّلاً فكرة الخلود من خارج الإرادة الإنسانية، إلى خلق إنساني، متمثلة بما أجراه من تغييرات في سياسته في الحاضرة كملك، ملغياً فكرة الخلود الإلهي، إلى خلود بالعمل والمنجز بما يوفر الحياة الكريمة للرعايا.
حراك الهويـــة
الهوية في أبسط تعريفاتها، وحسب "جنكنز" هي التصوّر حول من نحن، ومن الآخرون. كذلك تصوّر الآخرين حول أنفسهم وحوّل من جاورهم. وهي بذلك حاصل التفاعل الإنساني. وبالتالي هي تشكيلة لها مضامين ثقافية واقتصادية وسياسية، يحرّكها شعور بالاعتزاز المفرط بالذاتية حيناً أو المعتدل العقلاني في حين آخر. وبذلك وكما يتساءل "نور الدين أفاية" هل هي شيء آخر غير رد الفعل ضد "الآخر" ونزوع حالم لتأكيد "الأنا" بصورة أقوى وأرحب؟ الجواب: هي بين بين، تتخذ صورتها وطبيعة وجودها وحراكها وفق البنى الثقافية والمعرفية المتحكمة فيها، استناداً إلى منطق التاريخ، باعتباره السند المؤكد على الدرس الموضوعي لشكل وجود "الأناويات" مقابل وجود "الأخرويات" فهو بذلك وجود يتخلله ويحرّكه الصراع الدائم في صورتيه الخفية والمعلنة. تؤجج حراكه السلبي الأحداث والاضطرابات المختلفة والتقاطعات في المجتمع. ولعل الحروب واحدة من أفعال التأجيج والتصعيد، كذلك التناحر الطبقي والقومي والاثني. من هذا يمكننا القول أن وجود هوية ما، يجري حسابها بإزاء هوية أخرى، تتفاعل معها، وتبني حراك وجودها على أساس الوجود الكلي للأفراد والجماعات. غير أن التاريخ يعكس غير هذه الصورة. فما أن غادر الإنسان الأول الفردوس المحدود العلاقات والذي هيمنت عليه العلاقة الثنائية ــ حسب أسطورة الخلق الأول ــ حتى بدأ التنافس يبتدئ بخطوات قاسية. ومن بعد ذلك لم يعد التنافس السلمي، الذي يؤكد على تقارب الجماعات سبيلاً. فالإنسان الأول داخل الكهف أكثر عقلانية بسبب محدودية علاقاته، وتلقائية نظمه اليومية. وهذا يُشير إلى أن الوجود في تعقيداته الاقتصادية خلق تعقيدات اجتماعية ومن ثم سياسية ووجودية، حيث أصبح وجود الأفراد والجماعات قلقاً، محكوماً بسلطة الآخر. فتمثيل الهوية لا يرتبط بالتفاعلات الفردية، وإنما بالمجموعات الاجتماعية الأكبر، والمنتمية إلى منظومة معينة حسب "جنكنز/ سوسيولوجيا الثقافة والهوية" أي أن الهوية توفرت على قوة الجماعة، وطبيعة سلطتها على وجود الأقلية. فالهوية تتمثل في السرديات التاريخية للجماعات، وهي إعادة تصوير يقوم بها السرد. مؤكدة بذلك على جانب المعرفة الذاتية التي تتخطى ميدان السرد. فهي أي الهوية لا تعرف ذاتها مباشرة، بل بطريقة غير مباشرة من خلال انعطاف العلامات الثقافية بجميع أنواعها. والتي يتم انتاجها استناداً إلى وساطات رمزية تنتج الفعل، ومن ضمنها المرويات اليومية حسب "بول ريكور" فنحن إزاء صراع الجماعات الاجتماعية بمكوّناتها اللاحقة في تشكيل بنيتها للحصول على هوية اجتماعية أفضل للجماعة المعنية. وهذا بطبيعة الحال مرتبط بالوعي أو عدمه، لأنه أساساً ذو علاقة بالثقافة والمعرفة. أي أنه صراع ثقافات، فالهوية تعني في أشد وجودها وفعالياتها ؛ ثقافة الفرد والجماعة. وهي ما تبني عليها تصوراتها اللاحقة في بناء المجتمع، وتشكيل الآصرة الاجتماعية ذات التشكّيلات التي تؤشر تصوراتها المتنوعة والمختلفة، لكنها متآخية. فالهويات تعني مجموع ثقافات الشعوب التي بنتها عبر تاريخها. يزداد ارتفاع تصعيدها الايجابي أو السلبي حين تتعرض هذه الهويات إلى المحو. فالجماعة حامية لمروياتها كما أكد "بول ريكور".
لقد لعبت المرويات والسرديات دوراً كبيراً في تشكيل هوية الجماعة. فهي تراكم كمي أدى إلا تراكم نوعي. وهذا يعني في مقدمة ما يعنيه، إن الصراع الفكري الذي تتبناه الجماعات على شكل كُتل وأحزاب وتنظيمات مختلفة، تعمل على تكريس الذاتي مقابل الموضوعي. وهذا حساب يركن إلى المنطق. لكنه يغدو منحرفاً عن المسار الصحيح، إذا ما رُجّحت كفة الذاتي على الموضوعي، وعدم اعتبار نتاج الوجود بوجود الجماعات، وإن البناء الصحيح إنما يأتي من المنهج المشترك. غير أن ما ينحرف عن هذه القاعدة هو خواء طرف على حساب امتلاء طرف آخر. لا سيّما لدى البلدان التي بنت وجودها ضمن حقل حساب الآخر "المحتل" كما جرى في العراق بعد 2003 وبما أتت عليه مجريات الوجود، سواء كان هذا في حساب الجانب الاجتماعي أو الاقتصادي والسياسي. إن الفوضى التي أحاطت بالمشهد اليومي، هو غلَبة الهويات المستجدة على حساب هويات أخرى. مما ولّد انحسار هويات بسبب سكون هويات أخرى حفاضاً على تاريخها، أو قمع الأخرى وضمور مشروعها. إن الصراع بين الهويات يتطلب الكفاح من أجل التعددية الثقافية، من خلال مبادئ حقوق الإنسان ضد العرقية والعنصرية مثلاً. وهذا يتوافق أكثر مع الأفكار العامّة والبنى الأخلاقية حسب "ويل كيمليكا"
إننا ونحن ننظر إلى وجود الهويات المتصارعة، سواء كان هذا الصراع سلمياً، أو يتخذ له مساراً مشوب بالعنف الاجتماعي، إنما نعني مبدئياً الاهتمام بالذاكرة التي تمنح الفرد عناصر الوعي من أجل التعبير عن هويته، قياساً إلى الجماعة التي تتحرك داخلها، ثم إلى امكانية التسامي عن هذا الحد الاجتماعي. وهذا مبدأ يسوّغ الانتماء إلى رابطة قومية مثلاً، لها مضامين ثقافية واقتصادية وسياسية. وهذا يعني خلق مناخ ومجال اجتماعي تتحاور في مداره عناصر هذا التنوع القومي والاثني. لقد سار التشكّل في وجود الجماعات والفرد على مبدأ الصراع من أجل البقاء، وكأن بقاء الذات مرهون بقمع الآخر ومحو مجمل مكوّناته. وهذا ما حصل مثلاً في الحروب التي دارت رحاها لسنين طويلة في شمال العراق والحدود الشرقية. أو اضطهاد وسبي الأقليات الاثنية جرّاء الاختلاف في المعتقد. وهي محاولة العودة إلى منطق التاريخ بكل مكوّناته، ومحاولة مراحل تاريخ المسلمين في قسر الآخرين بالقوة من أجل الدخول في الإسلام. مما ولّد نوعاً من المواربة والخدعة التاريخية. وقد شهد التاريخ القديم نوعاً من تشويهات البنى بين مكوّنات المجتمعات، وخلق هدنة مبطنة أو متكلسة لا يقاف الصراع الظاهر باتجاه توفر الفرص التاريخية للعود الأبدي حسب "مرسيا إلياد" المتمثل في عودة الجماعات والأفراد إلى مكوّناتهم الأولى كما يحصل لقوى الارهاب في تبنيها لالإسلام طريقاً وسبيلاً فكرياً وتطبيقاً.