ادب وفن

الشاعر منير النمر ظاهرة شعرية مشاكسة / جمال الناصر

في الوهلة الأولى، ينتابك التيه حين تبحر في أحرفه وموسيقاه ونكاته البلاغية التي تجعل من ضوء الشمس بوصلة، والماء في الصحراء سبيل حياة.
في ذاتها - الوهلة الأولى، يشاغبك ويستفزك، مشاكس اللغة والمعنى لعالمه الذي يصدق لنا توصيفه بـ "الانفرادية"، إنه ليس امتداد لشاعر هنا أو هناك، اختصر تجاربه و قراءاته، لتكون له اتجاهاته الخاصة .
كتب الشاعر مصطفى الكحلاوي مقالاً نقديًا في قصيدة له، قدمها بعنوان "منير النمر شاعر يمثل خط الامتداد للنواب و دنقل"، إن الكحلاوي من زاوية حالة التمرد، والذي غاب عنه لبرهة أن الشاعر له ديناميكيته الخاصة به. إن الشاعر في بدايته قد يكون متأثرًا بشاعر ما، ولكنه نتيجة خبراته وتجاربه والمران الشعري الذي يأخذه عبر أنامله، يكسبه ما يسمى " النموذج "إن الشاعر النموذج"، ليس تابعًا و إنما يمثل خط اقتداء لغيره بكونه متمكنًا من لغته و رؤيته واقتناصه اللحظة والمعنى في قصيدته الشعرية.
مشاكس، متمرد، مفردات لها دلالة إن أمعنا النظر فيها، فهي لا تمثل رفضًا للحياة أو رفضًا للحالة العشقية أو الثقافية بالضرورة . هي استشراف المأمول و إعادة هيكلة من خلال الرؤى، مشاكسة الحياة أو التمرد كما يسميه البعض، هو الرؤية المنطقية التي يناغيها الشاعر، و يسعى إلى أدلجتها من خلال المادة الشعرية، مسخرًا أحرفه في استنطاق القارئ الافتراضي بذوات المتلقي . بحق إنه يهفو متأملاً في صفع عقلية المتلقي ومشاعره، ليكون الواقع أجمل، وتكون الحالة العشقية التهاب أنفاس عشيقين أراد لهما أن يعيشا الحب بكل ألوانه وأشكاله، يعيد تأطير العادات و التقاليد بلغة صاخبة، لعلها تبدو في - الوهلة الأولى ذاتها .
وفي الوهلة الثانية، لنلقي البصر على قصيدته غير المنشورة، والتي جاءت بعنوان "بين رمشية"، حيث كتب:
أسيرُ نحوكَ.. سيرَ الريّحِ في الورقِ
ومنتهى قلقي يمشي بهِ قلقي
عيناكَ أغنيةُ الصحراء تلمسني
والعطرُ ظلَّلَهَا بالحلمِ والعبقِ
هنا، ومن خلا العنوان " بين رمشيه "، تأتي كحالة التأمل في قراء ما يبصره الشاعر، والبينية لها دلالة حالة القلق التي تنتابه، ليشاكسها بالرؤيا التي يراها . إنه يسير نحوها، نحوها تشير إلى سيرها أمامه و ليس خلفه، وهناك مفارقة ما بين الأمام والخلف، يا ترى ماهية وكيفية المسير الذي في لحظته الشعرية يمارسه، إنه يسير كالريح في الورق، الريح التي تذري الأوراق اليبسات، ليأتي الربيع . لقد كانت عيناه لحن غناء في الصحراء، الصحراء التي تمثل نقاء وصفاء و شهامة الإنسان العربي، تلمسه ولا تعانقه أو تتغلغل فيه، اللمس يجعل القارئ يستشعر أننا بعيدون عن ثقافة الصحراء، نعيشها في البعض ونفتقدها في الكثير من البعض، لتكون رؤياه من بين رمشيه كحلم معجون بالعبق، دلالة يؤكد من خلالها مصداقية رؤياه .
وشِعرُكَ الصاخبُ الإغراءِ راودني
مُوَرِّطَاً كأسيَ المنساب في "عرقي"
ورمشكَ المطرُ المنهارُ بللني
وعاد ثانيةً مستوطناً غرقي
يتجه "النمر"، لجعل جسد المرأة رمزيته الأنيقة، يأخذها بكل تفاصيلها كلوحة جمالية، منتعشة بكل أجزائها . إن تناول المرأة كجسد في النسيج الشعري تعرض لجدليات على المستوى النقدي ما بين راغب فيه وبين معارض له، ولنا في الشاعر نزار قباني مثالاً - على سبيل المثال لا الحصر -، ليصبح موضوعًا جدليًا في منتجه الشعري . هنا يبرز النمر مشاكسًا كغيره، ليدخل الجدلية ذاتها، بلله ليستوطن غرقه، يستوطن جاء بها الشاعر، ليخبرنا برفضية الواقع لها، جاء بها ليجعلها واقعًا، وإن كانت في ذاته فقط .
هذا جنون دمي لحماً يقامرُ بي..
على الغوايةِ صلّى قلبهُ النَّزِقِ
هذا رضابكَ يلهو مثل راقصةٍ
في خصرها سهرَ الإيمان للغسقِ
" في خصرها سهرَ الإيمان للغسقِ "، هنا يأتي بمفردة الإيمان، ليوحي في المتلقي مشروعية رؤياه . يقضي ليله ما بين خصرها، ما بين كينونتها كامرأة، لم يكن قاصدًا الخصر و ليونته بقدر أنه أطلقه كجزء أراد من خلاله الكل - المرأة . المعنى الذي يطلقه الفلاسفة، بقولهم : إطلاق الجزء وإرادة الكل . ما أجمل أن تكون الغواية فسحة، يتجول الشاعر فيها بحماقاته التي هي في حقيقتها ليست حماقات وإنما أرجوحة يتموسق عليها مبحرًا في خيالاته وثقافته وانتمائه إلى اللغة ككيان و طريق يعبر عنه وعن الآخر - الإنسان - .
وفي الوهلة الثالثة، يأخذنا إلى قصيدته، والتي بعنوان " قبلة ضائعة بالضوء الأحمر "، متعمقٌ فيها حد الثمالة، لا زالت رائحتها في فمي، تفيض عبقًا، هنا يغتالك الشوق لدفء الكلمات بعيدًا عن ضوضاء التعساء، فما زالت خمرة القصيدة، تتعتق في ذاتي سكرًا فسكرا . نجدف فيها بالقبلات، حين تنتشي الوهلة الأولى وصولاً إلى الثالثة لا يسعك إلا أن تشتهي التقبيل .
القبلة الأولى "ضوء أحمر"
قبلة ضائعة بالضوء الأحمر، هكذا كان عنوان قصيدته، الشاعر منير النمر، ابن بلدته العوامية الطيبة، قبلة، وماهية القبلة، و كيف لها أن تكون ضائعة ملتحفة بالأحمر من الضوء، وفي وقفة تأملية متواضعة، نهذي تواضعًا لربما أراد الشاعر العربي أن يدخلنا في علاقة عاطفية مع الأرض، مع التراب بكونها معشوقة تسافر في الغياب، لتعود إلى الغياب، وتسكن في شفتي عاشق الأرض، عاشق التراب .
الأحمر ضوء
هناك تمازجٌ لونيٌ ما بين الشفاه الحمر، والقطرات الحمر، تمازج يدلل على مدى الحياة، حالة من العنفوان متلظية الأفق والمسافات . هكذا لربما أراد لنا الشاعر بداية، أن يكون عشق الأرض - التراب -، في أسمى معانيه، حين توصيفها بقبلة ضائعة . كأنه أراد أن يتحدث عن ضياعنا نحن، عن ظمئنا نحن، عن أشواقنا وأحلامنا وعذاباتنا، عن قاموسنا الضائع في غربتنا بغربة ذواتنا .
أنثاهُ وسيمفونية الأرض - التراب
في مقطوعته الأولى قرر، قرر أن يمشي وحيدًا، كالماء التائه في الصحراء، يبحث عن وجه الدنيا، عن الحقيقة التي صلبتها قساوة الإنسان من جهة، والغباء الذي ينم عن عدم استيعابٍ للثقافة والوعي من جهة أخرى، رابطًا كل ذلك في عملية أشبه ما تكون بخط الاستواء، لتكون رؤياه امرأة تمثل مركزية لكل ما يبحث عنه، ويترجمها من خلال المرايا التي تصفف خصلات شعرها بعمقها الانعكاسي . إن دراما التضاد تمويه ما بين رفض القبيلة في قبلة حراء هائمة كرفض، لتكن الحرب، و الموت اليومي قبلته، لهذا البعد، لاشتهاء قبلة، لرفضٍ قبيلة، صير نهديها تحمل حقدًا، لماذا نهديها لا ثدييها، لأنه لربما أراد التناص مع الحرب، مع الموت اليومي، نهديها اشتعالات أتعبها الظمأ واللظى، مسافات شوقٍ لاحتراق قبلة لم تأت، لم يرد ثدييها، لأنه يمثل حالة هدوء، حنان واطمئنان لا اشتعالات ولا ظمأ، ولا يغتاله اللظى . لهذا كان الحقد الجاثم في نهديها يكتب آخر أمنيه، أمنيته كإنسانٍ يرفض كل قسوةٍ، كل عذابات الإنسان .
القبلة الثانية "موت الحب"
في مقطوعته الثانية، ويموت الحب في الأفكار الشرقية، هل أراد لنا أن نعيد ترتيب مفاهيم الحب في عالمنا الشرقي، هل استدعى أنثى نزار قباني، التي ما برحت تعيد أدلجة الحب في عيني امرأةٍ، تتلظى بالإقصاء، وتسكن غربتها كأنثى بكل ألوانها، أكان يصرخ بوجوهنا، لنعي ما تكون الأنثى، ماهية أن تكون رمزًا ضمنيًا في معنى يصفعنا كل يوم، يلهبنا بأننا لا نعرف نصفنا الآخر، وإنما كلنا بكلنا وليس النصف .
الأنثى لا ترقص جسدًا إنما تبعث الدفء، لتأتي الحياة
في مقطوعته الثالثة، إنه يصرخ، يصرخ رافضًا إقحام الأنثى في قمقم " الجنس "، كقطعة من " الشكولاته "، وإنما أرادها كما ينبغي أن تكون، شريكة حياة، مثقفة، موظفة، و كل ما ينصفها كمكون مجتمعي، يتكامل من خلالها وبين عينيها المجتمع، فهي الأم والزوجة والعشيقة .
الوحدة زاد
سيمضي وحيدًا بلا وحدة، إنه يعري مفهوم الوحدة، ليؤكد بأن العاشق لا يكون وحيدًا، وإنما أنثاه - عشقه للأرض والتراب -، لصمت التراب، لهمساته و جمالياته، سيمضي وحيدًا . الوحدة في نظر الآخر حين يبصره، و اللا وحدة حين يعبر عن أنثاه، عن العشق الذي يختزل ذاته، ليرى كل الكلمات عاجزة عن توصيفه إلا القليل، القليل من التلميح، لعلها ترمقه بلطفٍ ذات عشق .
ويستسلم أخيرًا للضياع، ضائعة كانت، وستبقى ضائعة، فلا زالت بوصلته لا تبصره إلا ما تبصر قلبه ورحه .
وأخيرًا، هنا نصٌ، يشبهنا ويكتبنا، نصٌ بعمق بلاغته جماليات بلاغية الدفتين، إلا أن الشاعر أسرف نوعًا ما في استدعاء الحالة الموسيقية، ليكتبها ربما للإلقاء، حيث أن هناك فرقٌ شاسعٌ بين القصيدة التي تكتب، لتلقى أمام المتلقي، وبين القصيدة التي تكتب، لتقرأ، وهذا تواضع ما نشعر به حقيقة، وبرأينا القاصر، لو أن الشاعر أدخلنا في قصية تقرأ بعيدًا عن الإصغاء لها، حيث تلقى، لأدخل القارئ المتأمل أكثر في النص، لينغرس متأملاً حناياه وأروقته .